هاورد لافرانشي بالنسبة للرقيب تود باورز ، شكلت سنوات أميركا الست في العراق إنجازاً ومأساة تختزلهما على نحو جيد حياةُ رجل واحد هو عراقي تعرف عليه اسمه مفيد . كان ذلك عام 2005 وكانت الفلوجة معقلا للمتمردين ومنطقة حرب، حيث المباني تُقصف والقذائف تتطاير، كيفما اتفق، في مختلف الاتجاهات. ووسط هذه الفوضى، يقول الرقيب باورز الذي عمل في العراق لمناوبتين: جاءنا ذلك العراقي وقال لنا: كيف لي أن أساعدكم؟ . وكانت تلك لحظة مفصلية بالنسبة للوحدة العسكرية التي كان يقودها باورز إذ يقول: « لقد مثل ذلك علاقة من النوع الذي ينبغي إقامته على المستوى المحلي من أجل البدء في قلب وتغيير منحنى الحالة القائمة». غير أن مفيد قضى في وقت لاحق من ذلك العام، حيث اغتيل أمام عائلته لأنه تعاون مع الأمريكيين؛ واطلع باورز عن قرب على تكلفة الحرب ومآسيها بالنسبة للشعب العراقي. واليوم، أخذت تخبو معظم أعمال العنف التي أودت بحياة مفيد وأزهقت أرواح آلاف المدنيين العراقيين الآخرين، وكذلك الحال بالنسبة للوفيات والإصابات في صفوف القوات الأمريكية التي باتت اليوم أقل من أي وقت مضى منذ بدء الغزو في .2003 وإذا كان جل الخبراء -ناهيك عن العراقيين- لا يتحدثون عن نصر في العراق، إلا أن الحكومة بدأت تدريجياً تتحمل مسؤوليات أكبر عن شؤونها الخاصة. وفي هذا الإطار، تقدم الانتخابات العامة المقررة في نهاية العام الحالي الأمل في أن يخطو العراق خطوة أخرى نحو الأمن والاستقرار اللذين لم يعرفهما منذ عقود. وهذا ما منح الرئيس أوباما الثقة للتخطيط لانسحاب ثلثي الجنود الأمريكيين الـ145 ألفاً الموجودين في العراق بحلول خريف .2010 وقد أرجئ انسحاب القوات الأمريكية بهدف ضمان أكبر قدر ممكن من التغطية الأمنية خلال فترة الانتخابات؛ غير أن للعراق صورة مختلفة قليلا حين يرويها أمريكيان تعرفا إلى البلد جيداً: الجندي باورز المذكور، والخبير في إعادة الإعمار بول هيوز، اللذان تشير وجهتا نظرهما في الذكرى السادسة للغزو إلى إنجازات مثل النجاح في الفلوجة، ولكن أيضاً إلى الصعوبات التي تلوح في الأفق -من صعود التيار الديني المحافظ إلى التصدعات الطائفية النائمة التي يمكن أن تطفو على السطح بعد انسحاب الأمريكيين. عندما تلقى خبر إرساله إلى العراق، كان باورز متدرباً في مكتب النائب السابق عن ولاية أريزونا في الكونجرس جيم كولبي في أوائل .2003 وبعد أسبوع على ذلك كان باورز على متن سفينة متجهة نحو الشرق الأوسط، ثم إلى ما سيصبح لاحقاً غزواً للعراق. وحين أُرسل إلى هناك لأول مرة، كانت لديه فكرة عامة فضفاضة حول أهمية حماية المدنيين العراقيين وأمنهم؛ غير أنه لم يبدأ حقاً في استيعاب مدى أهمية علاقة الأمريكيين مع الشعب العراقي بالنسبة لاستقرار البلاد إلا حين عاد إلى واشنطن لدراسة اللغة العربية وشؤون الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن. وبعد رؤية سلسلة من الأحداث، مثل بتر وحرق جثث أربعة مقاولين أمريكيين في الفلوجة في أبريل ،2004 وجد باورز نفسه يتساءل: « لماذا تمضي الأمور بهذا السوء؟». تزامن ذلك تقريباً مع الوقت الذي بدأ فيه بعض الضباط الأمريكيين مناقشة الحاجة إلى مقاربة مختلفة في العراق ، معتبرين أن من شأن ذلك أن يؤدي في النهاية إلى زيادة الجنود الأمريكيين والتركيز على كسب ود السكان المحليين. وقد حظي باورز ، بفرصة تطبيق مقاربة المدنيين أولا خلال مناوبته في الفلوجة -ولكن ذلك كان اختباراً صعباً، كما يحكي، نظراً إلى أن هدف المعركة كان تطهير المدينة من أنصار القاعدة الذين كانوا يسيطرون عليها. ويقول: «ليس من السهولة نسج العلاقة اللازمة من أجل النجاح على المدى البعيد حين يبدو كما لو أن هدفك هو تفجير المكان، ليس أكثر». وربما لم يكن باورز يستطيع تحقيق النجاح لولا مفيد الذي كان بمثابة همزة الوصل بين الأمريكيين والسكان، ولعب دوراً أساسياً في بناء الثقة بين الجانبين، كما يروي باورز ، حيث ساعد الأميركيين على الاتصال بوجهاء وأعيان الفلوجة الذين كانوا يرغبون في التخلص من حركة التمرد، ويقول «لقد ساعدنا على توضيح الفكرة المهمة التي كنا نريد توضيحها، والمتمثلة في أنه ليست الولاياتالمتحدة هي التي تقوم بهذه الأشياء -مثل إعادة توفير الخدمات أو إنشاء المجالس المحلية من أجل العراقيين- وإنما العراقيون الذين يقومون بها من أجل أنفسهم . وقد سمع باورز تقارير إخبارية حديثة تفيد بأن قوات المارينز في الفلوجة تقوم اليوم بدوريات هناك بدون خوذات، وهو ما يعني بالنسبة له أن عمله -وعمل مفيد- قد آتى أكله. ويقول الرقيب، الذي يشغل حالياً منصب مدير الشؤون الحكومية بالنسبة لقدماء المحاربين الأمريكيين في العراق وأفغانستان إنه«يمكن أن نتعثر مرة أخرى، ولكن الطريق الذي تركناه أصبح أكثر يسراً نظراً لما تعلمناه». وبينما يستعد للذهاب إلى أفغانستان هذه المرة في وقت لاحق من هذا العام، يقول باورز إنه سيحمل معه درساً عظيماً«إن التقرب من الناس عبر المصافحة باليد بدلا من شفرة البنادق هو دائماً أنجع وأكثر فعالية حين يتعلق الأمر بعمليات محاربة التمرد . أما الخبير بول هيوز فقد زار العراق ثماني مرات منذ الغزو. ذهب مع الجيش، وذهب كخبير في إعادة الإعمار، وأخذ مجموعة دراسة العراق في زيارة لتقصي الحقائق في .2005 ولكن أكثر ما يتذكره من كل ذلك لحظتان تشيران إلى الإخفاقات الأولى والنجاحات التي تلتها، والتي باتت تميز الحملة الأمريكية في بلاد الرافدين. اللحظة الأولى تبدأ في حفل شواء بمقر القوات الأميركية في العراق أواخر مايو2003، أي بعد نحو 10 أسابيع من الغزو، حين جاء خبر يفيد بتعرض مركبتي هامفي لهجوم أسفر عن مقتل جنديين أميركيين على الطريق المؤدي إلى المطار. وكانت تلك، بالنسبة لهيوز، بداية حركة التمرد، وجاءت بعد خمسة أيام فقط على اتخاذ الولاياتالمتحدة القرار المشؤوم القاضي بتفكيك الجيش العراقي. وكان الأمران مترابطين عملياً، كما يقول هيوز، فما كان العديد من المسؤولين الأمريكيين يعتقدون خطأ أنه سيكون تنحية سريعة وبدون مشاكل للنظام البعث سيصبح في الحقيقة حرباً طويلة وغير متوقعة. ويقول هيوز الذي كان يعمل ببغداد في مايو 2003 مساعداً للجنرال جي جارنر أول حاكم أمريكي في العراق لمرحلة ما بعد الغزو«كان ذلك مؤشراً على ما هو قادم». ولم يبدأ هيوز يشعر بحدوث تغيرات مهمة في السياسة الأمريكية إلا بعد أربع سنوات على ذلك التاريخ خلال مهمة في المحمودية -وهو حي يقع في ما بات يعرف بـ مثلث الموت جنوب غرب بغداد. حيث كان اللواء الأمريكي الذي كُلف بمهمة تأمين المنطقة والسيطرة عليها خلال زيادة القوات الأمريكية في البلاد يجد صعوبة في التقرب من السكان المحليين؛ وكان الجنود يُقتلون ويخطفون، والزعماء الشيعة المحليون يرفضون العمل مع نظرائهم السنة؛ ولكن بعد أشهر من الجهود المضنية تم التوصل إلى مخطط للمصالحة. ويقول هيوز، الذي يشغل حالياً منصب مسؤول البرامج في معهد السلام الأمريكي: «إن ما وقعه زعماء المحمودية كان اتفاق سلام أصبح معروفاً بين العراقيين بنموذج المحمودية . ويقول هيوز إن هذه التجربة وغيرها علمت الأمريكيين درسين مهمين، أولهما يتمثل في مدى سوء استعدادهم لما يعقب الحرب، وثانيهما يتمثل في مدى أهمية وجودهم بالنسبة للعراق لسنوات عدة مقبلة. وعن ذلك يقول: نحن في الولاياتالمتحدة اليوم مدركون جداً لنقاط ضعفنا بخصوص التعامل مع مرحلة ما بعد الحرب... وهناك في الوقت نفسه حاجة حقيقية لبقاء أمريكا هناك لبعض الوقت، بشرط أن يطلب العراقيون ذلك ويوافقوا عليه... لأن مسؤوليتنا هي مساعدتهم على التغلب على صعوبات بناء مجتمع مستقر وعادل واقتصاد مفتوح وحر وقوي .. عن «كريستيان ساينس مونيتور»