شكوك كثيرة تحوم حول علاقة محتملة بين الإعاقة وزواج الأقرباء، شبهات باتت يقينا عند البعض، تتغذى وتنمو وتترعرع من السنة والإجماع إلى درجة اليقين أحيانا، لكن البعض الآخر يقلل من أهمية تلك الطروحات ويرى في نتائج الأبحاث العلمية المتقدمة حول أسباب الإعاقة ونتائجها حسما سريريا، لكنه غير مقنع، أحاديث نبوية وإسنادات لايتسع المقام للدخول في نقاش حول صحتها من ضعفها مثل ما هو الأمر بالنسبة لمفهوم الإعاقة أكان ذلك من المأثور أوالسنة، لكن القصة الواقعية التي نوردها تشكل بحق أرضية خصبة للتأمل في مسألة الإعاقة وعلاقتها المحتملة بزواج الأقرباء في ضوء حديث شريف «تغربوا فإن العرق دساس». عندما اقتنعت المساعدة الاجتماعية «حليمة» (49) سنة بفك الارتباط بزوجها بشكل نهائي، كان هناك سؤالان من بين أسئلة كثيرة في غاية الأهمية، يتوجّب عليها أن تجيب عنهما بمنتهى الصراحة والوضوح والشفافية اليوم قبل الغد، مرحلة ما بعد الزواج، ثم مصير ابنتيها التوأمين المعاقتين «يسرى وندى»، ذلك أن الإجابة بصدق عن هذين السؤالين ستريحها جزئيا أو كليا من مضاعفات قلق نفسي رافقها على مدى سنوات، كما ستزيح -دونما شك- عن صدرها المثقل بالهموم بعضا أو كلا من كلكل متاعب وجبال أوهام راكمهما زواج عائلي فاشل عمر زهاء ربع قرن، إذ كثيرا ما كانت تسأل نفسها بصوت مسموع، هل يتحقق كل ذلك حقا يا حليمة عندما يتم الطلاق؟! لكن قبل ذلك، ماذا تريد حليمة من الطلاق بعد زواج على سنة الله ورسوله دام 15 سنة من الارتباط الكفيف العفيف الذي أثمر طفلتين حاجاتهما صعبة جدا، غير راحتها وسعادة ابنتيها؟ وهل تقوى حليمة على ضمان مستقبل معاقتين وتدبير ملفهما الصحي والاجتماعي في غياب تغطية أب وتأمين صحي وفي بحر متلاطم من المتطلبات والمصاريف والمتاعب التي لا تنتهي؟! وكيف يمكن لطفلتين خلقهما الله بإعاقة شاملة نفسية وجسدية أن تعيشا بلا حنان في ظل نظرة مجتمعية موسومة بالاستهجان، وبإمكانات مادية شحيحة، مع ما يتطلبه علاجهما من مصاريف باهظة في ضوء راتب شهري هزيل لايتجاوز 2000 درهم، بل في كثير من الأحيان يكاد ينعدم؟ وهل الطلاق في مثل هذه الحالات حلا وسطا؟! سؤالان، يحتاجان للإجابة من حليمة بصراحة وصدق متناهيين مع الذات أولا، فإذا حصل العكس سيكون الأمر تضليلا للنفس وتعذيبا للأسرة الصغيرة والكبيرة بعد ذلك. بالنسبة للسؤال الأول: لقد كان الطلاق كما تراه من أبغض الحلال إلى الله عز وجل، والنساء مثيلاتها هن الأكثر معاناة في هذا الأمر، لكنها كانت ترى فيه السبيل الوحيد لعلاج حالتها البئيسة والمستعصية التي لايمكن فيها الإصلاح بينها وبين «مصطفى. ر» ابن عمها وأب بناتها في ذات الآن، لقد قدرت بعد تفكير طويل أن فراقها عنه ثم التفرغ للعناية بصغيراتها خير من اجتماعهما تحت سقف واحد على الأقل في الظرف الراهن، فالطلاق ببغضه وعلى علاته ومساوئه ظل المنقذ والخلاص، وبات أحد أهم طموحاتها وآمالها. «أنت السبب... أنت السبب يا حليمة، أنت مسؤولة أمام نفسك وأمام الله؟ وذنب الصغيرتين في عنقك يوم القيامة، كان عليك أن ترفضي الزواج بي، بل كان علي أن أرفض...؟ كلام جارح ظلت حليمة تتنسمه مع مرور الأيام والشهور والأعوام، كان مذلا وقاسيا بالنسبة لزوجة تقتسم الحياة والأمل، جرح انضاف ليزيد من حجم المعاناة التي صارت حليمة تعيش أوجاعها ليل نهار، فيغمى عليها وتنهار بين الفينة والأخرى، ولم تفلح محاولات عديدة أطلقها الأهل والجيران في تلطيف الأجواء وتهدئة الوضع والتخفيف عن النفس، حتى الإيمان بالإعاقة كقضاء وقدر لم يعد مقنعا ولا كافيا لردم الهوة التي باتت تتعمق يوما بعد يوم، واستبعد الأمل، وأقصي الإيمان وتم حجب المستقبل وما يخبؤه من فرج، وظل حلم إنجاب أطفال آخرين، مستحيلا وحلما بعيد المنال، ومع مرور الوقت، باتت عزيمتها وإصرارها على الطلاق أكبر من أي تهويل للحياة بعده، فيما استبعد مصطفى كل محاولة لإعادة الحياة إلى مجراها الطبيعي. أما ظهور أعراض مرض الصغيرتين، فقد رافق بداية التكوين الصعب لنمط الحياة بالنسبة للتوأمين، فقد ظل بروز أعراضه في التدرج ملحوظا بعد الولادة بأسابيع، لكن مصطفى لم يكن منفتحا على كل الشكوك والهواجس التي تمطره بهما حليمة كل مساء، حتى أنه كان يستقبل شكاويها بلامبالاة وعبثية، فصعوبة التبول والحركة والتكلم بالنسبة للطفلتين ظل يعتبره مجرد «فشوش» استمر أكثر من اللازم. أما الأمر بالنسبة لحليمة فقد كان جديا، وجاء حصيلة تجربة ومعاناة، وحلقات نقاش كلامي لاينتهي مع الجيران وممرضات مستشفى الحي. كما أن زيارة قريبة من ديار الغربة، جعلت الأسرة تفطن إلى أن ما تعانيه يسرى هو مرض خطير... فعلى النقيض من ندى، كانت حركاتها غير مدروسة، و نظراتها غير مركزة على مخاطبها وعلى مجموعة من الأشياء من حولها، وكانت تجد صعوبة في تمرير يدها، وصعوبة في التعاطي مع النظافة الخاصة. إلا أن كل هاته الأمور لم تكن لتزعزع اعتقاد الزوجين بأن طفلتيهما ستعودان مع العلاج والزمن طبيعيتين. فغلاف مالي يفوق 300 ألف درهم، لا يمكن أن يذهب مع الرياح. مشكل الإعاقة بات معروفا الآن، وعلاماته تظهر على الصغيرتين دونما عناء. الأسرة، الآن، على يقين بأن ابنتيها مصابتان بإعاقة نفسية وجسدية وعقلية... ولله الأمر من قبل ومن بعد. وجاء اليوم الذي لاحظ مصطفى رأس يسرى وقد انتفخ وتشوه حتى كاد ينفجر، فقرر زيارة الطبيب مرة وثانية إلى أن تأكد أن الأمر مزمن وأن الحياة تتعقد، والحلم الذي انتظره طويلا بات كابوسا مرعبا. في هذه الظروف بالذات، بدا مصطفى منحازا لوالدته وأخته، يعمل على استشارتهما في كل كبيرة وصغيرة، خاصة أخته التي تصغره بسنتين والتي منحها الله المال والجمال، ونأت بعيدا عن الطبقات المقهورة والفقيرة والمضطهدة، والتي اقترحت عليه الزواج ثانية، لكن من غير إنجاب، فوافق من حيث المبدأ، والتزم منذ تفتح ذهنه على الحلم الجديد على الصلاة والعمل، دون أن ينسى أو أن يغيب للحظة واحدة عن باله أنه ابن بار لوالدته، ملتزم بتوجيهاتها وما تشير به، وعلى رأسها قضية الفكاك من حليمة، وتدبير أمور النفقة والزواج ثانية. أما السؤال الثاني، فقد اقتنعت حليمة أن بعد الطلاق، يأتي التفكير في الصغيرتين «يسرى وندى» بحنان أقوى واهتمام أشد، وهما اللتان ظل نموهما طيلة السنوات الأولى طبيعيا ولم تسجل بشأنهما أية ملاحظات مرضية رغم حرص حليمة الدائم والمستمر على رعايتهما والاهتمام بحاجياتهما الضرورية من أكل ونظافة في ظروف أفضل، كانت المسكينة تتناول غذاءها في الحافلة أحيانا، أو لحظة مخطوفة، وكانت مشتتة الذهن دائما، ولاتنام إلا قليلا، مشتتة الفؤاد بين العمل وتربية يسرى وندى، ولما كانت السنتان اللتان أعقبا ولادتهما سجلتا تباطؤا ملحوظا على مستوى الاستجابة والتأثيرات، فإن اللآتي سيكون أسوأ، مع ما رافق ذلك من شجار ونقاش عقيم ملفوف بسجالات وردود أفعال سيئة في الغالب، وهو الأمر الذي اعتبره الزوجان أول الأمر محكوما برغبة جامحة في الاهتمام المبالغ فيه في إيفاء ابنتيهما كل ما يلزم من الحب والرعاية والفشوش أيضا. ورغم تطور الملاسنات حد السوء أحيانا، فسرت الأسرة ذلك من زاوية إيجابيته في تكسير نمط الوحدة القاسية التي عانا منها لسنوات، إلا أن ذلك كله كان ينتهي بعلامات استفهام حول مستقبل الصغيرتين في ظل نموهما البطيء، ويأس مصطفى الذي لم يعد زوجا ولا أبا، بل بات مثل ساعي البريد يصل مرة كل شهر أو لايصل. «اسمعي بابنت الناس، الآن، وصلنا إلى الباب المسدود، وباتت حياتنا في طلاق غير رسمي لمدة تزيد عن ثلاث سنوات، قرار الطلاق من المحكمة، في الطريق نفقتك، ولي دارو المخزن هو لكاين. وحقك غدي يوصلك حتى لدار على يدين الشرع». رجحت حليمة أن تعمل في حرية، وأن تحيا بعيدة عن وجع الدماغ الذي باتت هدفا له كل مساء، ورتبت التفرغ لتربية البنات في المرتبة الأولى بعد حصول الطلاق، فالوضع الأسري الذي بات عبئا ثقيلا، والحياة الزوجية التي لم يعد لها لون ولا طعم ولا رائحة، خاصة في الشهور الأخيرة، الكل سيصبح في خبر كان، لكن ما ظل يوجعها على الدوام ويسبب لها الأرق والكآبة تنام إحساس خطير لدى مصطفى، حين بات يعذب نفسه، ويلحق بها المهانة الأبدية جراء نعت زواجهما «بالعائلي الفاشل»، ارتباط جهنمي على حد وصفه أثمر طفلتين معوقتين «يسرى وندى» وسلسلة من الغم لا أول لها ولا آخر، فالزوج مصطفى ابن العم الشقيق لحليمة يشتغل حارسا ليليا في مصحة خاصة بات مرتبكا قلقا كئيبا لايتردد في إلقاء اللوم على الزوجة في مجالسه ومنتدياته، ليس بسبب كلفة العلاج قبل الحمل وتعاطيها لأعشاب مسمومة دون استشارته، بل لأنها من عائلته، فالدم كان السبب الرئيسي في حصول الإعاقة، بل يذهب بعيدا في تحميل الزوجة مسؤولية الإعاقة أمام الله، وذنب الصغيرتين وهو يسرد سلسة أحاديث نبوية تنبئ بعقاب شديد، مصطفى ثبت فوق السرير لوحة كتبت بالبنط العريض حديثا نبويا «تغربوا فإن العرق دساس» وهو حديث نبوي يرشد إلى الزواج خارج أنساق العائلة، تجنبا لكل تشوه خلقي. وجاء العلم ليؤكد بعض ذلك، نعم لقد ظل الزوجان عقيمين طيلة 15 سنة، وبعد سلسلة كشوفات وعلاجات وتحاليل لا أول لها ولا آخر جاء الحمل، وكان حدثا اجتماعيا شعبيا، فالولادة بعد عقم طويل شأن اجتماعي واحتفالي كبير وسط الأقارب والأهل والجيران، كان الحدث بدلالاته التقليدية بمثابة ترجمة أمينة وحقيقية لمشاعر إنسانية غاية في النبل، حيث يستطيع كل من حضر حفل العقيقة أن يصفه بأنه تكريم إلاهي وهبة إلاهية فضلا عن كونه حدث اجتماعي وشعبي بكل المقاييس، ليس بسبب الكبشين وحوالي 100 دجاجة وأنواع الفاكهة وعدد المدعوين الذين فاق عددهم 200 شخص، ولكن لإدارة الحفل الذي أشرف عليه ممون حفلات معروف في المدينة كلف الأسرة 30 ألف درهم، فحدث الولادة وحده كان كافيا للاندفاع نحو الفرح بلا كوابح، كما لو أن الأمر حدث القرن. يعتبر الطلاق ظاهرة غير محببة، لأنه قد يجلب العديد من المشكلات خاصّة على الأسرة، التي فيها أطفال أسوياء لم يبلغوا سن الرشد بعد الطلاق، بالأحرى أن يكونوا من ذوي الاحتياجات الخاصة، نعم قد يكون ضروريا وقد يتم الطلاق باتفاق الطرفين، أو بإرادة أحدهما، وهو موجود لدى العديد من ثقافات العالم، لكن صيانة حقوق الأطفال من هذه الفئة وكفالتهم لابد من ضمانها من طرف الدولة، حقوق تعني ضمان كافة المستلزمات والاحتياجات للأطفال من ذوي الحاجات الصعبة لكي يكبروا وينموا ويتعلموا في جو صحي وأمين ولتحقيق إمكانياتهم الكاملة كأعضاء في المجتمع خاصة في غياب دور فعال للآباء في التكفل والعناية بأبنائهم الذين يعانون من إعاقة ذهنية. بمناسبة اليوم الوطني للمعاق الذي يصادف 30 مارس من كل سنة، استضافت القناة الثانية مجموعة من المسؤولين والفاعلين الجمعويين للتحسيس بأهمية العناية بالمعاقين ذهنيا، والعمل على إدماجهم في المجتمع والحياة الدراسية والمهنية حليمة كانت حاضرة، وربطت علاقات مع فاعلين اجتماعيين. ومن الحسنات أن تلك العلاقات أثمرت باستضافة التوأمين يسرى وندى والعناية بهما. يسرى وندى الآن تعيشان في أحضان جمعية تعنى بشؤونهما، وهو عمل إنساني نبيل. ورغم أن حليمة تزورهما بين الفينة والأخرى، إلا أنها تؤدي فاتورة زواج لم يكن بمحض قناعتها، وباتت على اقتناع تام بمضمون الحديث الشريف «تغربوا فإن العرق دساس».