وصف أحد الحكماء القائد التاريخي، بأنه من عرف كيف يمنع حدوث المعركة أكثر ممن خاضها وانتصر فيها. فالأول سياسي محنك من الطراز الرفيع، أما الثاني فمجرد قائد عسكري بارع. فأين الرئيس جورج بوش من هذا التوصيف بعد ثماني سنوات على قيادته لأكبر دولة فاعلة في عصر العولمة والنظام العالمي الجديد ؟ في قراءة مختزلة وسريعة لحكم الرئيس بوش، يتبين انه لم يحقق أي إنجاز يذكر على المستويين السياسي والعسكري. فكانت النتيجة المعترف بها من جانب حزبه، أن الولاياتالمتحدة في نهاية عهده أضعف بما لا يقاس عما كانت عليه في مطلع حكمه، وأن انتصار خصومه في الحزب الديموقراطي على حزبه الجمهوري وإيصال أول رجل اسود لقيادة البيت الأبيض، شكلا هزيمة مدوية لسياسة بوش وأعوانه من المحافظين الجدد. وسرعان ما تساقطوا تباعا وابتعدوا عنه بعد أن تأكدوا من عقم سياسته وبؤس مقولاته السياسية والثقافية والاقتصادية، وهزال الأداء العسكري للقوات الأميركية في جميع المناطق التي أرسلت إليها. نتيجة لذلك اهتزت ركائز السيطرة الأميركية في عقر دارها، وفي أميركا اللاتينية بشكل خاص. فبات التحرك العلني ضد سياستها سمة بارزة لدى كثير من دولها الكبرى، كالبرازيل، والأرجنتين وفنزويلا، وكولومبيا وغيرها. بالمقابل، وبعد أن تكثفت المصالح الأميركية في مجالي النفط والغاز والتوظيفات المالية منذ عقود طويلة في الشرق الأوسط، باتت هذه المنطقة الأكثر سخونة في العالم. فهي بحيرة للنفوذ الأميركي، تحرسها بعناية فائقة القواعد العسكرية الثابتة، والأسطول السادس الأميركي المقيم بشكل دائم في البحر المتوسط. هذا بالإضافة إلى الترسانة العسكرية الإسرائيلية الموصولة بالترسانة الأميركية، وتدعمها دول الاعتدال العربي من أجل بناء مشروع الشرق الأوسط الكبير. وقد تسرع الرئيس بوش ووزيرة خارجيته في أكثر من مناسبة بإعلان انتصار هذا المشروع الذي يشكل حلقة مركزية بالغة الأهمية بالنسبة للسياسة الأميركية في هذه المنطقة. وقد انطلقت الإدارة الأميركية لتنفيذ هذا المشروع على خلفية الهجوم الذي تعرضت له الولاياتالمتحدة الأميركية في 11 شتنبر. فتتالت حروب بوش الخاطئة والفاشلة على العراق، وأفغانستان، ولبنان، وأخيرا على غزة. وذهب ضحيتها ملايين القتلى، والجرحى، والمشوهين، والمشردين من ديارهم. وباتت منطقة الشرق الأوسط مسرحا لتفجير النزاعات الداخلية، وامتداداتها الإقليمية والدولية المتناحرة. لكن حذاء منتظر الزيدي، رسم قبلة الوداع لعهد الرئيس جورج بوش بصورة دراماتيكية قل نظيرها في التاريخ الأميركي. وذلك يطرح تساؤلات منهجية عن المسار الثقافي والسياسي الخاطئ لهذه الشخصية البائسة. 1 توهم الرئيس بوش أنه مرسل من العناية الإلهية لإنقاذ البشرية. وانه يحمل رسالة سماوية إلى سكان الكرة الأرضية. وانه الأمين على الديموقراطية الأميركية، ومن واجبه أن يذيق حلاوتها بالقوة لكثير من شعوب العالم بعد القضاء على أنظمتها المحلية بالقوة الأميركية، على غرار ما جرى في العراق ويجري في أفغانستان. 2 وبما أنه رئيس غير متزن، ويؤمن بالغيبيات الخرافية التي عممتها الدعاية الصهيونية حول اقتراب موعد نهاية العالم وعودة السيد المسيح، فقد اعتبر نفسه في طليعة القوى المسيحية ذات الارتباط الوثيق بالصهيونية، كي تتحقق النبوءة التوراتية. فباتت المسيحية الصهيونية شديدة الصلة بهذا المشروع السياسي ذي البعد الأسطوري الذي يعمل على قيام دولة إسرائيل الكبرى بين الفرات والنيل تحت ذرائع لاهوتية لا أساس لها في الفكر الديني المسيحي. فالنصر الإلهي لليهود يناقض تعاليم المسيحية التي لم تبشر بتحالف المسيحيين مع اليهود لتسهيل عودة السيد المسيح. فتسببت تلك المقولة بضرر فادح للمسيحية المشرقية وقادت إلى تهجير مئات آلاف المسيحيين المشرقيين العرب تحت وطأة الصهيونية العنصرية من جهة، والمد الديني الإسلامي الأصولي المناهض للمشروع الصهيوني بمختلف الوسائل، وفي مقدمتها البعد الديني، والتبشير بالنصر الإلهي المعاكس من جهة أخرى. 3 ساندت إدارة بوش شخصيات إسرائيلية ضعيفة ولديها تاريخ حافل بالفساد والهزائم من أمثال شارون، وأولمرت، وباراك، وليفني وغيرهم. وهم من أكثر قادة إسرائيل ضعفا، لكنهم الأكثر تعطشا لرسم أمجادهم بالدم الفلسطيني عبر مختلف المجازر، والسجن، والمصادرة، وبناء المستوطنات، والجدار العازل وغيرها. وقد بان عجزهم في الاختبارات السابقة. وحوكموا بالتقصير من جانب المحاكم الإسرائيلية. وفي سبيل الحصول على مكاسب انتخابية حزبية تم استخدام الجيش الإسرائيلي كي يمارس اشد أنواع القتل دموية عبر حصار غزة، وتجويع شعبها، وضرب المدارس، وقتل الأطفال، والنساء، والشيوخ تحت ذرائع واهية. 4 عطفا على الملاحظة السابقة، ورغم تأييد الرأي العام الإسرائيلي بنسبة عالية للحرب على غزة، فإن ردود فعل المتنورين من اليهود بدأت تتسع لتدين هذا الأسلوب الهمجي الذي يتناقض مع تعاليم أي دين سماوي. فهناك حاخامات أحرقوا جوازات سفرهم الإسرائيلية أمام وسائل الإعلام. وكانت لبعض المفكرين اليهود مواقف بارزة من أمثال نعوم تشومسكي وغيره. لكن الحرب الهمجية على غزة أخرجت المؤرخ الفرنسي الشهير، اندريه نوشي، عن صمته، فوجه رسالة إلى سفير إسرائيل في فرنسا، شكلت نقلة نوعية في مواقف النخب الثقافية الليبرالية اليهودية تجاه دولة إسرائيل. وقد وصلتني نسخة منها عبر الانترنت في 11 يناير 2009، أقتطف منها مقاطع ذات دلالة ثقافية حول مستقبل إسرائيل ضمن منظومة الشرق الأوسط: «أكتب هذه الرسالة بصفتي فرنسيا، يهودي المنشأ، ولعبت دورا فاعلا في توقيع اتفاقيات التعاون بين جامعتي نيس وحيفا. فمنذ سنوات عدة، أثار سخطي استعمار إسرائيل لفلسطين واغتصاب أراضيها. أما اليوم، فلم يعد الصمت ممكنا أمام سياسة الاغتيال والتوسع الامبريالي لإسرائيل. تتصرفون تماما كما تصرف هتلر في أوروبا، وتزدرون قرارات الأممالمتحدة، كما استخف هتلر بقرارات عصبة الأمم. تغتالون النساء والأطفال دون خوف من عقاب، وتتخذون من تفجيرات الفلسطينيين وانتفاضتهم ذرائع لجرائمكم. تتصرفون كمغتصبي الأراضي وتضربون بعرض الحائط تعاليم الأخلاق اليهودية. الخزي لكم وبئس الدولة إسرائيل. فأنتم لا تعون أنكم تحفرون قبوركم بأيديكم، ولم تدركوا أنه محكوم عليكم بالعيش معا مع الفلسطينيين والدول العربية. ولئن افتقدتم هذا الإدراك السياسي، فلستم أهلا للقيادة وعليكم الاستقالة. إن بلدا يغتال رابين ويعلي شأن من اغتاله، هو بلد يفتقر إلى الأخلاق والقيم. أرجو أن تلحق بكم هزائم أخرى كهزيمتكم في لبنان عام 2006 . ولما كانت تنقصكم الشجاعة لإبرام الصلح مع العرب، تشبهتم بجلاديكم النازيين، ولم يعد ثمة فارق جوهري بين قادتكم وقادة ألمانيا النازية. ولسوف أحاربكم بكل ما أملك من قوة كما حاربت النازيين». ليس من شك في أن هذا الخطاب يعبر بوضوح قاطع عن مدى الضرر الذي ألحقته سياسة بوش وإدارته في دعمها لأكثر القيادات الإسرائيلية فسادا وضعفا. فسياستهم الإجرامية تهدد مستقبل إسرائيل، وتسيء إلى سمعة اليهود في جميع أنحاء العالم. ختاما، لقد أضعف بوش الولاياتالمتحدة وأساء إلى دورها، وأضعف اقتصادها، وشوه سمعتها على المستوى العالمي. وقد أسس لعولمة همجية قادها طوال فترة ولايتيه، وارتبطت باسمه حروب كثيرة، وسجون أبو غريب وغوانتانامو، وسياسة القروض الفاسدة والإفلاسات الكبيرة. وساند الفاشلين من قادة إسرائيل والنصابين من يهود الخارج من أمثال أصحاب بنك ليمان، والمحتال العالمي ماديروف الذي تسبب بكوارث مالية قاربت الخمسين مليار دولار، وطالت متمولين من اليهود ومن دول الاعتدال العربي. وسيذكر التاريخ الرئيس بوش حتما، لكن في جانبه الأكثر سوادا. وقد برع المسرحي الألماني «بريشت» في وصف هذه الظاهرة بقوله: «ليس هناك مجرمون كبارأو مجرمون صغار بل مجرمون عاديون ارتكبوا جرائم كبيرة أو صغيرة، ويجب سحقهم تحت أقدام السخرية». وجورج بوش الرئيس الفاشل بامتياز، ارتكب جرائم كبيرة بحق الإنسانية، فاستحق حذاء منتظر الزيدي، وديس تحت أقدام السخرية. مؤرخ واستاذ جامعي