«هكذا عهدنا أسلافنا وعرفنا من تاريخهم المجيد أنهم لا يرضون الخضوع والمسكنة، ولا يبتغون من الحياة إلا أن يعيشوا أحرارا ويموتوا أحرارا». . محمد بن عبد الكريم الخطابي تلك هي كلمة الافتتاح التي رصعت أعلى الصفحة الأولى من جريدة «أنوال» التي صدرت في مثل هذا اليوم (15 نونبر) منذ ثلاثين سنة خلت.. كلمة تختزل دوافع إصدار جريدة بهذا الإسم الخالد في الذاكرة الوطنية: أن نعيش أحرارا.. وأن نصل الماضي بالحاضر: ماضي «أسلافنا» المجاهدين الأماجد في مقاومة القهر والاذلال، وحاضر النضال المتواصل من أجل الديمقراطية والحرية وحقوق المواطنة الكاملة. «نزل» علينا العدد الأول «بردا وسلاما» وغمرنا فرحا وأملا ونحن زهرات محشوة في زنازن سجن مكناسة الزيتون، مدنا صدور «أنوال» بقوة إضافية في مقاومة شروط الاعتقال اللاإنسانية، وبمزيد من الإصرار على مواجهة الأسوأ بصمود، استلهاما لروح أنوال الملحمة الخالدة.. ولكلمة قائدها المشار إليها أعلاه.. وبدأنا نعد شهور السجن بالصدور الشهري لكل عدد.. ونعد الاعداد الجيد لتسلم نسخة منه في غفلة عن عيون الحراس.. كانت النسخة الواحدة من «أنوال» تطوف لأسابيع على زنازن العنبر.. وفي كل زنزانة تعقد ليالي القراءة الجماعية للعدد.. تليها مناقشات مفتوحة بين رفاق 23 مارس حول موضوعات العدد: (كالوعي الديمقراطي فالوعي المتأخر مناقشات للنزعة العدمية الوطنية وقضايا وموضوعات أخرى فكرية وسياسية...) وحول الخطوة القادمة نحو الخروج إلى العلنية وبينهم وبين رفاق الفصائل الأخرى التي ارتاب أغلبها من هذه الخطوة.. واعتبروها مزيدا من الوغل يمينا..!! وفي شهر مارس 1980 كان الافراج (السراح المؤقت) لتبدأ رحلتي الفعلية مع «أنوال» وتستمر على امتداد محطاتها المختلفة: شهرية فنصف شهرية فأسبوعية فيومية.. هذا الى جانب إصدار «أنوال الثقافي» الأسبوعي.. ودفاتر أنوال الاقتصادية... إلخ.. كبرت «أنوال».. وصار الحلم واقعا.. والطموح امتدادا جماهيريا وشعبيا.. كبرت «أنوال» في عيون النخب السياسية والثقافية... واحتلت مكانة وحضورا قويا في حقل الصحافة الوطنية التقدمية.. وهي تكبر، كبر في حضنها جيل من المناضلين خريجي السجون (والجامعات أيضا) والعائدين من المنافي الذين أطروا وقادوا بتفان ونكران ذات، هذه التجربة منذ انطلاقتها.. في ظروف سياسية صعبة.. وشروط مادية اشد صعوبة... لا مجال للتفصيل فيها هنا... في قراءة للدوافع التي كانت وراء اصدار جريدة أنوال، كما حددتها أول افتتاحية (رأينا) نجد بانها - وبعد مرور ثلاثين سنة - مازالت صالحة ومطلوبة اليوم رغم التحولات والمكتسبات المحققة في نضالنا الديمقراطي.. هذه الدوافع يمكن استحضارها الآن كالتالي: 1- تقوية الرباط الجدلي بين نضالنا من أجل التحرر الوطني ونضالنا على الصعيد القومي، خاصة بعد الذي أصاب الأمة العربية إثر خروج مصر من دائرة الصراع ضد اسرائيل وتوقيعها لمعاهدة كامب ديفيد من جهة، وبعد تصعيد الجزائر لمخططها العدواني التفتيتي لوحدة المغرب الترابية من جهة ثانية. 2- في النضال من أجل استكمال الوحدة الترابية، ومن أجل الديمقراطية والتغيير الاقتصادي والاجتماعي الى جانب كل القوى الديمقراطية الأخرى. 3- إعادة الاعتبار للفكر والحوار النظريين ووضعهما في مكانهما الطبيعي والحيوي كرافعة للممارسة السياسية العقلانية والتحديثية... 4- الإعلاء مما اعتبر في الثقافة السياسية الكلاسيكية مجرد هوامش كحقوق المواطنة وحرية المرأة والدفاع عن حقوق الإنسان.. والعمل في اتجاه تشكيل كتلة جماهيرية واسعة لتحقيق شروط نهضة شاملة ثقافية وسياسية واجتماعية في مواجهة التأخر والتعبية. هذه هي العناوين الكبرى للخط الفكري والسياسي - وبالتالي التحريري لجريدة أنوال.. والتي نجد لها ترجمتها الإعلامية والصحفية في كل عدد من اعدادها، وفي كل باب من أبوابها وصفحة من صفحاتها.. ومع إطفاء كل شمعة.. كانت أنوال تزداد انتشارا وحضورا أقوى في الساحة السياسية والثقافية.. «استقطبت» أقلام المثقفين من كل التخصصات، ومن مختلف الأقطار العربية خاصة بعد صدور أنوال الثقافي، الأسبوعية المستقلة سنة 1984.. وفتحت صفحات قارة للدفاع عن المعتقلين السياسيين بنشر بياناتهم وتغطية محاكماتهم، ومتابعة اضراباتهم عن الطعام.. كما خصصت حيزا وافر للأدب والإبداع الى جانب الفكر والحوار النظريين. وهكذا خصصت صفحات أسبوعية للمسرح والتشكيل والسينما والنقد التلفزيوني سهر عليها مختصون في هذه المجالات وغيرها.. هذا اضافة الى نشر ندوات تعقدها هيئة التحرير شهريا.. وفي هذا الإطار كانت أنوال السباقة الى عقد ندوة بعنوان «اليسار والحركات الإسلامية»، ضمت أطرا من اليسار الماركسي وأطرا من الإسلاميين البارزين اليوم في الساحتين السياسية والثقافية. بعد ثلاثين سنة مرت على أول عدد.. ما أحوج حقلنا الصحفي اليوم الى تقليب صفحات أنوال التي ظلت وفية لدوافع صدورها طيلة سبع عشرة سنة.. قبل ذلك التوقف الاضطراري.. المأساوي.. وما أحوجنا أيضا الى «تفكير» دوافع الصدور في ضوء متغيرات ومعطيات الراهن.. وفي ضوء وضعية اخلاقيات الممارسة الصحفية الحالية... تتزاحم في دواخلي،، وذاكرتي، وبكثير من الحنين.. والألم، لحظات.. ووقائع من مسار جريدة اسمها أنوال... صنعها مناضلون..مازالوا يقتفون أثرها.. ويبقى المهم ألا ننسى، فالبلاد في حاجة إلى كامل ذاكرتها الوطنية، وهي تحاول وبصعوبة تجاوز عقبات الانتقال نحو الديمقراطية والوحدة والتحديث الشامل... عضو المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي