اعتبر علي بوعبيد ، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي ، أن المستجدات السياسية، وما أفرزته انتخابات 12 يونيو الأخيرة، من تحالفات ومن اصطفافات سياسية ، مبررات لتقديم وجهة نظره الخاصة حول المواضيع المذكورة. وهو يستند في ذلك الى مقررات الحزب، والى السياق العام الذي تتطلبه البلاد، كما يتضح من خلال ما كتبه. وبما أن المقالة، الني نشر جزأها الكبير في أسبوعية «تيل كيل»، كتبت بالفرنسية ، اعتبرنا أن من حق مناضلينا ، وقرائنا الذين لم يتسن لهم قراءتها بلغتها الاصلية ، أن يطلعوا عليه من أجل مناقشته وتبادل الرأي، في سياق الحوار الضروري لتقييم ما جرى. نعتقد بأنه لا وجود لأي موضوع محرم أو طابو ما دام الوازع هو خدمة الفكرة الاتحادية وقضايا البلاد والوطن والمصداقية السياسية. إن المسار الديموقراطي بالمغرب في مأزق اليوم، والمنحى الذي اتخذه لعبة الفاعلين السياسيين يضرب مصداقية هذا المسار لدى المغاربة الذي يمثل التصويت بالنسبة لهم تعبيرا سياسيا.، فبعد مرارة اقتراع 2007 الذي افرغ التصويت من اية مشروعية،انضاف، مع الهزة الارتدادية ل 2009، إحباط من السياسة التي اختزلت في مظاهرها الاكثر انحطاطا. فالاقتراع الجماعي يقدم لنا ملخصا للبؤس السياسي الذي نتخبط فيه ، الذي يحيل على الامراض التي تنخر المجتمع المغربي.إن تحريف الافق الديموقراطي وصل مستويات غير مسبوقة، جعلت الحديث، في مثل هذه الظروف عن الديموقراطية وآفاقها يكاد يكون مثيرا للسخرية. بعد هذين الزلزالين (2007/2009)، وعلى بعد ايام من تخليد عشر سنوات من حكم جلالة الملك محمد السادس، ينهي المغرب دورة سياسية من الامال ومن التوافقاتت، من التأجيلات ومن التواطؤات، والتي شارك فيها كل الفاعلين، بنسب متفاوتة. ولهذا، وعلى عكس الخطابات المتداولة، وبحكم 10 سنوات من المسافة، يبدوأن الانتقال المتدرج نحو مجتمع ديموقراطي، يطالب به الجميع ، لم يشكل في النهاية ، منذ 2002 ، هدفا حقيقيا لأي كان .. إن المعاينة قاسية للغاية ، فلم يظهر اي فاعل أنه في مستوى تحمل مسؤولية المستوجبات الاولية لهذا المسلسل ، اللهم على مستوى الخطاب!. إن الطبقة السياسية عموما، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خصوصا، يشتغلان بمنظومة متجاوزة متباعدة عن انتظارات ومتطلبات التأهيل المؤسساتي.وفعلا نرى أن هيكلة مؤسساتنا وسيرها العتيق تنافس في هذه المعاينة تشكيلات سياسية تحولت الى آلات انتخابية بدون ضميرتشوه الحياة العامة. ومع ذلك، وما دمنا في ساعة الحصيلة ، هناك تطورجراء الانفتاح السياسي الذي عرفه المغرب، على خلفية التحولات السوسيوديموغرافية، يستحق الاشارة اليه من خلال ثلاث ملاحظات مليئة بالدلالة: الأولى، والتي نصنفها من بين المكتسبات الحقيقية ، يمكن التقاطها،تتجلى في كون حيوية الحياة العامية، ذات علاقة ببروز مبادرات وبسلط مضادة على هامش الجهاز المؤسساتي ، لا سيما داخل المجتمع المدني ووسائل الاعلام، اكثر مما هي مرتبطة بفعل الاحزاب السياسية في حد ذاتها.وهي مفارقة متميزة ، اذاما اعتبرناها كذلك، تكشف الكثير بخصوص الارتباك السياسي الذي تغذيه وتتغدى منه. ولكنها، مع ذلك مفارقة تغذي ذلك الامل الديموقراطي وتدعونا الى التفكير، بشكل اعمق في شروطه المستقبلية. وبمعنى آخر، وعليه، فإن ما يبدو أنه «لا رجعة فيه»، يجب البحث عنه في المجتمع، في التحولات التي تخترقه ، وفي اشكال تعبيره الجديدة ، اكثر من البحث عنه في النظام السياسي التمثيلي.. طبعا، فهذا لا يعني أن هناك تناقض بين الأمرين . فقط، كنا ننتظر أن يدخل علينا « الوعد الديموقراطي» من باب المؤسسات التمثيلية فاذا به يطل علينا من نافذة المجتمع. ولا أحد يشتكي من ذلك ، حتى ولو كان تصاعد مظاهر التدهور المدني لا يمكنها ألا تثير التساؤل من ناحية شروط مواطنة حقيقية. الملاحظة الثانية ملاحظة مستترة وما زالت تتطلب تعميق البحث، وهي تتمثل في كون المجتمع المغربي يمر بما يمكن أن نسميه ازمة حقيقية للسلطة ، بالمعنى الواسع للسلطة. فسواء تعلق الامر بالمدرسة، أو المقاولة، الادارة، أوببنيات الوساطة السياسة ، الاجتماعية والثقافية ،في كل مكان نجد أن الوجوه التقليدية للسلطة تعيد بناء نفسها ، وذلك خصوصا تحت تأثير، من جهة التحولات السوسيو ديموغرافية ، ومن جهة ثانية بفعل حرية التعبير.ونحن نستشعر ، فعلا أن هناك تحولات كبيرة تعتمل ، وما زالت ميزاتها منفلتة: وما هو محتمل،مع ذلك هو أن نقط الارتكاز التي كانت تسند امكانية قراءة مغرب الامس تهتز اليوم وتفقد من قدرتها على المساعدة على الفهم في الوقت الذي تستقر فيه نقط ارتكاز جديدة خلسة ، بدون أن نتمكن من تسميتها أو تتبعها بطريقة واضحة .إن هذه الظاهرة تستحق توثيقها وتحليلها على مستوى دال لكي نفهم مغازيها ونقيس مداها. الملاحظة الثالثة البارزة فعلا تحيلنا على تفاقم ظاهرة عدم الثقة في المؤسسات العمومية. وفي هذا الخصوص،لا نعدم بعض المسؤولين الذين يعترفون بارتباكهم وحيرتهم وعجزهم . من المحقق أن من طبيعة اية ديموقراطية حية أن تكون مؤسساتها موضع مساءلة مستمرة، غير أن «الغضب» والانتظارات ازاء هذه المؤسسات، سواء تمت تلبيتها أو منيت بالخيبة، تكشف، بشكل مفارق عن ثقة دنيا في المهام الاصلية لهذه المؤسسات. في المغرب ، الامور تسير بشكل مغاير . فمؤسساتنا العمومية ، الهشة والحديثة العهد، واقعة تحت اضواء رأي عام يقظ كثيرا، تلعب بصدقيتها إن لم نقل مصداقيتها في كل لحظة وفي كل قرار! وكل شيئ يتم كما لو أن الثقة هي الاستثناء والارتياب هو القاعدة. وهذا وضع ينزع نحو سجن الرأي العام في خطاطة ثنائية ذات عواقب وخيمة. تمثل بالنسبة للبعض ، موقف ريبة وشك دائمين ، وبعض الاحيان غير مبررين ازاء كل ما تقوم به المؤسسات،حتى عندما تكون، وهذه هي المفارقة، القرارات أو المبادرات المتخذة تستحق التنويه! وعلى العكس من ذلك، نجد التمجيد المبالغ فيه، بدون تمييز، للانجازات والاصلاحات، وهو احتفاء انتشائي مشبوه لأن اصحابه لهم مصلحة في ترديد هذه الطقوس الموسمية. هذا الجو الموبوء يفتح الباب للاستراتيجيات الفردانية، للبقاء وللتسلق المهني...أو يغذي، عكس ذلك نوعا من ثقافة الاحساس بالاحباط والعدمية.. ولهذا ليس هناك اليوم ما هو اكثر استعجالية من القطع مع هذه الدائرة المغلقة للوهم والخيبة، مع تجميع شروط ثقة دنيا في المؤسسات. والرهان هو اعطاء انطلاقة لمسلسل يمكن المغاربة من التماهي مع مؤسساتهم وتملكها في افق ارجاع «المشروع الديموقراطي الحداثي» على السكة الصحيحة. وذلك يتطلب أن يكون المنهاج والوسيلة مشدودين الى الاهداف المتوخاة: استشارة واسعة يليها نقاش عمومي وهاديء يقدم يسبق الاصلاحات الدستورية التي يقترحها جلالة الملك على المغاربة. بهذه الروح يجب أن ننظر الى المذكرة التي رفعها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، علما ان مسألة مصير المشروع الديموقراطي في المغرب ، بعيدا عن اي بوليميك ، يتضمن رهانات تتجاوز الاتحاد الاشتراكي وتسائل مجموع الفاعلين.. إن تحدي اعطاء المصداقية للمؤسسات ، والذي لا يمكن أن يكون الافق الديموقراطي قابلا للتحقق، يطرح نفسه على الاحزاب السياسية ايضا باعتبارها مؤسسات. إن الاتحاديين مدعوون ، باسم واجب تاريخي، إلى تمرين من الوضوح الجذري أسس له الموتمر 8.ويمكن تلخيصه على النحو التالي: من شريك متواطيء للخط التراجعي الذي شهدنا عليه منذ 2002، أصبح الاتحاد الاشتراكي ، بفعل انطوائيته و«العماء المقصود» لقادته ،أصبح فاعلا كبيرا في تفكك وتحلل الروح العامة. فالتخلي المتكرر عن متطلب الانسجام، والحذر ، والوضوح في الموقع ووضوح عمله انتهى به في نهاية المطاف الى ارباك مناضليه وناخبيه. فالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لا يجسد سوى سطحيا القيم التي كانت غاية وجوده ، وهي نضاله من أجل كرامة المغاربة.وبسبب عجزه عن صهر المبادئ المؤسسة في خط سياسي واضح ومرتبط بقيمه، قيم الاتحاد، على العكس من ذلك ، قام ،بفعل تيهه المتكرر، بتبديد إحدى الميزات الرئيسية لميراث عبد الرحيم بوعبيد :أي ذلك المزج بين الشجاعة والاعتدال، ذلك التصور الخاص بالالتزام والعمل السياسي الذي يجمع بين نوع من أخلاق القناعة والوضوح الذي يلائم كل أخلاق للمسؤولية. وعليه، فلا يمكنه،من الآن فصاعدا أن يشتكي أو يتباكى من عواقب ما كان هو في الأصل جزء من أسبابه. وبهذا المعنى ، فمن المحقق ،أن بروز «الأصالة والمعاصرة»، في واجهة الساحة السياسية مضر سياسيا وأخلاقيا من حيث إنه يزيد من ضبابية الأفق الديموقراطي ، ثم تحويله الى احتيال. ولكن ، لا يمكن أن يُستعمل كذريعة تخفي الضياع والتيه الذي علينا تقديم الحساب عنهما. ومن هنا فإن المقارنة بين الفديك وبين «الاصالة والمعاصرة» مقارنة دقيقة لاكثر من سبب، لكنها تقف عند ما يبدأ وهننا السياسي! وهي ذي الحقيقة التي يجب أن يؤدي بنا اليها وضوحنا الجذري لمواجهتها، ذلك لأنه،إن كان لا بد من التذكير، أن الضيق والقلق العميق الذي يكبس على الحزب، وتنظيماته وطرق عمله ومواقفه السياسية لا يتزامن مع ميلاد «الاصالة والمعاصرة»! كما لا يمكن ل«الأصالة» أن يبرر انزلاقات جديدة والتي مكنها، ضمن نوع من الهروب الى الامام من أن تعمل هذه المرة على أن يفقد الاتحاد روحه. فروح الاتحاد الاشتراكي تتجسد في وعي مؤسسيه، تقرأ في قيمه وتكشف عن نفسها في اختياراته. وعندما تدق ساعة الاختيارات والضمائر ، يفضل اشتراكي دائما أن يداوي جراحه في المعارضة على أن يظل ضعيفا ، يلعب الخدمة في الحكومة. كما أنه يفضل أن يخسر بأفكاره على أن يربح بأفكار الآخرين..إن الكرامة والشرف في السياسة هو ذا ثمنهما ، ولا يمكنهما أن يتعايشا مع كل النسبيات التي من شأنها ارباك إلى الرأي العام. على الاشتراكيين ايضا ، وفي اطار احترام مقررات مؤتمرهم الأخير، القيام بورش مزدوج:ورش التأهيل الداخلي للحزب انطلاقا من تقييم صارم وموضوعي للنتائج المحصل عليها خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة، وورش ثان،مصاحب يتعلق بتوضيح الاختيارات لأجل استخلاص تموقع اكثر وضوحا على الساحة السياسية. فيما يتعلق بالنقطة الثانية التي ينتظره بخصوصها الناس، على الاتحاد أن يقر بنهاية الكتلة . فعندما قال إن انتخابات 2009 انتصار للديموقراطية، فإن رئيس الاغلبية، الوزير الأول وزعيم حزب الاستقلال يؤكد بواسطة هذا الفهم للوضع السياسي قراءة على طرف نقيض من قراءة الاتحاد الاشتراكي لقوات الشعبية. وهذا الخلاف ، أبعد من أن يمس نقطة تفصيلية ، بل هو يمس غاية وجود الكتلة نفسها، اي تحقيق مجتمع ديموقراطي. وهذا في نظري، أكبر سبب لتبرير انتهاء هذا التحالف. بل إن الاستنتاج الفور ي الذي يجب أن نستخلصه من هذا ، من أجل الاستجابة لمتطلب الانسجام في خطنا السياسي اولا، يفرض نفسه بنفسه:الاتحاد الاشتراكي مطالب بمغادرة الاغلبية والحكومة الحاليتين قبل الدخول النيابي المقبل. وإني أسمع من الآن أصواتا ترتفع داخل الاتحاد الاشتراكي ، تحذوها دوافع مشبوهة وغير معلنة ترد بالقول :« الخروج إلى المعارضة ، ولكن من أجل ماذا ومع من؟ »، هو اعتراض يمكن القبول به باعتباره رأيا إذا كان رأي يحمله أصحابه بشكل واضح ويبررونه أيضا بنفس الوضوح. حتى ولو كان يتركك مشدوها، لا لأنه يفتح نقاشا ضروريا، بل لأن الجواب يكمن في السؤال ذاته! كما لو أن « شكوك» العمل في المعارضة يمكنها لوحدها أن تبرر التواجد في الحكومة. وكما لو أن مشاركتنا في الحكومة مفهومة من طرف المغاربة، حاسمة بالنسبة لمستقبل الديموقراطية، ومفيدة لحزبنا، بالبداهة يعتقد المرء أنه يحلم أمام هذه الهنات، التي لا توحي سوى بالشفقة بالنظر إلى المسار التاريخي للاتحاد التشتراكي .. ونفس الشيئ عن التحالفات المستقبلية،حيث إن القدر الطبيعي للاشتراكيين الاتحاديين هو يسارا، وهو ، في النهاية التوجه الذي أفرزه المؤتمر الاخير. في الوقت الراهن، اذا كا ن« للجبهة الديموقراطية» ، أن تكون كاجراء استراتيجي ،فيجب أن تتشكل اولا من مكونات اليسار. والمهمة ولا شك صعبة، ولكنها ليست مستحيلة ، إد يجب الانكباب عليها بصبر وحزم، لان الرهان حيوي بالنسبة للجميع . والأمر لا يتعلق بمجرد تحالف مناسباتي بطموح انتخابي محض وبما أن الديموقراطية هنا تحمل معنى النظام ولكن ، اساس كما سبق ذكره كشكل مجتمعي ، فإن القضية مع العدالة والتنمية ، هنا بالذات تختلف، ما ان يتعلق الامر بالقيم التي تؤسس لمفهمنا للديموقراطية. وخلافاتنا معروفة، وهي لسيت بالهينة ، ولهذا فإنا ضد أي تحالف استراتيجي مع العدالة والتنمية ، ولاسيما بخصوص الجانب الرمزي للديموقراطية، و الذي سيكرس نوعا من النسبية السياسية التي تزيد من حيرة المواطنين . فالمشروع الديموقراطي سيفقد بذلك من امكانية فرادته وانسجامه. ومقابل ذلك، أنا مع تنسيق وجهات النظر والاعمال المشتركة، لا سيما على الجبهة البرلمانية، خصوصا حول الموضوعات التي بإمكانها أن تجمعنا. وعلى كل ، هذه مادة لنقاش داخلي للاتحاديين ، لا يمكننا أبدا أن نتجاوزه أو نتفاداه.