القضاء والمجتمع المدني لقد حاولنا بإيجاز فيما سبق التطرق للمجتمع المدني حديثاً بإشكاليته الحالية ومهامه في المرحلة الراهنة على أن ذلك لا يعني أن المجتمع المدني المغربي في حد ذاته كنسق فكري هو وليد اليوم، ولا ملامح له في تاريخ الأمة المغربية... إن المجتمعات الحية لا تولد إلا في رحم التاريخ والمجتمع المغربي مجتمع له جذور عميقة في التاريخ. وإن أهمية القضاء كسلطة بالنسبة للمغاربة قاطبة تجد تبريرها في تاريخهم. ولقد ثبت تاريخياً أن المغاربة الأقدمين بقبائلهم المختلفة كانوا يعطون للتحكيم فيما بينهم أهمية قصوى إلى حد جعلوا لتنصيب الحكم وهو سلطة قضائية شروطاً منها: 1 ألا يكون ذا عصبية قوية بألا يعتمد على أي دعم من طرف أية عشيرة، وبالتالي ألا يجابي أية قبيلة. 2 أن تكون موارده الاقتصادية محدودة ممنوحة من طرف الجماعة. وبذلك تضمن القبائل قاضياً حكماً يصدر عن قوة معنوية وازنة دون امتلاك أي جبروت قبلي أو اقتصادي. وإن إدريس الأول لم يكن في بداية الأمر إلا حكما نصبته القبائل المغربية لكونه يتوفر على الشروط الأساسية باعتباره غير ذي عصبية قبلية و لا قوة اقتصادية له بالإضافة إلى نسبه وعلمه، فكان حكما ثم أصبح مؤسسا لأول مملكة إسلامية مغربية مستقلة (5). وإذا كانت بلادنا كما يقول المرحوم الأستاذ محمد زنيبر: «تنتمي إلى صنف خاص من البلدان التي تتميز بكون التاريخ مازال ينزل فيها بثقل كبير على الحاضر، بحيث أن هذا الحاضر مازال غير قادر على التحرر من الماضي...»(6)، فإنه يجب اعتبار ما يلعبه في ذاكرة الأمة الجماعية أن يكون أول ملك للدولة الإسلامية المغربية ليس إلا حكما نصبا من طرف القبائل للفصل فيما بينها وهيئته وحنته وحكمته ونزاهته في مهامه لتأسيس دولة مستقلة في ربوع المغرب. إن ملاحظة المؤرخ الكبير الأستاذ زنيبر لا يجب حصرها في سياق حديثه عن مؤاخذة المجتمع المغربي بتمسكه ببعض العادات القديمة، بل يمكن توسيع الفكرة لتتسع إلى كثير من المظاهر المعنوية الإيجابية الضاربة بجذورها في تاريخ المجتمع، والتي وإن كان ظهورها بدأ يخفت شيئا فشيئا، فإنها ومع كل التغييرات الإيجابية والسلبية لازالت لم تمت بشكل نهائي... ولذلك فإنه إلى زمن قريب كان الناس عامتهم وخاصتهم حين يقدم لهم أحد الهيئة القضائية يحيونه باحترام مفسحين له المجال يقدمونه على أنفسهم باسم الفقيه بما يحمله النعت من إجلال وتقدير... بل أكثر من ذلك يمكن القول بأن فكرة استقلال القضاء كسلطة عن غيره من السلط الأخرى ذات القوى والنفوذ وإن كانت أصبحت معطى دستوريا حديثا، فإن شروط القبائل المغربية قبل دولة الأدارسة تقدم حفرية تاريخية لجذور فكر استقلال القضاء حين تشترط فيه عدم الموالاة لأية عصبية قبلية وهي في ذلك الوقت سلطة وأية سلطة، بالإضافة إلى العفاف الاقتصادي بتولية الجماعة لتدبير شؤون معيشته، فهي بذلك سلطة متواضعة إلا أنها قوية بهذا التواضع الذي يجعلها تحكم الأقوياء ويرضون بالحكم. وقد يقال أين يكمن الخلل الآن، فإذا كان تاريخنا يحمل بذرة نزاهة واستقلال القضاء، فإن قانوننا الحالي أيضا ينص صراحة على استقلال القضاء وسيادة القانون ومساواة الجميع أمام أحكامه. نعم هو كذلك على الصعيد النظري وما يقع أحيانا في كتابة التاريخ هو الاكتفاء الى الاحتكام بما هو مكتوب في بيان أو تقرير أو حتى تشريع لكي تبنى عليه تحاليل فكرية واجتماعية لا تتعدى في الواقع سوى تركيب الكلام النظري على ما سطر نظريا دون النفاذ لجوهر الواقع الذي تحكمه قواعد أخرى هي مسكوت عنها في حينها ولكن لا يعمل في الغالب النافذ سوى بهذا المسكوت عنه. نعم لنا حفريات في التاريخ تصلح أساسا صلبا لإصلاح القضاء ونعم كذلك بأن الدستور والقانون يقر باستقلال القضاء، إلا أن هناك قانونا مكتوبا وهناك ما يسميه الفقيه الاجتماعي الألماني أرليخ (Ehrlich)، بالقانون الحي، (7) المبلور لسلوك القوى الغالبة كنظام داخلي فعلي شبيه بما يسميه علماء الأنثروبولوجيا بنمط الثقافة. ومعنى ذلك أن القانون المكتوب إذا تجاهل القانون الحي السائد كنمط ممارسة للقوى الغالبة، فإن الرجحان يقع دائما لصالح القانون الحي. وإذا ما حاولنا مقاربة هذه الفكرة في تدبير شؤون القضاء في بلادنا، فإنه لا يجب إغفال أن المهمة الأولى الأساسية لدولة الاستقلال هي البسط الفعلي لسلطة الدولة من حيث التسيير والمراقبة والضبط بمفهوم الأمن الإداري تركيزا للسلطة الأولى في الدولة وهي السلطة الحكومية التنفيذية.. وإنه بقطع النظر عن المجادلة والاختلاف، فإن النظرة المسؤولة لرجال الدولة أيا كانوا بعيد مرحلة الاستعمار لابد من أن يولوا الأهمية القصوى لهذا الاختيار وإن كانت تختلف الأساليب حسب مفاهيم المسؤولين المنفذين لهذا الاختيار. إذ أن الفراغ الذي تركه الاستعمار يجعل البلاد في غياب سلطة قوية قد تنزلق إلى صراع أو فوضى وهو ما جعل القانون الحي السائد هو تثبيت الأمن أولا وإظهار جوانب السلطة الرداعة بكل عنف وقوة.. فليس غريبا إذن ألا تقع أول التفاتة الى القضاء إلا سنة 1965 بالمغربة والتوحيد وهي السنة نفسها التي شهدت أحداث الدارالبيضاء العنيفة المعربة عن غضب الشعب تجاه الحكومة القائمة... مما مكن من جديد من استمرارية اتجاه التحكم والضبط على اتجاه المشروعية والمؤسسات القانونية. وهكذا وقع التعامل الواقعي مع القضاء في الإبان كما يقع التعامل مع الموظفين الإداريين باعتبار أن منطق الممارسة هو قانون نمط السلوك الحكومي الذي لا يعترف بالشرعية والسلطة إلا لنفسه، و هو ما يخول القول بأن الدولة في الحقيقة لا تنظر ولا تتصرف مع القضاء إلا كقطاع من الموظفين تحت هيمنتها لا يمتازون إلا بسلاليمهم الإدارية الخاصة ولا غير... وبعد حصول التوافق الوطني بين ملك البلد وباقي ممثلي المجتمع المدني حول الوحدة الترابية بدأت الدولة تجدد شرعيتها بفتح أبواب التمثيل الشعبي بدءا 76 للجماعات وما تلاه من برلمان سنة 1977 أي أن الدولة ا نطلاقا من ظروف داخلية وتأثير خارجي عام تفتح المجال للمشاركة وبناء سلطة المنتخبين كسلطة ثانية للدولة لها مجالها واختصاصها... ومهما كان الأمر فإن القانون المكتوب لازال في احتدام مع قانون نمط السلوك السابق وصار الصراع مكشوفا فوقعت الانتخابات سليمة في بعض المواقع المحدودة ومغشوشة في مواقع أخرى ومتلبسة غامضة فيما بينهما، غير أن اتجاه الحداثة والعصرنة لم يتوقف وزخم المجتمع المدني بكل عناصره رغم الصدمات لم يؤسس ولازال يناضل.. فجاءت تجربة 84 ثم تجربة 92 فتقدم القانون المكتوب خطوات أخرى أكثر علانية وظهورا وأعطى للقضاء لأول مرة دورا يبينه كسلطة قضائية مستقلة ترأس لجنة مراقبة الانتخابات في كافة العمالات والأقاليم.. إلا أن سلوك النمط المخزني لم يمت وإنما تخندق بأسالب جديدة يتآمر في الخفاء ويغدق المال ويرشي الكبار والصغار... لينتبه الجميع الى أن القضاء لازال لم يتمرس على عمله كسلطة قائمة تعلو معنويا كل السلط وتستقل عن قواها المادية والمعنية، وإن الاستثناءات المشهود لها في هذا الباب لا تلغي القاعدة وإنما تزكيها... السلطة القضائية إصلاح أم تأسيس؟ إنه لا أحد ينكر ما هو باد للعيان من توسع كمي للقطاع القضائي من إحداث أصناف المحاكم الابتدائية والإستئنافية وتنصيب أخيرا المحاكم الإدارية الجهوية في كافة الجهات مع تمتيعها بامتياز التجهيز المناسب على خلع بقية المحاكم الأخرى التي تعيش فقرا مدقعا وإن كان ذلك بعشوائية غريبة إلى حد يتم بها إنشاء محكمة بمدينة ويجعل مكانها في مدينة أخرى غير التي تحمل اسمها... إن شعور الدولة بتوسيع ونشر الأجهزة القضائية في البلاد ليس فقط من جراء الحاجة الداخلية لتنمية قطاع العدل وإنما أيضا بتأثير خارجي أصبح له وزن على مصداقية الدولة لدى الأوساط المالية الخارجية والمحافل الدولية، إنه أيضا يستجيب لقانون حي جديد مؤداه خلق واجهات شبه إشهارية مقبولة في السوق المالي والسياسي. الدولي جلبا للديون واستجداء لمساعدات خارجية وطمعا في الصيت الحسن لدى الكبار، على أن هذه المظاهر لا يمكن ان ينظر اليها باستصغار او احتقارل أنها في نهاية المطاف تؤكد ان التحديث للدولة وعصرنتها بمؤسسات قانونية ذات سلطات واضحة، انما اصبح مطلبا دوليا لا محيد عنه الآن لكل بلد يريد ان يلعب دوره ويحافظ على كيانه وينمي طموح أمنه في ان يكون لها مكان في عالم اليوم والمستقبل. يقول الاستاذ العروي، الداعية للحداثة والعقلنة في احد استجواباته الشاملة : »ان المنظمات الدولية تشترط دائما قبل المساعدة عملية ترشيد، وهذه في حد ذاتها تكتسح شيئا فشيئا كل المجال الاجتماعي، تبدأ بالسياسة المالية والتجهيزية ثم التعليمية ولابد ان تنتهي بالاصلاحات السياسية. ان الكثير من الناس يعارضون تدخل تلك المنظمات بدعوى الحفاظ على الاستقلال الوطني.. انا لا اشاطر هذا الموقف المناهض. تدخل المنظمات الدولية يفرض على الاقل عموم المنطق العقلاني، فالأمر بهذه النظرة الغائبة يلتقي في جوهره مع متطلبات المجتمع المدني في تأسيس سلطة قضائية مستقلة ونزيهة وليس فقط انشاء هياكل شكلية لها ذات مضمون نمط مخزني قديم.. اننا اليوم في ميدان القضاء علينا جميعا المطالبة بالتأسيس والاصلاح في نفس الوقت، التأسيس الذي يجعل حدا للتعامل مع السلطة القضائية بنمط قديم يعتبرهم مجرد موظفي العدلية تابعين لمراكز القوى في السلطة التنفيذية تسخر بعضهم لتفسد الباقي حتى تضمن طواعية المجموع.. انه لا معنى في مجتمع حي تواق الى التعايش الديمقراطي الا يكون للقضاة صوت ذي مصداقية يعبر عن المطامح وينتقد المفاسد ويرص الصفوف ويعبئ الصالح ضد الطالح. أو ليس غريبا أن ينادي المجتمع المدني برقابة القضاء على سلامة الانتخابات، في حين ان انتخابات المجلس الاعلى للقضاء التي تهم الجهاز القضائي نفسه تمارس في مجملها بشكل مزيف لا يحترم فيها حتى ادني شرط انتخابي وهو سرية التصويت.. مما يجعل السادة القضاة الحقيقين وان كانوا يجارون الامر فانهم ينتحون بعيدا عن الاوحال المغشوشة ويضحكون عليها بمرارة وأسف.. كاتمين الغيض ترفعا واستكبارا او ليست هذه المهزلة دليل قاطع على ان ما اسميناه قانون النمط الفاسد او ماتسميه الادبيات السياسية المغربية «بالحزب السري» قد خرق جسم القضاة خرقا عميقا وجعله قضاء مفعولا به وليس سلطة قضائية فاعلة. إنه لا يمكن تأسيس سلطة قضائية بالمعنى الصحيح إلا اذا تعاملت الدولة مع هذا الجهاز بمقتضى الدستور القانون المكتوب الذي سطره المشرع و قبله الشعب واجثت من جسم الدولة بما فيها القضاء عناصر النمط اللاتاريخي المعرقل للتغيير والعصرنة والعقلانية. يتبع (هيئة المحامين بآكادير)*