بعد افتتاحه الدورة الأولى من الولاية التشريعية العاشرة للبرلمان يوم الجمعة 14 أكتوبر2016، وفي انتظار إنهاء بنكيران المعين مجددا رئيسا للحكومة مشاوراته مع قادة الأحزاب السياسية، بخصوص تشكيل حكومة جديدة، اعتبارا لتصدر حزبه "العدالة والتنمية" نتائج تشريعيات السابع من أكتوبر، استقل الملك محمد السادس طائرته يوم الثلاثاء 18 أكتوبر، وحلق عاليا في جولة غير مسبوقة لشرق إفريقيا صوب ثلاث محطات: رواندا، تنزانيا وإثيوبيا، سعيا إلى تعزيز أواصر الصداقة وترسيخ أسس التعاون المشترك، للدفع بعجلة التنمية في اتجاه تحقيق الازدهار والاستقرار. وهي في ذات الوقت مناسبة مواتية، لتذليل الصعاب أمام قرار المغرب بالعودة إلى حضن عائلته المؤسسية بالاتحاد الإفريقي، قطع الطريق على الأعداء وخصوم الوحدة الترابية، وإعطاء درس ثمين في الوطنية للمسؤولين ببلادنا، ليدركوا جيدا أن الانتماء للوطن، ليس مجرد شعارات براقة وخطب جوفاء أو تحقيق مآرب شخصية وحزبية ضيقة، وإنما هو أسلوب حياة وإحساس بجسامة المسؤولية، وشعور عميق بحب الوطن، من خلال الانضباط والجدية وقيم الأخلاق والإخلاص المستمر في العمل وسرعة الإنجاز، من أجل المصلحة العليا للبلاد، توفير العيش الكريم للمواطنين وتمتيعهم بحقوق المواطنة. فمنذ تنصيبه ملكا في 30 يوليوز 1999 خلفا لوالده الراحل الحسن الثاني رحمه الله، وهو في رحلة تفكير وتدبير، وفتح أوراش البناء والتعمير، يجوب أرجاء البلاد طولا وعرضا من طنجة إلى لكويرة، دون كلل ولا ملل، قصد إطلاق مشاريع تنموية ذات صبغة سوسيو اقتصادية وجهوية، والسفر إلى الخارج في زيارات عمل متواصلة، لتحسين العلاقات الدبلوماسية مع البلدان الشقيقة والصديقة بمختلف القارات، حفاظا على صورة ومكانة المغرب التواق إلى إرساء الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. وبحكمته المعهودة وتبصره الدائم، اجتاز بنجاح نادر وباهر الكثير من العراقيل، خاصة في وقت تهاوت من حوله صروح رؤساء دول تاريخيين، إبان ثورات ما عرف ب"الربيع العربي"، وبفضل رباطة الجأش وخطاب 9 مارس 2011 الخالد، الاستفتاء على دستور متقدم في فاتح يوليوز 2011، وتنظيم انتخابات برلمانية سابقة لأوانها يوم 25 نونبر 2011، استطاع أن يجعل المغرب ينعم بالاستقرار، في ظل محيط إقليمي مضطرب وملتهب. بيد أنه موازاة مع ذلك، هناك أشخاص كثيرون ممن أنيطت بهم مسؤولية إدارة الشأن العام، يخلون بواجبهم الوطني في صيانة الأمانة، ولا يقيمون وزنا للثقة الممنوحة إليهم سواء من قبل رؤسائهم المباشرين أو المواطنين أثناء الانتخابات، ولا يولون أدنى اعتبار لمهامهم ووظائفهم، صغيرة كانت أم كبيرة، لانعدام الوازع الأخلاقي والحس الوطني بحجم المسؤولية. وبات الفساد بكل ألوانه منتشرا بيننا، في الاستحقاقات الانتخابية والإدارات العمومية والقطاع الخاص أيضا. طال الغش شتى مناحي الحياة العامة، في المواد الغذائية كما خلال الامتحانات الإشهادية. ومع حلول كل موسم انتخابي، ينشط منعدمو الضمير من السماسرة، حيث تكثر المتاجرة بأصوات الناخبين الفقراء، دغدغة العواطف والتلاعب بعقول البسطاء، أمام الحياد السلبي للسلطة… فضلا عن منح الأحزاب السياسية على اختلاف مرجعياتها الفكرية، التزكية لغير مستحقيها من المقربين والأقارب والأعيان والكائنات الانتخابية، عوض المناضلين الحقيقيين من ذوي الكفاءة والاستقامة والخبرة، حتى صار مجلس النواب ينعت ب"دار الورثة"، بعدما غزته الأسر والعائلات. وكثيرا ما تسند المناصب لغير المؤهلين من تحت الطاولة، بناء على الرشوة والمحسوبية والقرابة والانتماء الحزبي والنقابي، خارج منطق المباريات وتكافؤ الفرص، وهو ما أدى إلى ما نراه من ضعف في الأداء وظلم وابتزاز وتملص الموظفين صغارا وكبارا من مسؤولياتهم، وتفشي الفساد الإداري والمالي في سائر القطاعات: التعليم، الصحة، العدل والأمن… لعدم تفعيل آليات الضبط والمراقبة، الحكامة وربط المسؤولية بالمحاسبة. مما ساهم في إعاقة التنمية وانعكس سلبا على الاقتصاد الوطني، فاتسعت دائرة الفوارق الاجتماعية والمجالية، ارتفعت نسبة الفقر والهشاشة والأمية والبطالة، وأصبح المغرب يتصدر قائمة الدول، التي تعاني من استفحال ظاهرة الرشوة. مضى الآن حوالي 17 سنة على اعتلاء الملك عرش أسلافه، أشرف خلالها على تنصيب حكومات، وجعل من خطبه دروسا في الوطنية ونبراسا لتجاوز النقائص، استثمار الإيجابيات وتعزيز المكتسبات، غير أن أعضاء هذه الحكومات المتعاقبة ومعهم البرلمانيون، لا يحسنون عدا استنزاف ميزانيات الدولة، عبر الأجور والتعويضات المرتفعة والامتيازات ومنح التقاعد… ولم يستطيعوا القيام بتخليق الحياة العامة والتصدي لمظاهر الانحراف واستغلال النفوذ، بل منهم من شارك في تكريس الفساد وإثارة الفضائح الإدارية والمالية والأخلاقية… وقد كشفت لنا تقارير المجالس والمنظمات الوطنية والدولية، جزء مما يجري من اختلالات فادحة وفاضحة، لوجود بيئة سياسية واقتصادية وثقافية فاسدة، أمام ضعف المؤسسات المكلفة بردع السلوكات المنحرفة، وغياب استقلالية القضاء وإنفاذ القوانين بدون تمييز بين المتورطين. والغريب، أنه كلما كثر الحديث عن الفساد، ورفعت الشعارات المنادية بإسقاطه، إلا وازداد قوة وتوغلا في المجتمع. وأيا كانت مكونات الحكومة المرتقبة، التي سيعهد إليها بتدبير الشأن العام في المرحلة القادمة، فهل بمقدور الذين سيحظون بالمثول بين يدي الملك لأداء قسم الاستوزار، تمثل الأبعاد السامية لذلك القسم وما يحمله من معاني الصدق والأمانة والإخلاص، باعتباره التزاما أخلاقيا وميثاق شرف، يلزم صاحبه بحسن إدارة مهامه بكفاءة عالية وغيرة وطنية، دون الإساءة إلى منصبه حيال الإغراءات والأطماع، ويعمل ربانها بنكيران هذه المرة على التكفير عن سيئات ولايته السابقة، وتلبية انتظارات الشعب؟ اسماعيل الحلوتي