رَأَيْتُكِ ترعين الشمسَ في مدخلِ النفقْ، كنتُ هناك ألملم خطايا الليل، كنتُ هناكَ أقتفي ما تركتِ الأحلامُ من أثرٍ، وكنت أحتقنْ. العبور إليكِ مليء بالكلام، وبغمامات تحط في خفقان القلب، وبأودية عميقة من الرغبة تحفر في الروح وتختفي في الجسد. هل كنت تمزحين مع الفراشات التي غطت المدخل قبل أن أنسحب في غيبوبة الانتشاء؟ الخطايا تجب ما قبلها، والروح ملَّتْ من الانتظار خارج ملكوت العتمة. من ذيل الليل، ومن فلول النجوم الهاربة، تولد الشمس كي تطفئ الأحلام، ومن شهوة الجسد تصْعدُ الفقاعةُ الروحُ مُعََمَّدَة بالندم: ألمُ اللذةِ أم شغفٌ بما وراء حجب الطهارة؟. باب باطنه عذاب. رأيتك في الشعاع العابر في مدخل النفق، رأيتك في تلاشي النجوم، في تآكل الليل، بينما أحمل أوزار العاشق وأغوص في الملكوت الأدنى لا خوفٌ عليّ، أنا في المكان الأجمل. ضوء في آخر النفق، وشهوة مسرفة في التوقد. الحياة حريق دائم وأنت جذوتي الأثيرة، وأنا الرماد. ومن حيث لا يدري أحد، من حيث تخرج الريح، دلفنا إلى الباب، لم يكن الجحيم هناك، ولا الجنة كانت قاب اليدين. لم نكن واضحين بما يكفي، ولا الباب كما تصورناه، كان شظايا ضوء ودخانا من هدوء مرتبك... ليتك وقفت في المدخل، رأيتك ترعين الشمس هناك، بينما أطارد فلول الغسق وأبحر في شغفي وأغرق فيك. سماوات من زرقة لا متناهية وأحلام تهبّ على الأزرق المختلف في بحيرة العطش. أشرب وأواصل عطشي، يا بحري ويا صحرائي، أفتش بلا هوادة عن شبيهي، فأهتدي إلى ما أحبّ: ضدي. بالطبع، إن كانت من مشروعية للقيام بتصنيف تاريخي مقتضب، لتحقق هذا النمط أو ذاك، وتدفقه في فترة معينة مقارنة مع تحققات أخرى. هل، نقول إذن بأن المسرح رسم بالدموع والسياط الأفق الممكن لمغرب الستينات، حيث تموضعت الثقافة باعتبارها أولا وأخيرا، سبيلا للتغير نحو مجتمع تسوده العدالة والإنسانية. بالتالي، فالمسرح بطهره وتطهيره ثم مختلف آلياته المنظوماتية مرتكزا على تيمة الصراع بين الخير والشر، تمرأى بالمطلق رغبة المغاربة في التحرر. بانتقالنا إلى سنوات الثمانينات والتسعينات نعاين قوة تبلور متون شعرية، وهي تلاحق مساحات الإخفاقات الفظيعة على مستوى مشروع حقيقي للمجتمع، وقد انكسر حلم بناء الدولة الوطنية بمقوماتها الاقتصادية والثقافية, فماذا عن القصة ؟ لن أستحضر هنا، تراجيدية المسرح، أو نوستالجية الشعر. بل، أتماهى مع القصة ككائن شعبي بامتياز. له قدرة هائلة على إبقاء رجليه لصيقة جدا بالأرض، يحافظ على هوية اجتماعية تسافر بكل حرية داخل جيولوجية الأشخاص، الطبائع والعادات. مرونة تتقن بالتأكيد ممارسة لعبة الخفاء والتجلي، الفر والكر، التقدم إلى الأمام، التراجع بخطوات للوارء...، بناء على موقف صميمي يتوخى تذويب العالم إلى حيز قابل للاستيعاب. هل اللغة مجرد إضفاء للمعنى، بقدر مستوى لا نهائية انفلاتاتها. أم القصة، كما نستهلكها حاضرا في المغرب، تمردت فعلا، على مسألة التهويل من هذه اللغة حد التقديس، كي تتعايش مع ميكانيزمات جديدة. اختلف مع هؤلاء الملتزمون بمعايير الكم والكتلة والزمان قصد لجم القصة بقاعدة جامدة. بصيغة أخرى، قد نعيش زمانا فيزيائيا للقصة، لأن أغلبنا يطوي شوارع مدينته هرولة، ينهش أية وجبة سريعة، يختزل كلا علاقاته بين أضلع هاتفه الخلوي، تصبح كل الموسيقى والتعبيرات الفنية مجرد كومة، يقامر بها هواة ال»بوكس أوفيس» » Boxe-office «. بينما، يوزن الشعر والرواية وما جاورهما بمعايير «رطلية»، من طرف ناشر/تاجر يحمل لواء الدفاع عن قارئ بسيط ساذج، نمطي، مُنوم مغناطيسيا، حيث القراءة مجرد تسلية، وليست تأسيسا على التأسيس. قد نشهد على لحظة مشتعلة حقيقية للقصة، لكن دون أن نلبس الأمر حلة «ريعية»، ونربط مصيرها بسوق التداول السلعي وفق سلاليم العرض والطلب. منطق، النشل الذي أزدهر أكثر مع الأمركة وتغلغل نموذج رعاة البقر Cow-boy مع مختلف حيثيات الليبرالية المتوحشة. القاص، ليس في عجلة من أمره أو يتلصص، فيشهر بالجميع. يلقي بالجرة نكاية بنا من أعلى نقطة. على النقيض، هو رجل حكيم، جريء، ناضج ما أمكنه الأمر، له قدرة جبارة على تليين وتطويع وتمديد وتجسيد ... أبعاد مساحات الوجود، بمنمنماته وماكروفيزيائيته. بعد، قراءة وصفية لمجمل المتن القصصي المغربي الحالي، بناء على التحديد النظري السابق وتجليات الخلق والسلب بين : الذات، العالم، اللغة. فإن، أهم إشارة تثيرنا، انغماس الشخوص والفضاءات وكذا الإحداثيات الزمكانية، وتشبعها بإيديولوجية «انقلابية» تستميل لغة «غدراء»، «محايدة» مضمونا وشفافة فكريا، تستمتع، فقط بمدارات حمولتها. ربما الصورة على المنوال التالي : شاهد فوق صرح، يسخر من الجميع وبمختلف الطرق والأوجه، لأنهم غارقون حتى رؤوسهم في مستنقع من العبث والتفاهة... . أغلب النصوص، تنطق بالروح العجائبية. سوريالية، لا تحاو ذاتها جماليا فقط، لأنها انعكاس لنقاشات وسجالات داخل الصالونات الأدبية. لكنها، أساسا بيانات «سياسية» تدعو لمجتمع بديل، تستجيب صحيا لأحلام ورغبات أفراده. إذا برزت إذن، خصوصية ما لقصتنا، فهو قطعها مع الأنساق المألوفة والمتداولة، وتفعيلها المثابر لماكينة التجريب مفهوما وأداة وماهية. لكن رغم ذلك، يحتاج هذا التجريب إلى سند نظري متين، يعطي للمسار القصصي المغربي، إمكانية إدراك آفاق أقواله. مع غياب التدليل المفهومي، يصبح التجريب مجرد متواليات جوفاء، فارغة مشلولة، منظومة لغوية يقتلها السأم والدهر، دون تصويب للوعي التأريخي، وتجذير متين لسياقات مخطط ثقافي مجتمعي. قد تتعدد أساليب التمرن وتتنوع لتأخذ مظاهر شتى. مسألة في كل الأحوال إيجابية، تكشف عن سعي المجتمع نحو الكتابة، وتسامي وعي أفراده، حيث انتقلوا من المستوى الحسي، البسيط في محاورة الأشياء المحيطة بهم، إلى منظور مغاير تماما أكثر رقيا وتحضرا. بالطبع، لا نفكر كثيرا مع هذا الوضع، في أحكام تقيمية تفرز الغث من السمين وتبويب للشروط الأدبية والجمالية. فتنطبق عليه معايير التحديد المؤسساتي، ثم يُصنف بكونه : أدباء. يعكس زخم التجريب، حدود ورقعة أوراش الكتابة القصصية، وطبيعة تلقيه من قبل الجسم الثقافي. لكن، الضبط المفهومي والمنهجي، يخلق وعيا بالقائم. بشكل مضمر، هل تجتهد الممارسة النقدية بالمغرب، كفاية حتى تنصت بانتباه يقظ وكثير من الحلم الإشراقي، لانسياب النصوص وتوالدها بقياس تجاوز كليا براديغمات الشروط التي تبلورها مؤسساتنا الثقافية. بالتأكيد، لا نحسم القضية بمعادلات الإيجاب والسلب وموازين الكم. بل نوعيا وكيفيا، بالاستناد على طبيعة متجددة للأسئلة يساجل عبرها، اشتغالات كتابات القصصيين. فإذا أمكن تمييز هاته الأخيرة، بنوع من «الانسجام»، بخصوص النسق والرؤية. في المقابل، من الواجب على النقد القصصي أيضا تنويع مقارباته وقراءاته، كي يلتقط بذكاء وفتوة، كلية الأوراش في تمظهراتها الإبستمولوجية والمنهجية. لقد برهن القاص المغربي فعلا، طيلة العقد الأخير على عمل واجتهاد دائمين، امتد صيته إلى كل العالم العربي. فكسر، بالتالي ذاك التقسيم الكلاسيكي المبتذل «الفاصل» بين مشرق يتفنن خاصة في إبداع الشعر والرواية وروافدهما، ثم مغرب تائه داخل مغارات التجريد، ينتهي إليها التأمل الجاف المرتبط بالفلسفة والميتافيزيقا وكذا علوم نظرية خالصة، بعيدة كل البعد عن رخاوة وإنسيابية الحكي الأدبي كما يصدره المشارقة. حضور، تُوج بحصول المغاربة على مجموعة جوائز تقديرية، وكذا تصدرهم لرتب متقدمة ضمن المتبارين في مسابقات إبداعية، كما بدأنا، نصادف باستمرار تواجد القصة المغربية بين طيات كل المجامع والمُصنفات المهتمة بملاحقة أهم النصوص العربية، سواء تلك التي أنتجها جيل الشباب الحالي أو الرواد الأوائل. إجمالا، احتلت القصة واجهة متميزة ودالة في المسارات الراهنة للثقافة المغربية. وضع، خفف نسبيا من عجزها حتى يومنا هذا على إنجاب روائي، بالمنحى الاحترافي للكلمة نتبارى به مع النماذج العربية الكبيرة ولما لا، الكونية.