نعم الإنسان كان»، بهذه الكلمات المتأثرة تحدثت إحدى المشرفات على علاج الراحل الخطيبي في آخر أيامه التي قضاها بمستشفى الشيخ زايد. قبل ولوجه المستشفى، لم تكن صفاء تعرف عنه الكثير اللهم كونه يحظى بعناية ملكية. لكن مرور الأيام والاحتكاك اليومي معه وطبيعة الزوار الذين كانوا يترددون على غرفته باستمرار أشعل في دواخلها نوعا من الفضول للتعرف عليه. تقول صفاء: «لقد كان إنسانا محبا للحياة، لا يخشى الموت ولا يتوان في مناقشة تفاصيل مرضه مع كل من يزوره. كان لديه إيمان راسخ بأن هذا المرض، وإن كان سيتسبب في جعل شرايين قلبه تدخل في إجازة أبدية، لن يقطع حبل الوصل بينه وبين عالم الكتابة والأدب. الخطيبي لم ينتظر أن تنتهي فترة النقاهة لكي يستأنف نشاطه المعتاد، بل كان مواظبا، وهو في سريره أو فوق أريكته، على مطالعة مختلف الكتب والجرائد والمجلات، كما كان مصرا على عدم تعطيل علاقات عمله بسبب تلك الوعكة». «ورغم ذلك الإجهاد الذي كان يفرضه على نفسه، إلا أن روحه المعنوية المرتفعة كانت تبث في نفس الأطباء والممرضين نوعا من الإطمئنان على حالته. ابتسامة عريضة، واثقة وصادقة لم يكن يتوان في توزيعها على من كانوا حوله. بساطة في التعامل وتواضع كبير يجعلانك تنسى أنك تقف أمام هرم علمي نقش بحروف بارزة اسمه في عوالم اللغة واللسانيات والأدب. غير أن هذا الأمر أكد لي بالملموس صدق مقولة أن «ملأى السنابل تنحني تواضعا، والفارغات رؤوسهن شوامخ». كما أنه كان معتزا بلغته العربية أيما اعتزاز، رغم أن جل كتاباته صدرت باللغة الفرنسية. فهو لا يتكلم بالفرنسية في محادثاته اليومية إلا لماما عندما يرد على من خاطبه بها، وعدا ذلك فهو يتحدث بدارجة مغربية «متولة ومطروزة»». «تلك البساطة كانت كفيلة برفع كل الحواجز بين المريض ومعالجه. لم يكن يتوان في التحدث عن أيام طفولته في مدينة الجديدة، التي يعتز بالانتماء إليها، دون أن يغفل انتماءه الآخر لمدينة فاس العريقة التي ينحدر منها والده العالم، الذي كان فارقه في سن مبكرة». تبتسم قبل أن تستطرد: «حتى أبناؤه كان كثيرا ما يحدثني عنهم وعن عشقه لهم». تواضع الخطيبي وبساطة تعامله ما كانا ليدفعانه للتخلي عن مبدأ أساسي في حياته وهو النظام. تقول صفاء: «لم أر شخصا يصر على أن تسير حياته وفق نظام محدد كما كان يفعل الخطيبي». تشرد بذهنها بعيدا وكأنه تأبى إلا أن تستلذ تلك اللحظات التي كان يطلب فيها بلباقة قل نظيرها أن يقوم الفريق الطبي بإخباره عن موعد زياراتهم لإجراء الكشوفات ومعاينة حالته الصحية لكي يتسنى له وضع برنامجه اليومي. تقول صفاء: «كان يقول لي إنه تعود منذ طفولته المبكرة على وضع برنامج يومي يجبر نفسه على احترامه. وهو ما انعكس على شخصيته وسير عمله، إذ ترى الأفكار تنساب منه في تناسق مثير، ولا أستغرب أن يحظى بهذه المكانة المرموقة بين كل الذين التقوه أو قرأوا له». «صحيح أن الخطيبي قد غادرنا، لكنه علمنا كيف نوثق لخلودنا، وكيف نرسم ابتسامة صادقة على شفتينا ونزرع الأمل وحب الحياة في الآخرين، حتى وإن كنا على عتبة الرحيل».