يعتبر جهاز القضاء اللبنة الأساسية للحكم،ومحورا أساسيا في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية ،اذ يعتبر من ركائز دولة الحق والقانون ومرتكزات التنمية وأداة تحقيق التقدم . وهذا ما جعله يحتل مكانة متميزة في إطار أولويات الإصلاحات والاوراش الكبرى التي تمت بلورتها من خلال الخطابات الملكية . ومن هذا المنطلق أعطى صاحب الجلالة الملك محمد السادس باعتباره أمير المؤمنين اهتماما دائما في جل الخطابات الموجهة للشعب المغربي من خلال حثه على ضرورة الإسراع في إصلاح القضاء ومن ثم ترسيخ دعائم دولة الحق والقانون . وعلى غرار ذلك سبق للملك محمد السادس أن أطلق مبادرة الإقرار بميثاق وطني للقضاء بمناسبة مرور 50 سنة على تأسيس المجلس الأعلى للقضاء ،واعتبرت هذه المبادرة مطلبا مشروعا لمواكبة الانتقال الديمقراطي وحضي بإجماع كل الفاعلين والمتدخلين . وقد تمخض عن تقييم حصيلة سنوات صيغ إصلاحات مختلفة ومتعددة أفضت جميعها إلى نتائج لم ترق في مجملها إلى طموح يجعل القضاء رافعة لدولة الحق والمؤسسات وسيادة القانون وتحفيز الاستثمار والتنمية، إلى أن أطلق الملك في خطابه لثورة الملك والشعب إستراتيجية إصلاح منظومة العدالة ،وذلك كطريق ومنهجية محددة في الزمن عبر تحديد الأسس الناجعة لإصلاح العدالة،من باب تعزيز دور القضاء ودعم استقلاليته في الدستور الحداثي الجديد ل2011. لهذا كان الخطاب السامي لصاحب الجلالة كخارطة طريق أو بالتعبير العام استند إلى إستراتيجية محددة المعالم المتطلبة في أي إستراتيجية مقترحة أو بديلة : - فكر + أسس + توقيت + أهداف + آفاق - - بالإضافة إلى التوفق في اختيار الوسيلة الابلغ والأجدى بين كافة الوسائل المتاحة للوصول إلى الهدف العام .
وبذلك فقد رسم صاحب الجلالة السمات الكبرى لإستراتيجية إصلاح العدالة وهو ما سنحاول إبرازه من خلال الخطاب الملكي السامي و ذلك من خلال أهم النقط الكبرى التي جاءت في الخطاب أولا : أسس إستراتيجية إصلاح العدالة في خطاب صاحب الجلالة
انبنت إستراتيجية إلاصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة ككل دون الاقتصار على فئة معينة في خطاب الملك محمد السادس على أسس وركائز لطرح إستراتيجية حكيمة تستند إلى مقومات الحكامة الجيدة فضلا عن الاجتهاد وفق إلاطار المرجعي الدستوري المعتمد كأحد واهم المقومات الأساسية للدولة المغربية ناهيك عن تعزيز انفتاح الدولة على المنظومة الدولية سيما في ظل ما تعرفه المملكة من انفتاح حضاري وهو الشيئ الذي يستدعي تأهيل مقومات عدالة بناءة ، وقد جاءت هذه الأسس في إستراتيجية الخطاب الملكي على الشكل التالي : 1 - وضوح المرجعية : انطلقت استرتيجية إصلاح العدالة من تحديد إطار الاشتغال وفق أساس الدولة المغربية وثوابتها التي لا تقبل المساس و المناقشة أو التفاوض اذ تعتبر من قبيل النظام العام الرئيسي :وهي الدين الإسلامي ، المؤسسة الملكية ، والوحدة الترابية وسمو الدستور كأعلى قانون في البلاد [i] وباعتبار أن المملكة المغربية دولة إسلامية كغيرها من الدول [ii]التي تعتمد المرجعية الدينية أساسا لمؤسساتها وتربط بذلك بين الدين والدولة ومن ثم تتأسس فكرة ارتباط الشعب بالحاكم عن طريق البيعة كأمير للمؤمنين، وقد نصت الفقرة الثانية من الفصل الثاني من الدستور 2011 على أن *تستند الأمة في حياتها العامة على ثوابث جامعة تتمثل في الدين الإسلامي السمح والوحدة الوطنية متعددة الروافد والملكية الدستورية * هذا وينص الفصل الثالث من نفس الدستور على أن الإسلام دين الدولة ولما كان القضاء يعتبر من وظائف الإمامة .فان إستراتيجية إصلاح العدالة لابد أن تكون واضحة المرجعية في ما يخص إطارها سواء التشريعي أو التنظيمي أو الاقتراحي وكدا من باب الإيمان الراسخ أن الملك هو المؤتمن على ضمان استقلال السلطة القضائية . 2-طموح الأهداف:
من بين الأهداف الرئيسية التي تروم من خلالها تصور مضبوط يرتكز ويرتكز لبلوغ العدالة تنظيرا و تفعيلا في إستراتيجية إصلاح العدالة وفق الخطاب السامي هي :
1- توطيد الثقة والمصداقية : من بين أول الأهداف الإستراتيجية التي توخها الخطاب التوجيهي لصاحب الجلالة الخاص بإصلاح العدالة هي مفهوم توطيد الثقة في القضاء المستقل والنزيه والفعال ،،ويعد مفهوم الثقة والمصداقية من المفاهيم المهمة التي تكررت في عدة خطب لصاحب الجلالة لما أصبح يشهده المجتمع من اتساع فجوة الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع ،وهذا الهدف الهام يشير الى وجود توافق في الآراء فيما بين أفراد المجتمع حول فساد القضاء وعلى القبول الضمني للمجتمع به ،وهو ما يجب أن يتصدى له كل فرد بالمجتمع وبإرادة أكيدة من الدولة من خلال شبكة العلاقات التفاعلية والترسانة القانوينة والهياكل التدبيرية . فتوليد الثقة والمصداقية في القضاء سيولد مباشرة ظروف مواتية لتحقيق التكامل الاجتماعي والاستقرار الديمقراطي . ثانيا : المحاور والآليات الرئيسية لتفعيل الإستراتيجية
مما لاريب فيه أن تحقيق العدالة المنشودة لا يتحقق فقط بمجرد حبر على ورق وإنما يستدعي توفر مجموعة من الضمانات والآليات الناجعة والمدروسة تنظيرا وممارسة ولتحقيق مساعي الإستراتجية خصص صاحب الجلالة في الخطاب السامي لإصلاح العدالة محاور محددة لإستراتيجية الإصلاح . 1- دعم ضمانات الاستقلالية يعتبر استقلال القضاء الهاجس الاول الذي يؤرق المواطن بصفة عامة واسرة القضاء بصفة خاصة ،بالنظر الى صعوبة تحقيقه في شموليته ،اذ يظل هو الملاذ الذي يلجأ اليه لتحقيق العدالة وخدمة الصالح العام . لقد نص دستور المملكة في الفصل 107 من الباب السابع من دستور 2011 ولأول مرة على استقلالية القضاء فنص في مقتضياته على ان السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية على أساس ان الملك هو الضامن لاستقلاله وقد نص الفصل 108 على انه لا يعزل قضاة الأحكام ولا ينقلون الا بمقتضى القانون أضاف الفصل 109 على انه يمتع كل تذخل في عمل القضاء والقضايا المعروضة على القضاء ولا يتلقى القاضي بشان مهمته القضائية اية أوامر ولعل ما قد يحسب للمشرع وللاجتهاد التشريعي هو الاعتراف للجهاز القضائي بسلطة مستقلة تحت رقابة قبلية لإمام الأمة في إطار تحقيق الاستقلالية ولضمان ذلك حرص الملك على تأسيس هيئة خاصة لذلك . 2- تحديث المنظومة القانونية إن تفعيل هذا الأساس ينبني على ضرورة ايجاد ميكانيزمات تقنية بالدرجة الأولى من خلال تأهيل الأطر القضائية والمؤسسات المساعدة لذلك هذا وتعزيز الترسانة القانونية بما في ذلك قوانين الموضوع والقوانين الإجرائية . كون أن تخليق منظومة القضاء مرتبط بتخليق العدالة الذي يجب أن تستند على مرجعية وطنية ودولية مع اعتماد آليات للعمل تقوم بالأساس على إشراك جميع المتدخلين في منظومة العدالة و كذا القطاعات الحكومية المعنية وهيئات المهنية و الجمعوية والنقابية و وسائل الإعلام، و أن تجديد المنظومة القانونية تشكل مدخلا أساسيا لتحديث منظومة العدالة ، مما يستلزم ضرورة إصلاح منظومة العدالة ككل، وليس القضاء فقط، ، بمعنى يجب تخليق جميع قطاعات الدولة . 3- تأهيل الموارد البشرية أن أي إصلاح لابد أن ينطلق من الأسرة ليشمل كل شرائح المجتمع وهياكله ،كون أن إصلاح القضاء لا يمكن أن يتم إلا بتخليق القضاء و أن القاضي هو محور هذه الإصلاحات و المؤثر على صون كرامة الأشخاص و الساهر على تنفيذ القانون الذي لا يتحقق إلا بقاضي متجرد من كل الشبهات و يتصف بالنزاهة و الاستقامة ، ليكتسب ثقة الناس و إشاعة وتطبيق العدل بينهم لتخليق الحياة العامة و البناء الديمقراطي و توطيد الاستقرار الاجتماعي و التنمية الاقتصادية و الاجتماعية ، باعتبار القضاء العادل ملاذا لصون الحقوق و حماية الحريات وضمان ممارستها الفعلية وتحقيق الأمن القضائي و الالتزام بسيادة القانون وترسيخ الثقة الكفيلة بالتحفيز على المبادرة و الاستثمار..... وتأهيل الموارد البشرية لا يقتصر فعلا على القاضي وحدة بل ينصب التأهيل على كل موظف بوزارة العدل وكل مهنة مرتبطة بالعدل . 4- الرفع من النجاعة القضائية النجاعة القضائية تمثل السلوك الأمثل لاتخاذ المساطر الاسرع لتحقيق العدالة ، أي تعتبر الطريق السريع لانهاء الخصومة ،ووفق قواعد قانونية عادلة . باعتبار إصلاح القضاء مسألة أساسية لتفعيل مفهوم الحكامة و إصلاح العدالة في الوطن ، فأنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا بإصلاح حقيقي للقضاء والاجهزة المساعدة له ،على أساس الاقتناع بأنه لا قضاء مستقل بدون ديمقراطية ولا ديمقراطية بدون قضاء مستقل وعادل ،وبذلك تتحقق النجاعة حسب ما ذهب إليه خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله . 5- تخليق القضاء وتحصينه أن تخليق منظومة القضاء تعتبر المدخل الحقيقي لتخليق الحياة العامة نظرا للدور المحوري الذي تلعبه السلطة القضائية في ضمان شفافية أداء باقي الوظائف داخل الدولة و كذا حماية الأمن القضائي بجميع تجلياته ، كون أن إصلاح القضاء يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية ورغبة أكيدة في التغير وتخطيط مسبق وهذا ما أكد عليه صاحب الجلالة . فالفساد موجود في مكونات المنظومة جميعها، حيث أن المواطن يجد الفساد مستشريا في كل مجالات الحياة ووصل حتى إلى القضاء وكتابة الضبط والمفوضين القضائيين والخبراء ومهنة المحاماة ...، لا بد أولا من استعادة ثقة المواطن الذي يجب أن يرى أشياء ملموسة وليس فقط نظريات و شعارات فضفاضة ترفع في كل وقت وحين، ولهذا فمن أجل تحقيق العدالة يجب أن يكون لكل شخص الحق في محاكمة عادلة و حقوق الدفاع مضمونة ومحكمة مستقلة و محايدة و أن تكون الأحكام الصادرة عن القضاء ملزمة للجميع وتنفذ على الجميع ، وهذا المعنى تم ذكره في مجموعة من الخطب الملكية السامية .
من كل ما سبق بسطه أعلاه ، يتبين لنا أن خطاب صاحب الجلالة ل20 غشت 2009 لم يكن مجرد خطاب عادي أو موجه أو مرشد فقط ، بل كان خطاب استراتيجيا بامتياز لما تناوله في مضمونه من مصطلحات اعتبرت من بين المفاهيم الحداثية الديمقراطية في القضاء ،ولما كان له السبق في ترسيخ المفهوم العام لاستقلالية القضاء وبوصفها سلطة ، وكذا الانتقال من الخاص للعام عبر توسيع دائرة الإصلاح من إصلاح القضاء إلى إصلاح العدالة ، وأهم ما يميز هذا الخطاب أنه جاء ليعطي انطلاقة مخطط مضبوط وواضح وعميق ومحدد من حيث المحاور والمدة الزمنية لتنزيله على أرض الواقع مع تحديد اختصاص الإشراف عليه وهيكلتها. فهو خطاب استراتيجي بامتياز يشمل على كل العناصر المتطلبة للرؤية الإستراتيجية للتخطيط على المدى القريب والمتوسط والبعيد وهذا ما جعلنا نسمي موضوعنا بإستراتيجية إصلاح العدالة في خطاب صاحب الجلالة .