عبد العزيز كوكاس* فتيان وفتيات قادهم الحلم إلى تجاوز التوافقات لخلق تغيير جذر من هم هؤلاء السنونو الذين بشَّرت حركتهم بالربيع الديمقراطي؟ من هم هؤلاء الفبرايريون الذين أسقطوا كل أشكال العجز والكُساح عن الشعب المغربي، وأبدعوا قيمهم وشعاراتهم ورموزهم الخاصة بأحلامهم وبمتطلبات واقعهم؟ كيف نهض هذا الشباب الذي ظل الحزبيون يسمونهم باللامبالاة والسلبية في التعاطي مع واقعهم وبالعزوف السياسي؟ من أين جاؤوا بهذه القدرة السحرية على العمل المنظم والإرادة المستقلة وقادوا ثورة هادئة نظيفة في واقعنا السياسي وفي مسار الحراك الاجتماعي؟ هل نبتوا بيننا من فراغ، على حين غرَّة؟ كيف هزموا كل هذا السكون السياسي بشكل أنيق وتكيَّفوا مع تطورات الواقع وما يَحْبُل به من مستجدات؟ الملف التالي محاولة في قراءة خصائص حركة "20 فبراير". في السياسة كما في الحياة العامة أو الخاصة، المشاكل وحدها تورث، أما الحلول فتبدع وتبتكر حسب تبدل الأحوال والسياقات، هو ذا ما أبانت عَنْه حركة "20 فبراير" بمختلف مشاربها وحساسياتها، لقد ابتدع الشباب رموزهم وشعاراتهم الخاصة في ظل تحرك الشارع العربي، الذي نقل رُهاب الخوف من قاعدة النظام السياسي إلى قمة هرمه.. شباب تتراوح أعمارهم بين 18 سنة و30 سنة، إنهم شهود عيان على مرحلة التقويم الهيكلي التي شهدها المغرب منذ بداية الثمانينيات، ضحايا غياب التنمية والعدالة الاجتماعية وانكسار أحلام التغيير الجذري في المغرب، جيل وُلد في زمن الخيبات السياسية، في قمة مجد النظام السياسي برمزية إدريس البصري وزير أم الوزارات.. جلُّهم من أبناء الطبقات الوسطى التي حوَّلت، بعد انكسار أحلامها في الثورة والإصلاح، كل جهدها إلى الاستثمار في أبنائها عبر تعليم شبه عمومي أو خاص، وعمل جمعوي على واجهات المجتمع المدني، في بعده الحقوقي خاصة... لذلك كانوا أبدع خلف لأحبط سلف! تغريد الطائر السجين.. بُكاء "20 فبراير"، هي حركة احتجاجية وُلدت في سياق التحول الذي هبَّ على البلدان العربية، انطلقت شرارته من تونس ومصر ومسَّ لهيبه أرجاء واسعة من الوطن العربي، وهي على السياق المحلي نتيجة الاحتباس الذي حصل في المشهد السياسي بالمغرب بسبب تمييع اللعبة السياسية وفقدان المواطنين الثقة في كل مؤسسات الدولة من صناديق الاقتراع إلى البرلمان والمجالس المنتخبة والحكومة والإعلام العمومي، وضعف النخب السياسية التي ارتهنت للعبة التوافقات مع الحكم ولحماية مصالحها الخاصة وتحويل العمل الحزبي النقابي إلى آلية للارتقاء الاجتماعي.. وبعد اتضاح أن السلطة السياسية لم ترد الذهاب إلى أبعد مدى من الانفتاح السياسي وتحقيق انتقال ديمقراطي حقيقي. انطلقت حركة 20 فبراير من النقاش ضمن مجموعات التواصل الاجتماعي على صفحات "الفايسبوك"، تقاسموا الرأي والأحلام في أرض بلا جغرافيا وعالم بلا خرائط، حملوا شعاراتهم ورموزهم بعيداً عن وصاية الآباء السياسيين ورقابة الأمن.. وفجأة أعلنوا عن مسيرة 27 فبراير، فبدأ التشكيك في هوية هؤلاء الشباب لتزامن التاريخ مع ذكرى تأسيس جبهة بوليساريو، وتم الاتفاق على "20 فبراير" الذي كان ميلاد إحدى عضوات الحركة (انظر "المشعل" عدد 269).. كانت ردة فعل العديد من الأحزاب ذات اتجاه محافظ، هناك من استهجن "طيش" الشباب، وآخرون اعتبروا "20 فبراير" حركة لقيطة، نظراً لطبيعة النظام الأبوي وقيمه التي تحكم بنية السلطة في المغرب، وبدأنا نسمع تعاليق سياسيين حول شعارات شباب 20 فبراير من مثل: "آش تايفهموا في السياسة"، "جَاوْ في زمن الرخا وملِّي ولات السياسة ما تدَّخلش للحبس.." لسبب بسيط هو أن مطالب هذه الحركة تجاوزت بشكل كبير سقف مطالب جل الأحزاب التي ارتهنت إلى وضع "الستاتيكو" وأصبحت تستمد شرعيتها من الحكم لا من صناديق الاقتراع أو سيادة الأمة من جهة، ومن جهة أخرى لأن حركة 20 فبراير لم تفرز بطبيعتها زعماء، آباء يتحدثون بإسمها! لحركة 20 فبراير جذور في هذه الأرض "20 فبراير" كحركة للاحتجاج الإيجابي ساهمت في قلب موازين القوى وأنضجت شروط انتقال ديمقراطي حقيقي لا مجازي، هي حركة أصيلة للتغيير لا الإصلاح الترقيعي وديمقراطية نقطة نقطة "Goute à goute"، رفعت شعار تغيير الدستور، وتوسيع صلاحيات البرلمان، وحكومة باختصاصات واسعة وانتخابات شفافة ونزيهة.. إنها ليست حركة لقيطة، إذ نجد لها امتداداً يضرب بجذوره في بدايات القرن الماضي في تربة هذا البلد، مع حركية جيل جديد من الشباب نادى بإصلاحات سياسية على عهد المولى عبد الحفيظ، حيث اقترح أول دستور متكامل للمملكة عام 1908، لنقرأ ما كتبه صحافي في جريدة "لسان المغرب" غداة تقديم هذه الوثيقة الدستورية في أكتوبر التي نشرت في أربعة أعداد متتالية 1908، ولكم أن تقارنوا بين مطالب شباب حركة 20 فبراير اليوم وحركية الشباب المغربي قبل الاحتلال، يقول صاحب المقال: "بما أن الوقت قد دعا إلى الإصلاح، والشبيبة العصرية قد هلَّلت قلوبها وانشرحت صدورها له، وجلالة سلطاننا الجديد (مولاي حفيظ) يعرف لزومه، فنحن لا نأْلوا جهداً في المناداة بطلبه على صفحات الجرائد من جلالته، وهو يعلم أننا ما قلَّدناه ببيعتنا، واخترناه لإمامتنا، وخطبنا وده رغبة منَّا وطوعاً من غير أن يجْلب علينا بخيل ولا رجال، إلا أملا في أن ينقذنا من وَهْدة السقوط التي أوصلنا إليها الجهل والاستبداد، فعلى جلالته أن يحقق رجاءنا، وأن يبرهن للكل على أهليته، ومقدرته على ترقية شعبه وعلى رغبته في الإصلاح، وجدَارته بإرادة ما قلَّدته أمته(...) وعليه فلا مناص ولا محيد لجلالته أن يمنح أمته نعمة الدستور ومجلس النواب وإعطاءها حرية العمل والفكر لتقوم بإصلاح بلادها، اقتداء بدول الدنيا الحاضرة المسلمة والمسيحية"، فما أشبه الأمس باليوم! أليس هذا عمق ما طالبت به حركة 20 فبراير: "وضع دستور يضمن سيادة الشعب ويقر فصل السلط ويسعى إلى إقامة نظام برلماني ديمقراطي يرتكز على القطع مع نظام الحكم الفردي؟ أليس هو نفسه ما ورد في دفتر مطالب الشعب عام 1934، ووثيقة 11 يناير 1944 للمطالبة بالاستقلال والديمقراطية؟ أليس هو نفسه ما ظلت الحركة الاتحادية ومختلف قوى اليسار تناضل من أجله من الكتلة الوطنية إلى الكتلة الديمقراطية؟ إن ربيع 20 فبراير مستنبت في هذه الأرض، له جذور عميقة يتنفس في مناخها ويتغذى من تربتها، وليس قطعا حركة لقيطة أو تخدم أجندات خارجية أو مجرد نسخة للثورات العربية. فرادة وتميز الفبرايريين عديدة هي خصائص حركة 20 فبراير التي أضفت على المغرب بعد "الثورة الهادئة" في ظل تعامل إيجابي نسبيا للسلطات العليا مع مطالب التغيير حتى الآن، نستعرض هنا أهم ما أعطى للحركة فرادتها وتميزها في ساحة الفعل السياسي: 1- حركة بدون زعيم: بالأمس في ظل تخلف النظام الحزبي بالمغرب الذي لم يسمح بدوران النخب وتناوب الأجيال كان يتم قتل الإبن لصالح استمرارية الأب/ الزعيم سلطة وقِيَماً.. لقد قلبت حركة 20 فبراير، الآية إذ تم القتل الرمزي للأب، فلم تنجب حركية الشباب، زعيما ناطقا بإسمها، إنها كتلة جماعية تُعرف برموزها وشعاراتها أكثر من أب يمثلها ويختزل مطالبها، لذلك بدت عصيَّة على الضبط والترويض من طرف الأجهزة الاستخباراتية كما الآباء الحزبيين، لأنه لا وصي على الحركة، ولا بطل لها. 2- نساء ورجال: على خلاف الصورة النمطية التي لا تخلو من تحقير ومحاولة التشويش الأخلاقي على صورة النساء المناضلات في الأحزاب الديمقراطية وهيئات المجتمع المدني باعتبارهن مجموعة من الفاشلات في حياتهن الزوجية أو الخائبات العانسات، ظهرت فتيات جميلات، يحتفين بجمال أنوثتهن ويظهرن بكامل أناقتهن، ليس خلف الرجل، بل أمامه أو بجانبه في كل التظاهرات التي دعت إليها حركة 20 فبراير، خاصة في الحواضر الكبرى للمملكة، إن المرأة هنا فاعل مبادر وليست مجرد تابع، على شاكلة "وراء كل رجل عظيم امرأة". 3- موت الإيديولوجيا: لأول مرة يتوحد في التظاهرات التي عرفتها جل المدن والقرى المغربية: العلماني والأصولي، العروبي والأمازيغي، القاعدي والعدلي، أصدقاء الحريف إلى جانب أبناء ياسين.. إنها ثورة بدون إيديولوجيا عمياء، لذلك استقطبت إليها كل الحساسيات حتى من شبيبات الأحزاب المشاركة في الحكومة، وضمت بين صفوفها كل الفئات العمرية من أمينة بوغالبي وعزيز إدامين ونجيب شوقي إلى محمد بن سعيد آيت يدر ومحمد الساسي والفنان بزيز ومن خديجة الرياضي إلى ...؟؟!! لذلك تحولت من حركة شباب إلى حراك شعبي تساهم فيه كل الفئات الاجتماعية. 4- ثورة بأقل الخسائر الممكنة: إن حركية 20 فبراير تجسد ذلك التراكم الإيجابي لنضالات الشعب المغربي عبر عقود، فهي لم تبرُز من عدم كالفطر ولم توجد في فراغ، لذلك احتضنها الكل، حتى أولئك الذين تضايقوا في البدء من منافستها لهم وخشيتهم من مضايقاتها لهم على مستوى مونوبول الإنتاج الرمزي لقيم النضال.. وشجع سقف مطالب الحركة العالي جدا، الذي يتغيى إحداث تغيير جذري وشامل في النظام السياسي المغربي في اتجاه الديمقراطية والتنمية والتقدم بالتفاف كل القوى ذات المصلحة في التغيير حول مطالبها، لذلك يمكن اعتبارها ثورة هادئة تتم بأقل الخسارات الممكنة، لأنها فرضت على السلطة السياسية، التي لا يمكن أن يُنكر أحد بأنها تعاملت بذكاء وحس سياسي جد عالي، فرضت عليها الاصطفاف إلى جانب مطالبها في التغيير. 5- النقاش قبل الحراك: لأول مرة في تاريخ المغرب، المواطنون يصنعون السياسة بأنفسهم، فلا إضراب في الكواليس، ولا قرار سياسي للانتفاضة بخلفيات غير واضحة، ولا رسائل سياسية مع النظام، ولا ترميز سري للإشارات، إن كل هذا الحراك الاجتماعي قام به مغاربة على صفحات الفايسبوك أو في مقرات الأحزاب أو الجمعيات المدنية التي وضعت مقراتها وأدواتها اللوجستيكية رهن إشارة شباب حركة "20 فبراير"، كل حركية في الشارع تبتدئ بالنقاش الواسع على صفحات "الفايسوك" و"التويتر".. إن الجيل الجديد يتخذ مشعل المبادرة، بدءاً بالاقتراح والتنظيم والشعارات والرموز... 6- ثورة سلمية ولغة شفافة: أهم ما ميز تظاهرات حركة "20 فبراير"، وباستثناء ذلك الأحد الأسود بالبيضاء يوم 13 مارس، والانزلاقات التي عرفتها مدن مثل الحسيمة، مراكش، خريبكة، فاس، العرائش، طنجة.. فإن جل تظاهرات شباب حركة "20 فبراير" مرت في أجواء سلمية، مع التأكيد على التعاطي الإيجابي للسلطات العمومية مع أغلب المسيرات التي لم تقع فيها انزلاقات تذكر، كانت مظاهرات أنيقة برائحة عطور النساء الأنيقات، وبراءة حلم الشباب في التغيير والحق في العيش في مغرب الكرامة، الحرية، الديمقراطية والتنوع.. مظاهرات نظيفة بوشم الورد الذي كان يوزعه الفبرايريون رفقة ابتسامتهم المشرقة على أفراد القوات العمومية في الساحات العامة بالرباط ليلة تظاهرات 30 مارس.. كانت الشعارات واضحة تتكلم بتلقائية وتسمي الأشياء بمسمياتها دون أي رتوش، مطالبها واضحة وشفافة، كل متظاهر فيها كان يشكل مؤسسة صحافية متنقلة تتبع الخروقات والانتهاكات، ترصد الشعارات والرموز، وتعمم كل شيء على صفحات التواصل الاجتماعي الذي حقق السبق الصحافي الذي لم تواكبه شاشات التلفزيون. 7- اختزال الزمن وتلحيم النسيج الاجتماعي: من أهم مميزات حركة الشباب المغربي، هي أنها اختزلت زمن التغيير، لقد احتجنا إلى خمسين سنة من الاستقلال لتكون لنا مدونة أسرة، وديوان المظالم ومجلس استشاري لحقوق الإنسان، ومصادقة المغرب على العديد من الاتفاقيات الدولية، واسترجاع المغاربة للشارع العام عبر جعله فضاء لممارسة حرياتهم وتجريب حقهم في التظاهر، وتحويله إلى آلية للعمل السياسي خارج الأمكنة الحزبية والنقابية، ومجالا لتبليغ رسائلهم المكثفة إلى من يهمهم الأمر.. لكن مع حركة "20 فبراير"، فجأة استفقنا على تظاهرات غير عنيفة أنتجت تغييراً سريعاً: حراك سياسي، نضج النسيج الاجتماعي في التعبير عن نفسه وتنظيم مطالبه وإبداع أشكال إيصال رسائله بلغة واضحة شفيفة ومركزة، خطاب ملكي استثنائي في تاريخ الخطب الملكية، إقرار باعتراف دستوري بالهوية الوطنية، حوار اجتماعي يتغيى سلماً اجتماعيا، استجابة ملفتة للنظر لمطالب الدكاترة المعطلين.. لقد استطاع شباب 20 فبراير العبور بسلام من العالم الافتراضي إلى الواقع الاجتماعي. 8- حركة ليست ملكاً لأحد: لم تُنتج حركة 20 فبراير زعيما، لكن أجمل ما فيها، هو تواضعها أمام الإنجازات التي حققتها، لأن طموحها، رغم واقعيته، فهو أشبه بحلم بالنسبة لعموم المغاربة، اعتمد على وسائل حديثة، ورموز طريفة وشعارات واضحة بدون خلفيات إيديولوجية عميقة، تراوحت بين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كل هذا لا يمكن إسناده إلى فاعل سياسي محدد، كما لو أننا أمام حركة هُلامية تجد حلم انتقال المجتمع المغربي من التقليد إلى الحداثة.. مقابل ذلك، لم تر الحركة في نفسها بديلا عن الأحزاب السياسيات والإطارات الجماهيرية، وإنما فتحت حواراً هادئا معها، وتلقت دعمها، وأنضجت إرادتها الواعية في الرفع من مطلب إنشاء تعاقدات جديدة في المجتمع تهم مختلف الفاعلين في المركز السياسي كما في هوامشه.