لمّا تشتد الأزمات وتقسو علي الساعات يطير بي الخيال إلى ربوع الجمال وفتنة الكمال بين فصول وطني الغالي ، أسمع فيه الشذى والهدير وأغاني الرعاة قبيل غروب آخر قبلة للشمس المودعة على خذ أطيب وأجمل البلدان... حيث تشتبك أحاسيس الجمال برعشة بسمات الحنين والخرير وأنين العصفور الجريح وهدير الحمام المسكوب على صدر الغدير الباكي من لوعة الاشتياق المؤبد وحبيب شاخ في الغربة ولم يعد. في جو شاعري وعرس سمير اختلطت فيه موسيقى الطرب والألحان بسحر نبضات القوافي وروعة الأوزان... والتقاسيم الحزينة وروعة الأنغام برائحة التربة والغبار وخضرة الأرض وزغاريد بنات الدوار وعناق كؤوس النبيذ برغوة الشاي المسكر كأنها عمائم بيض على رؤوس عبيد.
إطلالة زيت أركان والزيتون وخبز الشعير وصحون العسل بالسمن المدفون تعشقها الأنفس قبل البطون ...تتخيلها العقول الراحلة عن هناك مقلة حسناء جميلة تطل من وراء الرموش الكحيلة... روائح الحناء المنبعثة من أيادي الحسناوات الساقيات ألواح زيتية من صنع الإرادة الإلهية في معرض الطبيعة الخلابة...وقلال الزيتون والسمن المعجون والعسل المخزون والكلام الموزون ومواويل الشعبي والملحون...تحفهم الذبائح المسلوخة على العتبات المعلقة في المواسم والحضرة كمشانق سماوية لشياطين كفرة .
أبخرة وروائح العود والجاوي والمسك الكولوباني وهبوب النسيم العليل المعطر بالندّ والورد والياسمين من حدائق العمر ، حيث تتراقص أجنحة الفراشات متنقلة بين الزهور بصدى صوت الهلاّل عند كل فجر .
كل الفصول في حضرة أحلى الأوطان ربيع... فما أزهى صورة أسراب الطيور الشادية في القمم وقرب الجداول... وما أبهى فرحة ألوان الزهور ونفحة الورود والحبق والريحان على طول الجداول ... حذو سيل الأنهار وسير الغدير وصوت الشلالات الجذاب إذ لا برد هناك ولا حر ...في التقاء خيوط الشمس الذهبية المطلة من بعيد على جمال الطبيعة والبشر.
نعم أنت جميل يا وطني ...ليس فقط بحُلل فصولك الباهية..أو بطبيعتك الزاهية... أو ما تحويه كتب التاريخ من بطولات أبنائك وكنوزك وتراثك الذي لا ينقطع أبد الدهر أو ينفذ.
ليس فقط فيما تتزين به الحضارة الإنسانية وتتجمّل به كتب الجغرافية حول كنوزك ومياهك .. هضابك وسهولك .. جبالك ومنحدراتك .. صحاريك وواحاتك .. لهذا أنت يا وطني تحظى بحب العشيق القريب وبودّ الصديق الغريب..وما قيمة العشق بدونك ولا الصداقة بغيرك.
ليس قطعا فيما خطّ في الأدب أو نحث في سائر الثقافات والمعارف عن عطاء شيوخك وعبقرية علمائك وسخاء أدبائك وإبداع شعرائك ... عن رساميك ونحّاتيك ... ممثليك وفنانيك، واللائحة طويلة طول عظمتك ومسافة عنفوانك... فكلما حللت بمكان أو سألت عنك في زمان كان لك صيت وكرم ومبيت يا أحسن الأوطان.
فمهما حكيت وحكيت لن أنصفك في حديث ولم أصل إلى نقطة من أعماقك بحورك ، أو حرفا من سطور مجلداتك ... فمهما قلت ومهما وصفت فلن أفي بحقك علي لأني مقصر في حقّك. ومهما كتبت ومهما رسمت فأنت أكبر من الوصف وأهم من أي سرد... فأفكاري الجياشة وأحاسيسي الذواقة وعواطفي الشاعرية تحس بينبوع جمالك الحقيقي المنبثق من أعماق قدسيتك إذ يتعذر على اللسان التعبير ، وعلى العقل التفكير وعلى القلب التخمين والتدبير حفظك الله من العين والحسد.
حظك أن تكون نعم الوطن ...تسمو في عالم علوي تسوده الأرواح وعين الله تراك...تجعل منك هذه الشعلة الربانية وتلك الأنغام الخالدة السماوية ذلك الوطن العظيم المرفرف في سماء الحرية والعبقرية.حظك أن تفدى بالأرواح وتعش حرا للأحرار تاجا فوق رأس ملك دائما ...وأي ملك في الدنيا لا يشتهي أن يكون لك ملكا ولشعبك حاكما ولرايتك حاملا ولقبلة الإيمان راعيا وخادما؟... فنعم الوطن أنت يا أجمل الأوطان.