تستبد بالصحافة الوطنية، الحزبية منها والمستقلة على حد سواء، منذ بضعة أسابيع، وبشكل بارز نبرة تشاؤم لا يمكن أن تخطئها حاسة القارئ النبيه للافتتاحيات والمقالات الرئيسية والمواكبات والمعالجات التحليلية لأوضاعنا السياسية العامة. نبرة التشاؤم هاته ليست بالطبع وليدة الأسابيع والأيام الماضية، فلقد كانت موجودة في الحقيقة، تضبط إيقاع الكتابة الصحفية منذ شهور، منذ أن تبين بالملموس أن مؤسساتنا ومرافقنا العامة اختارت العودة إلى سيرها المعتاد، الروتيني والرتيب بعيدا عن أي إبداع أو إقدام أو إقناع، تاركة تفسير ما تقوم به، ضمن ما تبقى لها من صلاحيات واختصاصات، لبعض عناصر الشرائح العليا من التكنوقراطيات الوزارية، قارئة الماكيتات، والرسوم البيانية والجداول الإحصائية على الطريقة التي يقرأ بها المستقبل في قعر فنجان. لكن هذه النبرة التشاؤمية، وجدت لها قوة دفع مضاعفة بعد الانتخابات الجماعية الأخيرة، ومارافقها من ظواهر وما تمخض عنها من تداعيات لاتزال ذيولها تتفاعل لحد الآن، فلقد أكدت هذه الانتخابات الإحساس، لدى كل من لم يندمج بالكامل في المنظومة، أو في السيستيم (بلغة البنيويين) بأن الحاضر هو سلسلة متصلة ومتراصة من التراجعات قياسا الى الماضي القريب، وأن المستقبل قد يكون - يا للهول - أقسى وأسوأ من الحاضر، وأننا قد نكون أكلنا خبزنا الأبيض واستنفدناه منذ مدة، وأن علينا من الآن فصاعدا أن نروض الذوات - ذواتنا على تحمل المضرات، بل وحتى على تلقي الضربات. فقد أكدت هذه الانتخابات الإحساس العام، خاصة على ضوء ما عرفه مسلسل التحالفات من تعاقدات مريبة عند تشكيل مكاتب المجالس، أن ميزان الضوابط والمعايير انكسر وتبعثر شظايا وبأننا صرنا مهددين بعد اليوم بالسير دون بوصلة تحدد الاتجاهات الأربعة، وتساعد على توضيح الهدف والأفق لنعرف حقا إلى أين نحن قاصدون. وهكذا، فالصورة التي يقدمها البلد اليوم عن نفسه، هي صورة بلد يستيقظ فيه الناس في الصباح، يذهبون إلى عملهم أو تجارتهم أو مكاتبهم، لا تبدو عليهم أمارات الشعور أو الاقتناع بأنهم يمارسون عملا أو يضطلعون بمجهود يدخل بوعي ضمن بناء مشروع جماعي عام، ثم يعودون في المساء متعبين، باحثين بأي وجه عن تلهية أو تسلية يجدها قسم كبير منهم في مسلسلات تلفزيونية عربية وأجنبية، رومانسية أو عنيفة، وبين الصباح والمساء تستمر الوصلات الإشهارية للأبناك ومؤسسات الائتمان والقرض، تنادي على عباد الله الموظفين أن استدينوا استدينوا من أجل كل شيء، من أجل مواجهة التكاليف الإضافية لشهر رمضان المبارك، من أجل العطلة الصيفية، من أجل مصاريف الدخول المدرسي، وحتى من أجل جمع ديونكم المتعددة في قرض واحد يقيكم قساوة الشعور الذي لابد أن يولده تعدد الديون. الصورة التي يقدمها البلد عن نفسه هي صورة بلد يتكاثر في مدنه الكبرى والمتوسطة عدد السيارات، ومعها يتكاثر عدد الفقراء والمعوزين ممن لا أمل لهم في حراك اجتماعي في مستقبل منظور - صورة بلد يصر فيه المسؤولون الكبار، من ذوي القرار النافذ، أن لا تتعدى الحداثة عتبة الطلاء الخفيف والعابر، السريع الذوبان، وذلك خوفا من تبعاتها السياسية والثقافية العميقة، وحفاظا على مصالح مكتسبة، يدرك أولئك المسؤولون أن التقليدانية وحدها تضمن استمراريتها بكل الاطمئنان المطلوب. من يجرأ اليوم أو يقوى على رسم صورة مشرقة وردية، أو على الأقل إيجابية لواقعنا في الحاضر واحتمالات تطوره في المستقبل؟ من يجرؤ اليوم أو يقوى على الادعاء بأن هذا الواقع يرسل إشارات تحمل ومضات أمل أو لمسات استبشار؟ وهذا أو هؤلاء الذين قد يقوون على ذلك ويجرأون، هل يستطيعون حقا، حينما يأوون إلى فراشهم ويضعون رؤوسهم فوق الوسادة، مستعرضين شريط الأحداث والظواهر التي صادفوها خلال اليوم - هل يستطيعون إقناع ذواتهم، في تلك اللحظات التي لا يعود فيها من سلطة على العقول إلا ما تومن به وتقتنع بأن ما ينشرونه من غبطة مصطنعة على الملأ من حولهم هو ترجمة أمينة لأحاسيسهم الحقيقية؟ لعل أبرز صورة أو تعبير عن هذا التناقض الذي قد يستشعره من ينشر الغبطة المصطنعة من حوله خلال ساعات النهار، ثم يعود يراجعها في لحظة السكون مع الذات في صمت الليل، هو ما يطلق عليه السوسيولوجيون الأنجلوساكسونيون ب «أكاذيب عامة وحقيقة خاصة». من يجرؤ أو يقوى اليوم على القول بأننا لازلنا نمثل أحد النماذج المنبثقة للديموقراطيات في بلدان العالم النامي بالشكل الذي كنا نوصف أو نصنف به إلي عهد قريب، إلى حدود بضع سنوات مضت حينما كانت وفودنا إلى المؤتمرات والتظاهرات العالمية الحزبية السياسية والديبلوماسية تشعر بالفخر والاعتزاز، وهي ترى مختلف الوفود الأجنبية تدنو منها راغبة في الحوار مستفسرة طارحة أسئلة، ومعبرة عن إعجابها بذاك الذي حققه بلدنا على صعيد الانتقال السلس والهادئ، مأخوذة بوقع أصداء تلك النقلة النوعية التي كنا قد حققناها وأصبحنا بموجبها بؤرة اهتمام كل القوى الديموقراطية من حولنا في بلدان العالم النامي - من يجرؤ أو يقوى على ذلك اليوم؟