عندما عدت إلى البيت كنت واعية أنه لم يتبق لي من الوقت إذا ما أردت التحرك لأجل التخلص من هذا الرجل وتجنب كابوس قرية «خراجي». لقد مرت خمسة أيام، خمسة أيام كانت صعبة، وكنت خلالها في مواجهة جدران البيت، فلا أبي، ولا إخواني، أو أعمامي كانوا على استعداد للإنصات إلي. واصلت جهدي، وطرقت أكثر من باب أملا في أن أعثر على من ينصت إلي ويهتم بأمري، إلى أن حطت قدماي بمنزل دولة، الزوجة الثانية لوالدي، التي تعيش رفقة أبنائها الخمسة بإحدى الشقق الصغيرة بالطابق الأول بإحدى العمارات القديمة بزقاق ضيق مقابل الذي يوجد به بيتنا. كان الخوف من أن أعود إلى قرية «خراجي» قد تملك مني، مما جعلني استمر في صعود السلم في تجاه الشقة، وأنا أتحمل الرائحة الكريهة المنبعثة من خليط من الأزبال، ومياه المجاري المتفجرة... كانت ترتدي فستانا طويلا بلونيه الأحمر والأسود، حيت فتحت لي دولة، زوجة أبي، باب الشقة مبتسمة في وجهي. ياه. نجود. مفاجأة أن ألقاك ثانية. مرحبا بك. تقول لي. إنني أحب دولة بشكل كبير. ذات بشرة سمراء، وشعر طويل تزينه بظفائر، كانت ممشوقة القد. كانت أجمل من والدتي. لم تأنبني دولة قط. لها من الصبر فيض. فالمسكينة لم تنصفها الحياة بما يكفي، فقد تزوجت في سن متأخرة، عن عمر يناهز عشرين سنة. فبعد أن تخلى عنها والدي بشكل نهائي، تعلمت دولة أن لا تعتمد سوى على نفسها. فابنها البكر، واسمه يحيا، البالغ من العمر ثماني سنوات، الطفل المعاق منذ ولادته، وغير القادر على المشي يتطلب منها رعاية خاصة. فأزماته العصابية التي تنتابه مرات عديدة قد تدوم ساعات طويلة. بالرغم من فقرها الشديد الذي دفعها للتوجه الى الشارع قصد التسول كي تدفع ثمن الإيجار الذي يصل إلى 800 ريال شهريا، ولأجل اقتناء ما يكفي من الخبز لأطفالها، بالرغم من كل هذا، فإن دولة تتميز بسخاء لا مثيل له. دعتني دولة إلى أن أجلس فوق سرير كبير مصنوع من التبن يلتهم نصف مساحة الغرفة، والى جانبه يوجد فرن وضع عليه ماء ساخن. ففي غالب الأحيان، يحل الشاي محل الحليب في مرضعات الأطفال الصغار البلاستيكية. أما على الحائط فقد ثبت بقضيب كيس بلاستيكي شبه ففارغ وضعت فيه المؤونة. نجود، تقول لي، أعتقد أنك منزعجة من شئ ما. أعلم أنها واحة من بين أفراد العائلة القلائل الذين كانوا يعارضون زواجي، غير أن لا أحد كان يود الإنصات إليها. فهي، المرأة التي لم تبتسم الحياة في وجهها، كانت دائما تعتني بالذين أكثر منها حاجة. أحس بالثقة معها، وأعلم كوني قادرة على البوح لها بكل شئ. لدي الكثير كي أحكيه لك.. أجبتها. هل بمقدوري أن أفتح لها قلبي... عقدت حاجبيها وهي تنصت إلى قصتي.. كانت تبدو منزعجة. تفكر في الأمر مليا، توجهت إلى الفرن. وسكبت الشاي الساخن في الكأس الوحيدة التي لم يكسرها بعد يحيا. قدمت الكأس، وهي تقترب مني وتبثت عينها تجاهي. نجود.. تقول بصوت خافت.. إذا لم يرد أحد الإنصات اليك، ما عليك سوى أن تتوجهي إلى المحكمة. إلى ماذا؟ المحكمة! المحكمة؟ المحكمة... أي نعم، المحكمة! وكما الومضات، بدت الصور تملأ رأسي. صور القضاة بعمامات، ومحامون في تسابق دائم مع الزمن. رجال بقمصان بيضاء ونساء بنقاب أتين لتقديم شكاوى بخصوص قضايا عائلية معقدة، السرقة وأمور الإرث. الآن أتذكر المحكمة. لقد رأيت واحدة ذات مرة على تلفزيون الجيران. كان ذلك، ضمن مسلسل كنت أذهب رفقة أختي هيفاء لمشاهدته عند الجيران. كان الممثلون يتحدثون لغة عربية مخالفة للعربية التي نتحدث بها في اليمن. وبالنظر للكنتهم كنت أعتقد دائما أن الأمر يتعلق بمسلسل كويتي. وسط القاعة الكبرى حيث يتوافد المتقاضون، كانت الحيطان مكسوة بطلاء أبيض اللون، وبها عدد من المقاعد البنية اللون المصطفة أمام القاضي. وفي لحظة نرى قدوم المجرمين في سيارة ذات نوافذ مسيجة. المحكمة.. تعيد القول دولة. فما وصل إلى حدود علمي فهو المكان الوحيد حيث سيتم الإنصات إليك. اطلبي مقابلة القاضي. إنه هو ممثل الحكومة أولا وقبل كل شئ. إنه يتمتع بسلطة كبيرة. إنه حامينا جميعا. ومن أدواره مساعدة الضحايا. أقنعتني دولة. ومنذ هذه اللحظة، بدا كل شئ أكثر وضوحا في مخيلتي. فإذا ما رفض والداي مساعدتي، فإني سأدبر أمري لوحدي. لقد قررت أن أتابع الأمر إلى النهاية. كنت مستعدة أن أتسلق الجبال كي لا أجد نفسي ما أزال منبطحة على ذلك الحصير وحيدة في مواجهة ذلك الوحش. ضممت دولة بقوة بين دراعي و شكرتها كثيرا. نجود؟ نعم؟ خدي هذا معك.. يمكن أن ينفعك، لقد وضعت 200 ريال في.... كف يدي. كان ذلك كل ما تمكنت من جمعه هذا الصباح، وهي تتسول في جاد الطريق المجاورة. شكرا دولة شكرا.. في اليوم الموالي. استيقظت وكنت أكثر حيوية ونشاطا من الأيام العادية، إلى الحد الذي استغربت فيه لوضعي النفسي الجديد هذا. وككل صباح، أغسل وجهي. أصلي. أوقد الفرن لتسخين الماء لإعداد الشاي. بعدها أنتظر بفارغ الصبر استيقاظ والدتي، وبالموازاة كنت أزجي الوقت بللعب بكفيّ. صوت خافت من داخلي، يتحدث إلي: «نجود حاولي جاهدة أن تبقي ما أمكن طبيعية، كي تتجنبي إثارة فضولهم». عندما تفتح والدتي عينيها، تبدأ مباشرة بعد ذلك، تبدأ في فتح عقدة بالجانب الأيمن من غطاء رأسها الأسود اللون، العقدة التي تضع بها بعضا من نقودها، وفهمت بعدها أنه قد يكون لي من الحظ كي يتحقق ما أريد.. نجود، تناديني وتمنحني 150 ريالا، هيا اذهبي لاقتناء بعض من الخبز للصغار لتناول وجبة الفطور.