لم أكن أعلم، ولا حتى أن اتصور، أن تعييني كمدير لمكتب الجريدة بالرباط سيجر علي كل هؤلاء الاباء، فالعبد الله، او عبد الحميد هذا، حتى هذا الوقت، كا ن له أبا واحدا، هو الحاج والفقيه السي مولود أطال لي الله في عمره و رحمه حيا، وميتا بعد عمر طويل، كما رباني صغيرا. لكن ما ان وطأت قدماي الرباط حتى اكتشفت ان لي اباء كثر، لا يكفون عن التناسل يوما بعد يوم، ولانهم اما انهم بدون ابناء، او انهم يعانون من فرط الابوة الزائدة، فقد نزلوا فيّ نصائح وارشادا ووعظا وترهيبا وتحذيرا، حتى إنهم حذروني من نفسي الأمارة بالطيبوبة البليدة والخلق الحميد الذي لا ينفع غرا مثلي في هذا الوقت المتلون، الذي لا ينجح فيه مسؤول الا بقدر ما يكون طاحونة تدق الدقيق والهش والمهذب المشذب، والقوارير، وبقدر ما يكون له قلب بلا قلب، حسب زعمهم، يجر من تحت قدميك البساط، ويحسب الطريق امام خطوه بسنتيمترات ما يسقطه من جثث وقتلى! هكذا وجدتني في غابة من الاباء والامهات ايضا، طفلا اصغر من ان اخطو وحيدا، وقد نبتت لي في كل يد اياد خرجت منها هي الاخرى اياد اخرى، كما يحدث مع شجر الغاب تماما، وكل يد يمسك بها أب أو أم «يددشونني» من اليمين والشمال وهم يصيحون: «دادوش أمومو.. دادوش.. و أوپلالا ..» عندما يقفزونني، ولا أعلم ان كنت اقفز من فزع او من فز، فأنا مجرد مومو على كل حال، ومن اين لي بعلم التلون. فلا امي حرباء، ولا ابي ثعلب. وهكذا وجدتني طفل الجميع في العاصمة، او اكاد اجزم اني طفله الوحيد، يخافون علي من نزلات البرد ومن نزلات الصهد، يدثرونني بعطفهم الزائد، ومعاطفهم الثقيلة، ولولا ان الله الكريم العظيم من علي بالختم على سمعي وعلى قلبي ازاء كل وشوشة او وسوسة او هسهسة، لكنت الان جالسا في المكتب او وانا اخطو في الشارع، او اقف في الكونطوار، وانا خائف مرعوب، مرهوب وراجف ومفزوع، لاني -و العهدة عليهم دائما -ولجت الغابة بلاسكين ولا ساطور وبعباءة البلادة، واني سأترك ريشي في الدغل، ولن اخرج منه الا منتوفا وعهنا منفوشا، او في احسن الحالات كعصف مأكول! هكذا حذروني من الكرسي حيث اجلس لانه -والعهدة عليهم ايضا - مليءبالمسامير الصدئة، وبه سكاكين حادة ان اسندت عليه ظهري، وحذروني من ان اذهب بعيدا في النية فاشرب القهوة في العمل بعيدا عن بيتي، وحذروني من ان اشرد او اغفو او اغفل او تأخذني سنة من السهو فالمتربصون بي هم من استدعوا كل هذا الجيش من الاباء ليأخذوا بيدي. ولاني وحيد ولي اب واحد ورب واحد، لم اشأ ان اسألهم عن ابنائهم، ولا الي اين ساقوهم بكل هذا الترهيب، ولا الى اي سؤدد او سواد اوصلوهم، ولا عن اية ثقة في النفس اللوامة قد تولدها هذه التحاذير. ولأني اكاد اجزم اني طفلهم الوحيد، لم اسألهم عن ابنائهم، او عن اخوتي المفترضين، -اذ من عادتي ان احب الذين لا اعرفهم ولا يعرفونني، فهم كلهم خير عندي ولم يمسسني شرهم ابدا - لذلك اعطيتهم اذني التي ختم الله عليها ازاء الوسوسات، وتركتهم ينزلون عليها بالنصائح فنصحوني بالا اجلس في مقهى «پول» فهي قريبة جدا جدا من المكتب، والا اعرج عند المغادرة على «طنجة» ففيها المشاؤون بنميم حسب زعمهم دائما، وكل حركاتي وسكناتي او سكراتي تصل، واني اذا اردت ان اكون مسؤولا، علي ان اكون كمسؤولي الرباط، اي أن اكون لا مرئيا، لا يراك احد تمشي في الاسواق او في الشوارع، تنزل من السقف مباشرة الى المكتب، وتعاود التحليق من حيث اتيت، وألا تكلم الناس الا ب SMS او ب EMAIL حتى وان زارك زارادشت او اميل لحود! كانوا يخاصمونني مع نفسي، لم اشأ ان اقول لهم دعوني اشرب عرقي حلالا كما تعودت، واني وحيد ولي اب واحد، ورب واحد، ولم اشأ ان اقلب الطاولة على تحذيراتهم، ولم أشأ ان اقول لهم اني جبل ولست سهلا كما يزعمون، واني لن استبدل ظفر الاصبع الاصغر من قدم ابي بكل هاماتهم وقاماتهم.. لذلك اكتفيت من القول بالخجل، واعتذرت.. فيا ابائي عذرا.. فاني اكاد أكون أباكم جميعا.