حسن العاصي/ كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك لغاية منتصف القرن العشرين كان التدين سموحاً يسيراً معتدلاً في العالم العربي، وكانت دول الإقليم إضافة إلى الدول العربية تجتهد لبناء مؤسسات الدولة الحديثة وفق أسس ومعايير مدنية. وشهدت تلك المرحلة انتشار التعليم بصورة نسبية، وقيام الدول العربية إرسال البعثات التعليمية إلى أوروبا. تم تأسيس الجمعيات السياسية والثقافية والعلمية والأدبية في عدد من العواصم والمدن العربية، وتوسعت حركة الطباعة والصحف والنشر. انتشرت المساجد والأندية والأحزاب السياسية، فكانت الدعوة للدين تتم عبر الموعظة الحسنة من قبل الأسرة والمجتمع، والمساجد أماكن للعبادة والعلم والتعليم، ورجال الدين كانوا يسهمون في النشاط والحراك الثقافي والسياسي. لقد كانت المنطقة العربية في ذاك الوقت تشبه بقية العالم. في الربع الأخير من القرن العشرين ظهرت جماعات وحركات الإسلام السياسي التي رفضت ما أسمته “التغريب”، وعبّرت عن رغبتها في العودة إلى أمجاد الماضي. بعد وصول البرجوازية العسكرية إلى سدة الحكم في معظم الدول العربية وتحولها إلى أنظمة استبداد وقهر للشعوب، توسعت الحركات الإسلامية وقدمت نفسها كبديل بشعارات ملتبسة. ومع قرب انتهاء القرن العشرين أصبحت هذه القوى الإسلامية تمتلك امتداداً ونفوذاً فيما اصطلح على تسميته “الصحوة الإسلامية” حتى أصبحت الأقوى تنظيمياً بعد فشل المشروعين القومي واليساري. فشل المشروع السياسي الإسلامي لكن المشروع الإسلامي السياسي فشل أيضاً كبديل لأنه أخفق في إحداث مقاربات مختلفة للتراث، وفشل في قراءة الراهن العربي، ولأنه مشروع يتبنى الفكر الإقصائي ولا يقبل التعدد والمشاركة، فشعاره الشهير إما أن تكون معي أو إنك ضدي، وهذه أصبحت قاعدة فلسفة فكر الإسلام السياسي خاصة لدى الجماعات المتشددة. أثبتت التجربة التاريخية في معظم الدول العربية أن قوى الإسلام السياسي تعاني من محدودية شعاراتهم، فهم لا يمتلكون سوى شعار وحيد يتلخص بأن الإسلام هو الحل، دون أن تتمكن هذه الجماعات من تقديم وشرح رؤية واضحة في أدبياتهم حول كيفية إخراج الأمة العربية من هذا الانسداد السياسي والفشل الاقتصادي والتمزق الاجتماعي والإخفاق العلمي الحضاري، التي كان نتيجة عقود من التسلط والاستبداد والتخبط والعشوائية والفساد الإداري والمالي في معظم الدول العربية. لقد عجز الإسلام السياسي عن تطوير مشروع سياسي يخاطب عقول الناس، ولا يتوجه نحو غرائزهم وعواطفهم الدينية، ويكون موجهاً لجميع المواطنين وليس فقط لمناصريهم، خطاب يتبنى مشاريع تنموية لتطوير كافة قطاعات المجتمع والدولة وليس خطاباً للتعبئة والدعاية، خطاب وشعارات تدعوا إلى التسامح والمحبة والتعايش بين الأعراق والأديان والمذاهب والطوائف، ولا يدعوا إلى الكراهية والإقصاء والتناحر والصراعات الإثنية. لم تهتم جماعات الإسلام السياسي لا بمحاربة فساد الأنظمة ولا عملت على تكريس مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان وبناء الدولة المدنية التي يتساوى فيها جميع المواطنين بالواجبات والحقوق. كل ما فعلته هذه الجماعات هي محاولتهم تغيير أنماط المجتمعات العربية والتركيز على الهوية، وأهملوا كافة القطاعات الأخرى، فوجدوا أنفسهم يعومون في بركة مغلقة أدت إلى تداعيات أمنية خطيرة وانهيارات اقتصادية، كان المواطن العربي هو أول ضحاياها. من أبرز الأسباب التي تقف خلف الفشل السياسي لهذه الجماعات يظهر غياب الخبرة في العمل السياسي وإدارة شؤون المجتمع، فلا تكفي الشعارات وحدها لإدارة الدول. ثم بروز حالة الغرور والاستعلاء والعنجهية التي طبعت تفكير ورؤية وسلوك ومواقف قادة هذه الجماعات ومعظم كوادرها، والاستخفاف بالآخرين واستصغارهم، حيث اعتقدوا بغباء أنهم يمتلكون الحقائق المطلقة وحدهم. أيضاً من الأسباب هو نكث هؤلاء لعهودهم وشعاراتهم التي قطعوها على أنفسهم ووعدوا بها الجماهير. ولكل من يشير إلى التجربة التركية الناجحة أقول إن تركيا دولة علمانية مدنية بدستورها وقوانينها ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإن حكمها حزب سياسي ذو توجه إسلامي. علينا أن نعلم أن من أهم أسباب نجاح النموذج التركي هو إدراكهم المبكر أن إدارة الدولة شأن دنيوي تركه الله للعقل والتدبير البشري يديره بحسب الأزمنة والأمكنة. لكن ما يحث عليه الدين في شؤون الحكم هو إقامة العدل والشورى، وهي وإن كانت أمراً ثابتاً إلا أنها تتغير من عصر لآخر. تحولات دينية خطيرة هذا الفشل والسقوط للإسلام السياسي في الواقع الحقيقي الراهن عربياً، جعلها تلجأ إلى الإنترنت، حيث قامت جميع المنظمات وجماعات الإسلام المتشدد بتوظيف العالم الافتراضي بصورة واسعة ومعقدة، إن كان لغايات دعائية وتعبوية وتواصلية، أو لأهداف تنظيمية تشمل تحريك وإعادة هيكلة المجموعات كافة بسرعة قياسية. ثم تم تطوير هذه التكنولوجيا لتتحول إلى تقنيات قتالية تضمن سرعة وفاعلية التمويل للوجستي لهذه المنظمات. أيضاً تعتبر هذه المنصات في العالم الافتراضي خزاناً لرفد المجموعات المتطرفة بنهر لا ينضب من المقاتلين الجدد على امتداد الجغرافية الكونية، ويمكن اعتبارها كذلك أعشاش وأوكار لتبييض الأعضاء والمنتسبين الجدد وللمتعاطفين مع هذه الأفكار المتشددة والذين لا يرغبون في الانتساب الحزبي أو في مشاركة قتالية حقيقية. هذا التوظيف لمنجزات الثورة الرقمية في الغرب من قبل مجموعات سياسية ودينية متطرفة يضعنا أمام سؤال وتحدي كبير وهام حول حقيقة وطبيعة ونوعية وشكل التحولات والتغيرات التي تحدث في الدين الإسلامي وفي علاقة الدين بالمؤمنين. إننا نعتقد أن منابع ومرجعيات الدين الإسلامي كنصوص وممارسات، أخذت تتحول من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، لذلك نستطيع القول إنه أصبح لدينا ليس فقط إسلام النصوص أو إسلام التاريخ، بل صار لدنيا أيضاً إسلام افتراضي يديره ويشرف على خطابه إسلاميون متشددون متطرفون لا يقبلون بأي نقد ولا أية ملاحظة ولا يرتضون وجود أية فكر مخالف. لذلك فقد أضحى الدين الوسطي المعتدل بكافة مقدساته وعباداته مقيداً بأيديولوجية عصبية حزبية متزمتة ينشرها رجال دين يتسلحون بفكر متصلب لا يقبل المرونة ولا السيولة ويرفض الحوار مع الآخر، قاموا بتحويل منصات التواصل الاجتماعي وبقية التطبيقات الذكية إلى ميدان قتال لخوض صراعات وحروب، بل وصل الأمر حد قيام هذه المجموعات المتطرفة في إحداث مقابر افتراضية للمجاهدين المسلمين الذين قضوا في المعارك القتالية. المفارقة المرعبة هنا أن جميع هؤلاء الإسلاميون المتشددون قد عانوا الويلات والأمرين من استبداد بعض الأنظمة العربية، حيث جرى اقصاءهم وتهميشهم وعدم السماح لهم بالمشاركة السياسية ولا العمل العلني، وقامت هذه الأنظمة بزج هؤلاء الإسلاميون في السجون والمعتقلات لسنوات عديدة، وحين انتقل البعض منهم إلى دول غربية ديمقراطية وفرت لهم القوانين في مكانهم الجديد بعض الحرية ليقولوا ما يشاؤون، أصبحوا يمارسون الإقصاء والقمع الفكري الذي كانوا يعانون منه، وهذا دليل دامغ وبيان جازم وبرهان حاسم وحجة قاطعة على النفاق الفكري والاجتماعي والثقافي الذي تمارسه هذه الفئات والجماعات والفرق، في استخدامها الدين والتدين والشعارات الإسلامية لتحقيق مآرب سياسية ومنفعية لا علاقة لها بالإسلام والعبادات. الدانمرك نموذجاً كان الدفاع عن المسلمين ومصالحهم في الدانمرك مبرر تشكلها وتأسيسها، أصبح تكفير غالبية المسلمين هو معتقدها، وصار خطاب التطرف ما يميزها، ورفض وإقصاء كل من يختلف معها وسيلتها للاستمرار. إنها جماعات ومنظمات وأحزاب الإسلام السياسي المتطرف الذين باتوا يشكلون ظاهرة خطيرة تتفاقم وتستخدم خطاب الغلو والتشدد. “تعاونوا على البر والتقوى” و”أنت تسأل ونحن نستفيد” هذه العناوين ليست لكتب أو لبرامج تلفزيونية، بل هما اسمان لمجموعتين في برنامج التواصل والمحادثة الشهير “واتساب”. المجموعتين تضمان رجال دين وأئمة متشددين وأعضاء متطرفون سلفيون معظمهم يقطنون في الدانمرك وبهما منتسبون من السويدوألمانيا واسبانيا وإيطاليا وبريطانيا والمغرب ومصر وموريتانيا ولبنان وسورية والسعودية واليمن، ويدير هاتين المجموعتين ويشرف عليمها بصورة رئيسية المتطرف الإسلامي السوري المقيم في الدانمرك المقاتل السابق في صفوف حركة الإخوان المسلمين قبل أن ينفصل عنهم ويعمل “لحسابه الخاص” “م. ا” المكنى الشيخ أبو بشار، وكذلك الشيخ المغربي “م. خ” الداعية المؤسس. لقد تمكنت هذه المنظمات والجماعات الإسلامية المتشددة من دس أفكارها في العديد من المجتمعات العربية والغربية، واستطاعت التأثير على شريحة واسعة من الشباب في الدانمرك. فقد أسهم العالم الافتراضي ومنصات التواصل الاجتماعي في إجراء مقاربات افتراضية وتبادلها عبر شبكة الانترنت، وهو من أفضل الأسلحة التي تلجأ لها المجموعات المتطرفة، التي تقوم بتحويل العالم الافتراضي إلى منصات ومنابر لترويج أفكارها المتشددة في هذه المواقع، أو عبر التطبيقات الذكية الأخرى، وتحويل شبكة الانترنت برمتها إلى مجموعة من المنتديات الفكرية والأيديولوجية المتفرقة. يمتلك الدعاة والمشايخ والأئمة المتعصبون الكلمة الفصل في هذه المجموعات، حيث يقومون بطرح أفكارهم المتطرفة وتصوراتهم ومقارباتهم التي في مجملها تتضمن العنف والتشدد والمغالاة والشطط الفكري، ونشر الثقافة المذهبية والتشجيع على تبنى الخطاب العنصري لدى الشباب المسلم، ومحاربة الأفكار المعتدلة، وإقصاء المخالفين في الرأي. كثير من الدراسات الاجتماعية والأمنية توصلت إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الذكية الأخرى مثل برامج المحادثة، كان لها الدور الأكبر في التأثير على آلاف الشباب المسلم من مختلف البلدان، وخاصة في الدول الغربية ومنها الدانمرك، والزج بهم في محارق الإرهاب عبر خطاب الكراهية التي تتبناه هذه المجموعات، وبواسطة الأفكار المغلقة التي تخاطب عواطف الشباب وحماسهم ووجدانهم الديني، ولا تخاطب عقولهم. ولهذا السبب أقدمت عدة دول غربية قبل حوالي الشهرين على الإعلان عن ضرورة عقد قمة أوروبية تجمع القادة السياسيين ورؤساء شركات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، بهدف التصدي ووقف استخدام المجموعات المتطرفة لهذه المنصات كوسيلة لترويج الفكر المتطرف والتشدد الديني كما تفعل المجموعتين سابقتا الذكر. ومن أبرز المخاطر التي تترتب على نشاط وخطاب هذه المجموعات الإسلامية المتشددة هو ظهور خطاب يميني متشدد في الشارع الدنماركي كرد فعل على أفكار وشعارات الحركات الإسلامية التي يعتبرها اليمين الغربي تهديد للثقافة الغربية والدولة المدنية. إن الفكر الذي تروج له بعض المجموعات الإسلامية المتزمتة أدى إلى انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا في الدنمارك ودول الغرب عامة، ومنح الأحزاب اليمينية الدنماركية والأوروبية ذريعة للهجوم على المسلمين والمهاجرين، وتوظيف خوف المواطنين الغربيين المتزايد من الوفدين من دول إسلامية في العملية الانتخابية. سياسي لا ديني إن الخطاب الذي تحاول جماعات الإسلام السياسي فرضه وتقديمه كخطاب بديل عن خطاب النهضة والديمقراطية ودولة المواطنة والتنوير وحرية الرأي، في الواقع هو خطاب سياسي بامتياز يرتدي عباءة دينية مذهبية طائفية بغيضة. ومحاولة هذه المنظمات والمجموعات الدينية والدعاة المتشددين إظهار أنهم لا يبتغون سوى نشر الدين ومرضاة الخالق، لهو تدليس على الله قبل كل شيء وتضليل للعباد لأنهم أصحاب مشروع سياسي واضح المعالم، فهم يدعون إلى التغيير عبر النموذج السلفي المتشدد فقط من خلال تبني الأيديولوجية المتطرفة، وذلك خدمة لمصالح وأهداف جهات محددة، ولم تحاول معظم هذه الحركات خاصة الراديكالية منها أن تتبنى أفكاراً موضوعية وواقعية لتخليص الإنسان العربي من ظلم وقهر أنظمة الاستبداد العربية، ولم تنادي بالديمقراطية ولا بدولة المواطنة ولا تهتم بالنهضة الاقتصادية، ويخلو خطابها من مضامين حداثية، ذلك أن أهداف هذه الحركات والجماعات وكل اهتمامها لا يتعدى تحقيق مشروعها السياسي الديني المتمثل في إعادة إقامة دولة الخلافة الإسلامية حتى في المجتمعات الغربية، ورفض كافة الأفكار الأخرى وجميع الصيغ والأشكال لمشاريع دول وطنية أو قومية أو ديمقراطية حديثة، إذ عكس الداعي أبو بشار هذه الفكرة بأوضح معانيها حين ذكر أن كافة الأفكار البعثية والناصرية والقومية والعلمانية واليسارية والليبرالية مكانها “تحت الأقدام”. هذا الأمر يؤكد أن هذه الجماعات توظف الدين والشعارات الإسلامية كي تحول التناقض والصراع الاجتماعي الاقتصادي إلى تناحر ديني مذهبي طائفي، وإفراغه من مضامينه الموضوعية الطبقية الاجتماعية المنطقية التي يكابدها الفرد العربي بصفة يومية، ودفعه نحو مربع الانشغال الديني الغيبي، وهي هنا تقدم خدمة للغرب الاستعماري ولرأس المال المالي العالمي الذي لا يتناقض خطابه مع خطاب هذه الجماعات حقيقة. تسطيح ملتبس يتسلح أصحاب الفكر الإسلامي المتشدد بحجة أن العلمانية كفكر ودولة وشعار وتطبيق وممارسة قد ظهرت ونشأت في القارة الأوروبية لأسباب تتعلق بالحروب الدينية والصراعات بين الأفكار التنويرية والكنيسة، ويرى هؤلاء أن هذا لا ينطبق على المجتمعات الإسلامية. لكن هذا التفسير والتسطيح والتبسيط الملتبس يتجاهل حقيقة أن كلا المؤسستين السياسية والدينية تسعيان للاستحواذ على السلطة. إن الوصول للحكم كان الحقيقة الوحيدة تاريخياً في كافة الامبراطوريات والدول التي قامت، وأن الاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين، وسيادة العقل الاحتكاري الذي يقوم على الفكر الواحد والزعيم الواحد هو السبب الرئيسي في ظهور الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي، وكذلك السبب في انهيار هذه الدول والامبراطوريات. لقد ارتبط على الدوام الاستبداد الديني بالاستبداد السياسي. كما أن نفوذ وقوة وسلطة رجال الدين في الإسلام لم تكن أبداً أقل شأناً ولا أخف حدّة ولا أبسط سلطة من نفوذ رجال الدين في الكنيسة، كما أن الأقصاء الديني واضطهاد الملل وقتل المخالفين وحرق الفلاسفة والعلماء والقمع الفكري في التاريخ الإسلامي لم يكن أقل منه في التاريخ المسيحي. ليس الإسلام سبباً إن أزمة الدول العربية والإسلامية التي دفعت هؤلاء المتطرفين إلى القدوم لدول الاتحاد الأوروبي ومنها الدانمرك، ليست أزمة ناتجة عن الثقافة السياسية الإسلامية، لكنها أعراض فاجعة لمعظم الدول ذات الاقتصاديات الناشئة والتي يعيش فيها الجهل والتخلف والأمية والبطالة والفقر مع التدين الشعبي وبعض مظاهر التطور والحداثة. إن الإسلام ليس سبباً للبؤس والشقاء الذي تعيشه معظم الشعوب العربية، ولا علاقة للإسلام بالمحن المتعددة التي يعاني منها العرب والمسلمون، لكن الكارثة المرعبة في فكر وسلوك الأحزاب وقوى الإسلام السياسي المتطرف الذين يقدمون قراءات سلفية متشددة، وكأن التاريخ والتراث عبارة عن صناديق كرتونية مرصوفة فوق الرفوف، وكل ما علينا هو تنظيفها من غبار السنين قبل استخدامها. وفيما تكيفت معظم الأنظمة العربية مع المتغيرات الدولية وأظهرت قدرة على احتواء ظاهرة الإسلام السياسي، وضبطها كحركة معارضة، بل أن بعض هذه الأنظمة نافست الحركات الإسلامية على رعاية الدين والتدين، مما بلور واحداً من عدة أسباب أدت إلى أفشال كافة مشاريع الجماعات الإسلامية، حيث أخفق الإسلام السياسي فكراً وممارسة وخطاباً في تقديم الحلول التي اتهم التيار القومي واليساري بعجزهم عن تحقيقها. عجز هو الآخر وفشل مشروعه، فانتقل بعض أعضاء هذه المنظمات إلى تشكيل مجموعات مذهبية قبلية طائفية، وتحول جهاد هذه الجماعات من أجل مجتمعها وناسها كما في السابق، إلى جهاد في أبناء مجتمعهم ذاته وتهجيره وتكفيره، كما تفعل المجموعات المتشددة في الدانمرك وأوروبا، فيما عاد قسم منهم إلى أحضان التيارات السلفية التي بقيت تراوح في مكانها، وتجمد خطابها وتوقف اجتهادها منذ مئتي عام. هذه المجموعات لم تستطيع تجاوز النصوص التي وضعتها المؤسسة السلفية الأولى، ولم تتمكن من تطوير فكرها ولا تجديده، واقتصر نشاطها على طباعة كتيبات مواعظ وتفاسير مقتبسة من كتب الفقهاء، وعجزت حتى عن تقديم فلسفة جديدة سياسية لمفهوم الدولة الإسلامية التي تسعى لإقامتها. على الرغم من أن الحركات الإسلامية قد ملأت فراغاً أحدثه فشل المشروعين القومي واليساري وتراجع دورهما وانحسار مكانتهما وسط الجماهير، إلا أن الإسلاميون رفعوا شعارات لا يتشارك معهم بها أحد. إذا كان الإسلام السياسي ظهر نتيجة تطور تاريخي يرتبط بصورة شائكة بتزايد نفوذ الدولة المستبدة التي مارست الإقصاء والتهميش للجماعات الإسلامية، فإن السؤال الكبير سوف يظل عن دور الدين في الحياة العامة. ولهذا فإن الإجابة على هذا السؤال سوف تحدد مستقبل حركات الإسلام السياسي المرتبط بطريقة جدلية بالقضايا الكبيرة التي تعني الدول العربية والإسلامية وشعوبهما. تحرك أمني أوروبي في ظل عصر المعلوماتية أصبحت الشبكة العنكبوتية أحد أهم أسلحة الإرهاب الفكري الرقمي، حيث خدمت هذه الشبكة الجماعات المتطرفة لبث سمومها وحقدها وأفكارها المتصلبة، بحيث بلغ عدد هذه المواقع التي تروح الأيديولوجية المتشددة حوالي 4500 موقع في لألمانيا وحدها، وبضع مئات في الدانمرك. لقد بدأت في الأعوام القليلة المنصرمة أجهزة الاستخبارات الغربية في العديد من الدول الأوروبية تركيزها على مراقبة حركات وجماعات الإسلام السياسي، ومكافحة الفكر الإسلامي المتشدد، حيث أن دول القارة تقع في مرمى نيران المتطرفين والمتشددين الإسلاميين، وأصبحت ظاهرة الإرهاب تحظى بأولوية لدى هذه الأجهزة الأمنية، خاصة بعد سلسلة الهجمات التي تعرضت لها بعض المدن الأوروبية. وأوضحت دراسة صدرت عن مكتب حماية الدستور في ألمانيا العام 2014 وهو جهاز استخباراتي أنه سوف تظل جماعات الإسلام السياسي تحت المراقبة، حتى تلك التي لا تمارس العنف، وأن السبيل الوحيد لمكافحة التشدد والتطرف والإرهاب عابر القارات هو تنسيق وتوحيد الجهود الأمنية داخل دول الاتحاد الأوروبي وخارجه. كما تُجري الحكومة الفرنسية مشاورات مع رجال دين مسلمين حول استحداث قوانين جديدة لمكافحة التطرف الفكري في صفوف بعض المسلمين المقيمين بفرنسا. كما تواجه بريطانيا المزيد من التهديدات حيث تتزايد المخاوف الأمنية من نشاط المجموعات المتطرفة، وفي تقرير أصدرته مؤسسة “بوليس اكستغينغ” العام 2017 بعنوان “حرب الانترنت الجديدة” يتضح حجم الخطر الذي تشكله هذه الجماعات في الفضاء الالكتروني. وأشار التقرير أن بريطانيا في المرتبة الخامسة من حيث نشاط ونشر المحتويات والأفكار المتشددة في الأنترنت. ومن المعلوم أن دول الاتحاد الأوروبي تستفيد من البيانات والمعلومات التي تحصل عليها من بريطانيا، وفق اتفاق “العيون الخمس” لتبادل المعلومات بين بريطانيا والولايات المتحدةالأمريكية وكندا وأستراليا ونيوزيلاندا. وفي تقارير أوروبية أخرى تمت الإشارة إلى أن حوالي ثلثي الهجمات الإرهابية “76 في المئة” نفذها أفراد كانوا ضمن مجموعات تروج للفكر المتطرف عبر الانترنت. ولهذا السبب قامت الشرطة الأوروبية “يوروبول” بإنشاء مشروع “افحص الانترنت” لتبادل المعلومات حول نشاط الجماعات المتطرفة لمواجهة الفكر المتشدد التي تؤدي إلى أعمال إرهابية. إن مواجهة خطر نفوذ التشدد والتطرف والغلو والكراهية والعنصرية في شبكة الإنترنت، من قبل كافة العقلاء والمنظمات المدنية والمؤسسات الرسمية، والذي أصبح يكتسح أفكار الشباب بواسطة خطاب دعائي ولغة تحريضية مقيتة وأساليب تدغدغ وجدانهم الديني، بات شأناً ملحاً ليس في الدانمرك وحدها، ولا في الغرب، بل في العالم أجمع، خاصة في منصات التواصل الاجتماعي.