تحول الحق في ولوج العلاج إلى متاهة من أبرز علاماتها أن المصاب بالمرض يتحول إلى فريسة لا تكفي ثروته وحدها لتأمين علاجه، بل يحتاج كذلك إلى معارف كفأة ونزيهة لعله يحظى بالعناية التي يستحقها كمريض. فمع أن القطاعين العام والخاص يتوفران على مصالح مسايرة لمتطلبات العصر، سواء على مستوى الموارد البشرية أو على مستوى التجهيزات، فإن هذه المصالح تنطبق عليها مقولة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. القاعدة هي أن «السياسة الصحية» إن جازت تسميتها كذلك، توفر ترسانة قانونية وعددا لا يحصى من المديريات والمصالح الصحية، ولكنها لا توفر الإطار الذي يخول للمريض الحق في العلاج بكلفة تساير مستوى المعيشة وتراعي معدلات الكلفة المعمول بها في الدول التي يمكن مقارنتها بالمغرب. ومع أن المتضرر غالباً ما يصب غضبه على مخاطبه من ممرضين وأطباء وباعة في الصيدليات، فإن تعدد المشاكل وحدتها ما هو في الواقع إلا نتاج علاقات التحايل على القانون، وترسيخ سياسة الخضوع للأمر الواقع التي يمارسها المتحكمون في القطاع. إن معدل حصة كلفة العلاج من مجموع نفقات الأسر لا يزال ضعيفا بالمغرب، مقارنة مع العديد من دول المنطقة التي ينتمي إليها،ومن باب المقارنة فإن معدل الاستهلاك الفردي من الأدوية يقدر في المغرب بحوالي 300 درهم في السنة، بينما يصل في فرنسا مثلا إلى 6000 درهم وكأن معدل الدخل الفردي في فرنسا يضاعف نظيره في المغرب ب20 مرة، وإذا كان هذا الضعف ناتجاً عن ارتفاع نسبة المحرومين من الحق في العلاج، فإن بلوغ معدل 300 درهم ما كان ليتحقق لولا أن أسعار الأدوية فاقت في غلائها كل ما يمكن أن يخطر بالبال، وهذا الغلاء رصدته إحصائيات المنظمة العالمية للصحة التي أفادت بأن النفقات الصحية في المغرب بلغت سنة 2007 حوالي 33.2 مليار درهم، وقد تحمل منها المرضى ما يقارب 57 في المائة في حين تحملت الدولة حصة 26 في المائة والباقي البالغ 17 في المائة تحملته أنظمة التغطية الصحية. في نفس السياق أفادت الإحصائيات المتوفرة عن سنة 2008 أن نفقات الأدوية بالمغرب، دون احتساب نفقات المصحات والمستشفيات العسكرية، بلغت أكثر من 12.25 مليار درهم ومن هذا المجموع روجت الصيدليات الخاصة حوالي 11 مليار درهم في حين بلغت حصة المستشفيات العمومية 750 مليون درهم وحصة المراكز الاستشفائية 150 مليون درهم وحصة الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي مليون درهم. وحتى لا ندخل في متاهات تعدد العوامل المتسببة في تحويل قطاع الصحة إلى تجارة اغتنى منها البعض إلى حد الثراء الفاحش، على حساب الوضع الصحي العام وعلى حساب صحة ومداخيل المواطنين، فإننا سنركز في هذا الملف على مجموعة من القضايا المرتبطة بقطاع الأدوية والتي لم يتناولها التقرير الذي أعدته المجموعة المنبثقة عن لجنة المالية بالبرلمان (انظر عدد 9319 من الاتحاد الاشتراكي بتاريخ 5 نونبر 2009) من الناحية القانونية، فإن كل الأدوية خاضعة لإلزامية تثبيت سعر البيع للعموم على كل علبة، وهذا السعر يحدد وفق مسطرة يكون فيها لوزارة الصحة دور حاسم، ومن هذا المنطلق فإن من مسؤوليات الوزارة التوفر على ما يكفي من الأطر للتأكد من مدى مطابقة الأدوية للمعايير الصحية العالمية ومن تحديد سعر البيع للعموم. فحتى لو كان المصنع أو المستورد جشعاً إلى أبعد حد، فإن الوزارة تتوفر على الآليات التي تمكن من إقرار سعر يراعي مصالح كل الأطراف من مصنع ومستورد وموزع بالجملة وموزع بالتقسيط. وحتى إذا ما تشبث الصانع والمستورد بأسعار مرتفعة، فإن الدولة تتوفر على ما يكفي من الآليات لاستيراد حاجيات السوق بنفس الأسعار المعمول بها على المستوى الدولي.فغلاء الأدوية هو أولا وقبل كل شيء مسؤولية الوزارة الوصية قبل أن يكون مسِؤولية المصنعين والمستوردين والموزعين. فرض المنطق التجاري السائد في سوق الأدوية الخضوع لعلاقات تجعل من خرق القانون، ظاهرة تساهم فيها حتى المؤسسات العمومية وشبه العمومية، فمع أن عدد الصيادلة ارتفع بشكل صار معه من الصعب العثور على محل تجاري يخضع لقانون البعد الجغرافي الذي يمنع فتح صيدلية جديدة، ما لم تكن تبعد عن أقرب صيدلية لها بما لا يقل عن 300 متر، فإن العديد من المستشفيات والمصحات العمومية منها والخصوصية تتولى بنفسها بيع الأدوية للمرضى، مستغنية بذلك عن خدمات الصيدلي التي يعتبرها المشرع أساسية في العلاقات المنظمة لتسويق الأدوية، وتبعات هذا الخرق لا تقف عند حدود المنافسة غير المشروعة مع الصيادلة ، بل تتعداها لتصل في بعض المؤسسات إلى حد استخلاص أضعاف ثمن الدواء لأنها تفرض على كل مريض تناول من الدواء حبة أو جرعة واحدة أن يؤدي ثمن العلبة بأكملها. وكما أن المستشفيات والمصحات تتطاول على اختصاصات الصيادلة، فإن الصيادلة بدورهم يتطاولون على اختصاصات الأطباء، إذ باسم النصح ومساعدة الفقراء يبيعون الأدوية دون وصفة طبية. وما دام أنهم يبحثون عن تحقيق أكبر ربح ممكن، فإنهم يفضلون النصح بشراء الأدوية الغالية.