كان العنوان الذي أثار انتباهي ذاك الصباح من يوم تاسع دجنبر وأنا أقف أمام كشك الجرائد قرب مطعم ماروش اللبناني الشهير بشارع إجوار وود بلندن (وهو شارع عربي في كل شئ ما عدا في الاسم)، كان هذا العنوان الذي تصدر الصفحة الاولى من «الدايلي تلغراف» يقول إن عمدة لندن المحافظ بوريس جونسون يشكو من غلاء ثمن شجرة الكريستماس هذه السنة قياسا الى السنة الماضية والسنوات التي سبقتها. عمدة لندن يشكو من غلاء شجرة الكريستماس في مقالة كتبها هو بنفسه! بدا لي الامر غريبا بعض الشيء. لم أتردد في أخذ نسختي من هذه الصحيفة التي تعد من أقدم وأرصن الصحف اللندنية والتي تعبر في خطها التحريري عن نوع من القرب الفكري والسياسي من أوساط التوري (حزب المحافظين) الذي يطمح زعيمه الشاب دافيد كامرون هذه المرة في استرداد زمام المبادرة، والدخول الى مجلس العموم موشحا بصفة الوزير الاول بعد الانتخابات التشريعية القادمة. تصورت في البدء أن الامر يتعلق بعنوان من تلك العناوين التي تطفح منها روح الغرابة والدعابة والاثارة، والتي تملأ صفحات اليوميات اللندنية الواسعة الانتشار، نموذج «الصان» و«الدايلي ميل» وغيرهما، ولكنني حينما قلبت الصفحات بحثا عن مقال العمدة بوريس جونسون، ثم قرأته، فوجئت بأن المسألة جدية للغاية ،وأن السيد جونسون، يحلل بمنطق المسؤول السياسي مستتبعات الازمة المالية ونتائجها الاقتصادية والاجتماعية على حياة الافراد والاسر، وأن الحديث عن ثمن شجرة الكريستماس لم يكن سوى مدخل لمناقشة قضايا في غاية الجدية، والتعقيد. والحق أن الامر بالنسبة لي، أنا القادم من آفاق اخرى مغايرة، بدا لي جديدا، وذلك على ثلاثة مستويات على الاقل: - فأن يكتب عمدة مقالا رئيسيا وعلى درجة عالية من المعالجة التحليلية، وفي صحيفة رصينة، وفي الركن المخصص للآراء والمناقشات، هو شيء جديد بالنسبة لي أنا المتعود ألا أقرأ للعمد عندنا إلا ردودا على اتهامات في إطار بيانات حقيقة حول أشياء أو تصرفات تنسب إليهم في الصحافة بحيث لا نرى لهم أثرا كتابيا في عالم فكر أو ثقافة أو اقتصاد. - وأن يكتب رئيس بلدية مقالا تحليليا ينطلق فيه أساسا من رصد معطيات وملابسات الازمة المالية، من مرجعيته، وانتمائه السياسي، مدافعا بحرارة وجرأة عن الاختيارات الاقتصادية لعائلته السياسية ورؤيتها للمستقبل، هو شي جديد كذلك بالنسبة لي أنا المتعود على واقع حال يغير فيه العديد من رؤساء الجماعات انتماءاتهم السياسية مع مطلع كل استحقاق أو عقبه مباشرة، وبنفس السهولة التي قد يغيرون بها سياراتهم أو حتى ربطات عنقهم. - وأن يشكو المسؤول الاول عن واحدة من أغنى مدن العالم، وبلديات العالم، من غلاء ثمن شجرة الكريستماس التي قفز ثمنها حسبما ذكره في المقالة، من 35 جنيها استرلينيا في السنة الماضية (حوالي 450 درهما) (شجرة متوسطة الحجم) الى 55 جنيها (حوالي 800 درهم) قد بدا لي الامر أيضا شيئا جديدا انا المتعود على واقع حال لا يشكو فيه العديد من رؤساء الجماعات عندنا حتى من ارتفاع أسعار عقارات فخمة فأحرى أن يشتكوا - مثلا - من ارتفاع أسعار حلوى وألعاب عاشوراء، وهي المقابل، في تقاليدنا الدينية والثقافية لشجرة الكريستماس. وللتفصيل فهذه هي الوقائع وهذا هو التحليل الذي يرتبه عنها كاتب مقال الدايلي تلغراف بنفسه. جهة الوقائع: يحكي العمدة المحافظ بوريس جونسون أنه توجه صحبة ابنته بسيارته الخاصة ككل الناس (وليس بسيارة الخدمة) عند بائع أشجار الكريستماس في ركن الشارع، اختار شجرة متوسطة الحجم، قام البائع بتلفيفها بعناية في البلاستيك الابيض. لم يبق سوى أداء الثمن، فوجئ العمدة بالثمن الذي طلبه البائع ( 55 جنيها) والذي قال إنه ارتفع بنسبة %35 قياسا الى السنة الماضية. أحس العمدة بالحرج لأنه حينما أخرج حافظة نقوده لم يجد بها سوى 50 جنيها. فتش ثانية في ثنايا حافظة النقود فلم يجد سوى بقايا نقود سورية و3 دولارات. أخيرا قبل البائع بالامر الواقع وأخذ الخمسين جنيها مضافا إليها الثلاثة دولارات. انصرف العمدة صحبة ابنته الى حال سبيله وهو يفكر في أمر الغلاء. هذا جهة الوقائع، أما جهة التحليل فإن العمدة جونسون في مقالته المشار اليها يبدأ بالرد على أطروحات آلستير وزير الخزانة في حكومة براون قائلا بنوع من الايحاء المعبر «إنه لو كان هبوط الاسعار المتحدث عنه قد بدأ بشجرتي» ثم ينتقل بعد ذلك الى تفكيك عناصر الخطاب السائد حول الازمة المالية: إن ما قيل مثلا - يذكر العمدة - من أن الازمة المالية ستؤدي الى ظهور ثم استقرار مناخ نفسي وسيكولوجي لدى المستهلكين يفضي في النهاية الى هبوط تدريجي في الاسعار على غرار ما حصل في اليابان خلال التسعينات، لم يحدث. وقيل كذلك، يضيف جونسون، إن ما يجب الخوف منه اليوم والاحتراس من تبعاته هو الانكماش وليس التضخم. لم يحدث. والسيد آلستير، في ظل الاختيارات العمالية يعيد راهنا انتاج نفس الاخطاء التي ارتكبها لاو نسون وزير الخزانة المحافظ سنة 1987 ، ثم إن تسهيلات الاداء المعممة وحمى الاقتناءات الجارية على قدم وساق في أسواق ومحلات الشوارع الكبرى high streets والتي دفعت إليها الاجراءات التي اتخذتها الحكومة للحيلولة دون تحول الازمة المالية الى أزمة اقتصادية. ان كل هذا سيؤدي الى ضغط على الاسعار في اتجاه الارتفاع. ثم يصل العمدة الى تفسير تداعيات العولمة على الاسعار والتي ستجعل الناس في بريطانيا يدفعون اثمانا أكبر لقاء الحصول على مواد تنتج فوق التراب البريطاني، حيث يبين العمدة جونسون كيف ان ارتفاع شجرة الكريستماس هو أكبر دليل، ومؤشر على الطريقة التي قد يجربها تخفيض العملة (هنا الجنيه إزاء اليورو) في شروط العولمة، على عملية استيراد التضخم: فالشجرة المتحدث عنها تستنبت فوق التراب البريطاني في اسكتلندا بنسبة %80 وببذور ومواد انتاج محلية بنسبة %100 بمطر يسقط فوق التراب الاسكتلندي، ولكن الذي يتحكم في الاسعار هو الشركة الدانمركية صاحبة امتياز الانتاج والتوزيع، وهذه الأخيرة تحدد أسعارها على أساس المتوسط الاوروبي كيفما كانت التكلفة المحلية! هكذا إذن، عند استعراض الوقائع، يكتشف القارئ عمدة يشكو مما يشكو منه عامة الناس من غلاء، عمدة لا يخوله الموقع المؤسساتي الذي يشغله، امتيازات او أفضليات تجعله في مأمن من حرارة الاسعار كغيره من سكان المدينة التي يدبر شؤونها. وعند استعراض منطوق التحليل يكتشف القارئ أن العمدة جونسون ليس مجرد سلطة إدارية أو «أعيانية» مقطوعة الصلة بما يمور في الساحة العامة من قضايا ومعضلات. هل نحتاج الى التأكيد، على ضوء هذا، ونحن نرى نوعية «الزعامات» التي باتت تنتجها أوساطنا الحضرية، ان مسافة طويلة مازالت تفصلنا عن تلك المرحلة التي يصبح فيها العمد عندنا يحسون بحرارة الاسعار، ويقدرون على تحليل ملابسات الاقتصاد السياسي زمن الازمات. وفي انتظار ذلك،لا يسعنا إلا ان نؤكد بأن تضخم الخطاب حول المساطر والقوانين، والذي استبد بالنخبة السياسية عندنا حد الهذيان وهي تتناول قضايا المدن في أفق الاستحقاق القادم، لايمكن أن يشكل المعبر الحقيقي ولا الضمانة الاساسية للحكامة الحضرية المطلوبة.