هكذا نتوخى من برنامج تلفزيوني عمومي، وهكذا سنكون فخورين بتلفزتنا التي ننتقد أحيانا غيرة عليها ودفاعا على حق المشاهدين في الجودة... المسألة نسبية طبعا.. موعد المشاهدين مع الحلقة الأخيرة من برنامج «الوجه الآخر» كانت لحظة تلفزيونية بامتياز، وسجلت من خلالها القناة الثانية ألف نقطة ونقطة... أتخيل البيوت يسودها الصمت وهي تتابع.. أتخيل الأحاسيس والمشاعر تتحرك في الوجدان.. وأتصور الدموع تسيل على الخدود والتأثرات البالغة في الأفق... دور التلفزيون هو أيضا تعرية الحقائق المخفية ورفع الستار على الوقائع المزرية، والفضخ والتنديد من داخل فضاء تتحرك فيه الأشجار نهارا والناس نيام. فضاء مستشفى الطب النفسي بمدينة برشيد... كنا نمر بجانبه ونجهل ما بين جدرانه من آلام ومأساة عارمة وأقل بكثير من أبسط الشروط الموضوعية للحياة الانسانية الكريمة... فما جدوى الحديث عن حقوق الانسان ودولة الحق والقانون، وأناسا بالقرب منا يتعذبون فوق الأرض بهذه الطريقة وفي هذه الحالة الفضيعة.. صوت المرضى تتفجع... عالم في عالمنا ونحن به جاهلون، أو بالنسبة للآخرين، متجاهلون... تدخل الكاميرا لتصدر لنا عالما مخيفا بحق.. لا فرق بين الحياة والموت إلى تلك الأكلات التي سترفضها الحيوانات ولا محالة في حديقتهم بالبلدان التي على البال... الوضع أكبر مما يتصور ومع ذلك تم تصويره لزعزعة كياننا... وضع بل قل أوضاعا يندى لها الجبين مرات ومرات... من هم المرضى بل من هم المجانين؟ وماهي حدود الجنون؟ ومن أين يبدأ وإلى حد ينتهي؟ المجنون الحقيقي هو المجتمع الذي يتنكر لهؤلاء المرضى... ما ذنب ذلك المريض الذي يسعى إلى تحرير غزة من المجانين الحقيقيين؟ خرافة! .. جنون أيضا تلك الظروف غير الانسانية التي يشتغل فيها الأطباء والممرضون بنكران الذات وقلة الامكانات والاجور التي سوف يسخر منها الساخرون... مهزلة الجنون! أليس المسؤولون مجانين إن هم لم يستفيدو من الحلقة النموذجية هاته للالتفاتة السريعة قبل أن يقع ما يقع.. فهاهو التلفزيون يقوم بدوره ومهمته انتهت لتنطلق المهام الأخرى بجدية ومسؤولية... فالحالة هاته: كلنا من برشيد... وكلنا في برشيد... وكلنا مسؤول عن حماقته وجنونه إن لم ندق الناقوس قبل إخفاء الولاءات داخل الجوارب المتسخة والوسخة وسخ الفضاء.. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم... فهنيئا لطاقم البرنامج ..