شكل مهرجان «الماية» المنظم بمنطقة أولاد عمران خلفية ثقافية ممتازة بالنسبة لمشروع السياحة الثقافية المواكب لمحطة مزاكان السياحية وكذا من أجل فتح فضاءات أخرى في وجه المنعشين والمستثمرين ، ونظرا لكون البادية هي دائما فضاء للسلام وللهدوء والضيافة ، جوهر الثقافة المحلية ، ثقافة أصيلة لم يشبها تغيير ، ثقافة لا يمكن أن تتجسد أكثر إلا عند ساكنتها ، لذلك كان لمنطقة أولاد عمران موعد لإبراز موروثها الثقافي من خلال مهرجان الماية في نسخته الثانية والذي دام لمدة خمسة أيام انطلاقا من فاتح يوليوز 2009 و حتى الخامس منه: تسير منطقة أولاد عمران على درب النمو التدريجي بفضل التطور الفلاحي الذي عرفته هذه المنطقة من دكالة ، وقد ساهم في هذا النمو نشوء صناعة مرتبطة بالقطاع الفلاحي ، كصناعة الشمندر السكري بالإضافة إلى الحبوب والأعلاف وتربية الماشية وغيرها ، وبحكم موقعها الاستراتيجي وسط طرق تربط بين مراكش والواليدية وآسفي والجديدة، ومجاورتها لقبائل أولاد دليم بالرحامنة، فقد أهلها ذلك لتصبح قطبا سياحيا بامتياز ، فهي تبعد عن مدينة سيدي بنور بحوالي 20 كلم، وهي خاضعة لمجالها الترابي. اشتهرت منطقة أولاد عمران بهذا الاسم نسبة إلى عمران ، وهو رجل كان يملك محطة تجارية بالمنطقة التي كانت نقطة عبور للتجار بين الشمال والجنوب، خاصة للاستراحة ونقل البضائع أحيانا ، ولا توجد أدلة ثابتة وقاطعة حول نسب " عمران " حيث لازالت آراء مفكري ومثقفي وباحثي المنطقة متضاربة في ذلك، غير أنه في الغالب، فأهل دكالة أو السكان المجاورون لا يسمون أبناءهم بهذا الاسم . ويحكى أنه بعد وفاة عمران ترك أبناء له اشتغلوا في نفس المهنة ووطدوا دعائمها فاشتهرت المنطقة باسم " أولاد عمران " . تتميز منطقة اولاد عمران بتربتها الجيدة(التيرس)، وتضم اليوم خمس جماعات وهي : أولاد عمران ، كدية بني دغوغ ، تامدة ، كريديد ، لحكاكشة . وتشكل أحد مكونات الهلال الفقير بالإقليم. تعداد ساكنتها يفوق 80 ألف نسمة . منطقة دكالة عامة ومنطقة أولاد عمران خاصة، وعلى غرار باقي مناطق المملكة ، غنية بتاريخها الذي يمتد لآلاف السنين ، يتكون من صفحات عديدة ومتنوعة لا يمكن اختزالها في هذه الورقة، كونها مليئة بالملاحم والأفراح ، كسبب لتاريخ تولد عنه تنوع ثقافي فريد، حركة وكلام ، فرح وألم ، غناء وحكاية ، زراعة وموسيقى، صوت وإحساس، معمار وطبخ، صيد وقنص ، لعب وأدب ، ثقافة وعادات ، طرز وصناعة تقليدية ، فروسية وتربية الصقور ، رياضة وعلوم ... دكالة العالمة ، هذه الأرض ذات التراث الثقافي والطبيعي الغني تظهر لزوارها هذا الغنى وهذا التنوع من خلال مهرجانها الثاني الذي يأتي تنفيذا لاستراتيجية تنشيط السياحة الثقافية بالإقليم، وخصوصا بالعالم القروي ، ومعلوم أن هذه التظاهرة نظمت هذه السنة بمبادرة من جمعية الماية و الجمعية الإقليمية للشؤون الثقافية ، تحت إشراف وزارة الثقافة و عمالة إقليمالجديدة ، بمشاركة الجماعات المكونة لقيادة أولاد عمران و المديرية الجهوية لوزارة الثقافة و الجمعيات و الفعاليات المحلية ، حيث عرف المهرجان على مدى خمسة أيام أمسيات فنية تراثية خاصة بالغناء التقليدي و العصري، واكب ذلك عقد ندوتين شارك فيهما أساتذة باحثون في التراث ، الانتربولوجيا ، السوسيولوجيا القروية، تم من خلالهما النبش في مخزون الكلمات، و خصوصا كل ما يتعلق بالمنتجات التقليدية المحلية التي قام بعرضها نساء و رجال عبروا من خلالها عن براعة الصانع التقليدي المحلي ... مهرجان الماية هذا أعطى انطلاقته السيد عامل إقليمالجديدة رفقة السيدة المفتشة العامة لوزارة الثقافة وذلك يوم فاتح يوليو 2009 في حدود الساعة الخامسة مساء حيث تم عرض العديد من اللوحات والمشاهد الفنية التي تعود بذاكرة الإنسان إلى التقاليد والثرات اللذين كانت ولازالت تزخر بهما منطقة دكالة، مما جعلها ويجعلها باستمرار محط اهتمام من طرف المفكرين والمثقفين والباحثين في التراث، وبالمناسبة فقد تقدمت السيدة المفتشة العامة لوزارة الثقافة بكلمة نيابة عن السيدة وزيرة الثقافة التي تعذر عليها الحضور، أبرزت من خلالها أهمية هذا المهرجان المقام بالمجال القروي، وما يمكن أن يساهم فيه من تنمية محلية على عدة مستويات مؤكدة دعم الوزارة لمثل هذه التظاهرة التي تحيي وتغني الثرات المغربي الأصيل . السيد إدريس لمرابط أحد الباحثين في تراث إقليم دكالة وعضو اللجنة المنظمة والناطق الرسمي باسمها صرح للجريدة بأن مهرجان الماية أو مهرجان أغاني النساء بأولاد عمران، ولد من رحم فكرة إحياء وتطوير التراث الثقافي لدكالة، وخاصة منه التراث الشفوي والموسيقي التقليدية ، ووسط هذا التراث الغني والمتنوع تنفرد أغاني النساء أو ما يسمى " اللعابات " أو " العونيات " بميزات وخصوصيات تستحق أكثر من وقفة وتكريم ، وإذا كان هذا التراث الموسيقي يضيف السيد لمرابط ما يزال يحيا ببادية دكالة فإنه قد اندثر أو كاد بالمدينة ، وهؤلاء النساء فنانات ومبدعات بالفطرة أو بالتوارث يحملن تراثا أصيلا، وهن يحيين سهرات العائلة أو يطربن القبيلة في الأفراح والمواسم. وفلسفة هذه التظاهرة الفريدة هي إعادة إحياء هذا التراث الموسيقي النسائي المتميز من أجل تأهيله وتطويره وتيسير إشعاعه على المستوى الوطني والدولي ، وما دامت الموسيقى يقول السيد لمرابط لغة كونية للترفيه كما للتخاطب والتبادل ، فإن المهرجان يروم خلق ملتقى دولي قار يحتفي بالمرأة وإبداعاتها المختلفة ، ملتقى تؤثثه نساء هن سفيرات لثقافات وشعوب الأرض ، نساء حافظن على موسيقى تقليدية خاصة بقبائلهن وبلدانهن . من المشاهد الرائعة والخالدة والمجسدة للموروث الثقافي بالمنطقة مشهد أطفال يحملون ألواحهم مزركشة وقد كتبت عليها آيات بينات من الذكر الحكيم ، في لحظة تحملك إلى زمن دخول الطفل للمرة الأولى إلى المسيد، حيث ردد مجموعة من الأطفال تلك الكلمات التي تحتاج اليوم إلى من يعطيها حقها في البحث والدراسة وهي: طالب طالب يايو سعدات مّو وبّاه أمولات الخيمة أعطيني بيضة باش نزوق لوحتي لوحتي عند الطالب والطالب في الجنة والجنة محلولة حللها مولانا الطالب وأصحابو في الجنة يتصابوا مشهد أظهر من خلاله الأطفال حين كان«الطالب» يدور في الدوار حاملا لوحته يجمع البيض لكي يعطيه بدوره إلى معلمه " الفقيه " وحين يتخرج " الطالب " أو بما كان يسمى " بالدفوع " أو " أتفاصيل" حفل تخرج الفقيه الحامل لكتاب الله ، فيكون مرفوقا بوفد متكون من الفقهاء والعلماء وهم يجوبون الدوار مرددين : يارب ياعالم ، وأنت العالم ، كتاب القرآن ، بجاه محمد ، وما محمد إلا الرسول . وتعد هذه المرحلة من مراحل الاحتفاء بالعالم والعلماء دأب طلاب العلم ومرتادي المسيد الظمأى للارتواء من معين العلم الغزير على إحيائها والحفاظ عليها عبر توارث الأجيال، ولسان حالهم مناجاة العلي القدير مهللين مادحين خير البرية محمد ابن عبد الله، شاكرين الله على إلهامهم بهذا الزخم الزاخر من العلم والمعرفة . ثم مشهد الحصا دين أثناء ختام الموسم الفلاحي واحتفاء به كانوا يبتكرون وينظمون مواويل و أهازيج و أغاني تعبيرا عن فرحة جني المحصول الزراعي، وعزاء لهم على ما كابدوه في سبيل ذلك من محن وصعوبات وكلها أنظام تحتوي على الحكمة والدقة ورجاحة العقل، كقولهم : " إذا بان الزرزور ، احفر وغرق المطمور " كدلالة على وفرة المنتوج " الغلة " فهي مواقيت تارة للفصول والمنازل وهي تارة أخرى منبع حكمة وأقوال بليغة : " إذا كان مارس اسيل و أبريل صقيل الثلث في الصابة ايحيل على يد الخماس الدليل " ومشهد العريس وما تتطلبه ليلة الدخلة من حناء و ترديد لمواويل من طرف النساء، حيث توضع الحناء على رأس العروس وهي عادة تسمى بالتحدار ويصلون على النبي حيث يقولون : صلوا على النبي يالعاكس الحيكة سيدي محمد ما ولدات تايكة يرددون تلك الكلمات في مدح الرسول ( ص ) وهم يحملون العروس إلى حيث يوجد عريسها، أو حيث ستكون بما يسمى " ليلة الدخلة " وفي الصباح يجول النساء بقطعة من الثوب وعليها آثار الدماء " لزار أو الصباح " وهن يرددن: الصباح الصباح لمواليه الملحة والسر عليه ايدانا بكون العروس أصبحت امرأة بإمكانها الإنجاب ... وأنها أصبحت مسؤولة على بيتها وزوجها في إطار التحول من حياة العزوبة إلى الزوجية . كما نجد للنساء أغاني يرددنها أثناء حفل الختان، حيث له هو الآخر تقاليد ومواويل خاصة به، تنطلق بتجمع النساء حول أم الصبي التي تكون واقفة على قصعة من الخشب ماسكة بيدها قصبة وقد علق عليها قليل من النعناع والحناء وبيدها الأخرى خلالة و مرآة تنظر إليها ، وتنطلق النساء وهن يرتدين ملابس تقليدية من خلالها في تواصل للحجام عندما يقدم الصبي بين يدي الحجام بالقول : " الحجام العار عليك راه ولدي بين يديك - ما أنختن أوليدي حتى اتجي جداه داكة الحناء وجامعة لدواه - ما نختن أوليدي حتى إيجي خالو يفتح اشكارتو وينفق علي من مالو العرسة عرسة الحجام فيها الخوخ والرمان " هذه المواويل التي تصل إلى الفؤاد تجعل يدي الحجام لينتين على الصبي حين إعذاره . السيد حسن لكحل رئيس جمعية الماية بدوره أكد للجريدة كون مهرجان الماية هو فضاء للتلاقي والحوار واكتشاف الآخر وتلا قح الأجيال على طبق تلا قح الثقافات، وحول مائدة عرض وإبراز المكونات الفنية والثقافية لشعوب مختلفة، لذلك فإن الترتيبات الضرورية لإنجاح هذا المهرجان قد اتخذت سواء تعلق الأمر بالتنظيم أو الأمن أو الجانب المادي أو التجهيزات ... حيث تعمل لجنة مكلفة رفقة أعضاء جمعية الماية في إطار تدبير جماعي لجميع مراحل المهرجان وكذا البرامج التي تقدم طيلة أيام المهرجان . ينفرد مهرجان الماية بكونه من المهرجانات التي تخصص حصرا للموسيقى النسائية ، وهو مهدى حسب المنظمين للمرأة بدكالة خصوصا والى المرأة المغربية عموما ومعها كل نساء الكون ، وهو كذلك مناسبة لإبراز انجازات وتطور المرأة المغربية في ظل العرش العلوي ونضالها من أجل العدالة والمساواة في الحقوق المتعارف عليها دوليا من جهته أفاد السيد عبد الرحمان عريس الكاتب العام للجمعية الإقليمية للشؤون الثقافية أن تظاهرة الماية تأتي في إطار تفعيل المشهد الثقافي بالإقليم واستمرارا وامتدادا لمجموعة من التظاهرات الثقافية التي يجب ترسيخها كتقليد وتجسيدها كتراكم فعلي مستمد من الممارسة الثقافية المنفتحة على الأفق الأرحب للثقافة المغربية وأبعادها المتنوعة والمختلفة ، وأن دلالة تسمية " الماية " هي من إشراقات البعد التاريخي الذي تزخر به منطقة دكالة عموما و أولاد عمران على الخصوص ، وتفعيل هذا البعد هو في حد ذاته ارتباط عضوي وجدلي بآفاق المستقبل وصيرورته . وأساس هذا المستقبل هو الآثار الفعالة التي يتركها هذا النوع من الاهتمام على الحياة والناس والمحيط والكون ... وتنويعا لمضامين هذا المهرجان النسائي الذي عرف حضورا متميزا ومشاركة فاعلة وفعالة للعديد من الفرق سواء في الفروسية، حيث عرف مشاركة عدد كبير من الخيالة بمشاركة المرأة الفارسة التي أبانت عن حنكتها ودرايتها في ركوب الخيل، وفرق الصيد بالصقور وفرق الصيد بالسلوقي ... فإن فقرات المهرجان توزعت بين الموسيقى النسائية التقليدية والمعارض الفنية : الحياكة ، النسيج ، الغزل التقليدي... وصناعة الأثاث المنزلية بمواد طبيعية مائة في المائة مثل الكراسي، الطاولات المصنوعة من القصب، و تجهيزات أخرى بواسطة نبتة تعرف باسم " الدوم " كالبردعة ، الشواري ، القفة .. صناعات تقليدية مهددة بالاندثار في عصرنا هذا عصر التطور التكنولوجي والعولمة ، كما عرفت أيام المهرجان عقد ندوات فكرية وعروض حول المجال الفلاحي وعروض للفروسية لخيول دكالة الأصيلة على وقع النقع تحت حوافرها ورائحة البارود المصاحبة لصهيلها ، وعرض وإبراز مؤهلات المنطقة ... وحسب بعض الزوار الذين التقينا هم بالمهرجان فقد أعربوا عن فرحتهم لمثل هذا العمل الذي من شأنه أن يربط الماضي بالحاضر وأن يعيد لمورثنا الثقافي مكانته في حياتنا اليومية، وقد زاد من إعجابهم التنظيم المحكم بفضل المجهودات المبذولة من طرف كل المكونات المنظمة والمساهمة الأمر الذي ساهم في إنجاحه بنسبة أكثر من الدورة الأولى . عرفت الدورة الثانية لمهرجان الماية نهايتها يوم الأحد 5 يوليوز 2009 على إيقاع استمرار عروض الفروسية ورياضة الصيد بالصقر ... ليتم حفل الاختتام في حدود الساعة الحادية عشرة صباحا وذلك بتوزيع الجوائز على الفرق المشاركة. والآمال معقودة على الجميع في عقد الدورة الثالثة والتي ستكون لامحالة لها ميزات أخرى وخصوصيات أخرى ستساهم في السياحة الثقافية ، باعتبار تراث دكالة يحتل مكانة مهمة في هذا المهرجان الذي يعد قاطرة من اجل المحافظة على التراث التاريخي والروحي للمنطقة ، وذلك بهدف إعادة الاعتبار له وحفظه من الاندثار من خلال مقاربة تعتمد على اهتمام الساكنة المحلية والتنمية المستدامة والحفاظ على البيئة ثم تسليط الضوء على التداخل الثقافي وعالمية الثقافة الإنسانية.