نتصور أن السيد محمد أوجار، الوزير السابق في حكومة عبد الرحمان اليوسفي، والسفير الحقوقي السابق في جنيف، لا ينشغل بالدرجة الأولى ب"التطهير الأيديولوجي" للمؤسسات المسماة مؤسسات الحكامة من قبيل المجلس الوطني لحقوق الإنسان أو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي أو المجلس الاقتصادي أو المندوبية السامية للتخطيط أو حتى الهيئة الوطنية لمحاربة الرشوة والفساد.. كما نتصور أنه غير معني، بالدرجة الأولى،بالصبغة اليسارية لمن يتحملون مسؤوليتها، بقدر ما يهمه الحرص على "الاختصاص الترابي" للحكومة، والسعي إلى جعلها، طوبوغرافيا، مترامية الاختصاصات تضم مسالك الحكامة الخاضعة، في التقدير الدستوري، إلى سلطة الملك.وتقع، بالضرورة في المنطقة ما بين شرعية التعيين وشرعية الانتخاب، أو في خليج الارتطام بينهما. 1 بالرغم من أنه انتقى ثلاثة مجالس من بين عشرة منصوص عليها في الدستور، فإنه قرر أن يستغرب، بطريقة أقل ما يقال عنها أنها مستفزة، من أن تكون كل هاته الطاقات على رأس هاته المؤسسات، خارجة عن نطاق الاقتراع، وتخضع للتقدير الملكي في إسناد المسؤولية. وعليه، فالمتحدث، وهو قيادي رفيع المستوى يَزن كلامه ويعبر عن "الخلفية التنظيرية" لحزب التجمع الوطني للأحرار، ولو أنه تنظير جاء بعد التأسيس (وهي عملية تتجدد باستمرار حسب الشعارات التي تقتنع بها الدولة، من تراث التيار التقدمي والديمقراطي الاشتراكي في المغرب ويرفعها الحزب من بعد). وما يدفعنا أن ما قاله هو تعبير عن مناخ عام يسود على مستوى رأس الحزب والحكومة، هو أن تصريحات أوجار تتلاءم مع نزوع استعلائي مغرور عبَّر عنه وزراء آخرون، ومنهم بالذات لحسن السعيدي ومصطفى بايتاس، الأول بالحديث عن تفويض شعبي، لم يسبق أن ادعاه أي في المغرب، مؤسساتٍ وأفرادًا، والثاني بالتعبير عن الاستفراد بالجهاز التنفيذي بمنطق "تغولي" يحكم الحزب الواحد عادة. بيد أنه من سوء حظ القيادي والوزير السابق والسفير أن التقت الإرادة الملكية مع الكفاءة الاتحادية، ولهذا صعب عليه أن يدوس الثانية (الكفاءة) بدون أن يضع الأولى (الإرادة) في موضع المساءلة، ويقلل من التوقير الواجب دستوريا للإرادة الملكية، دون أن يشعر الاتحاديون واليساريون أنهم"الحائط الإيديولوجي القصير" وبالتالي يرتكب المحظور! 2 المحظور ، لا في المناقشة أو إبداء الرأي، أبدا، فتلك خصلة نريدها له أبدا ودوما، وندعو أن يتصف بها الجميع، في حزبه أو في غير حزبه، بلْهَ المحظور في سوء تقدير المعادلة! ومما يفهم من كلامه هو أن التعيين في المجالس التي وقع عليها نظره ونقده، خاضع للاشتراط. كما لو أن هناك مسافة بين سلطة الاقتراح وسلطة التعيين، والحال أن المعرفة البسيطة ومتابعة النقاش العمومي وسؤال أهل العلم والدستورانية المغربية يفيدون بأن سلطة الاقتراح وسلطة التعيين هما وحدة لا تتجزأ، في حالة التعيينات الملكية. فكيف فاته ذلك وهو السفير الحقوقي والمبعوث الدولي والوزير السابق في العدل؟..( المثل المغربي الحكيم يعزو ذلك إلى شهية .. تصيب صاحبها، فيكون "شاف الرْبيع ما شاف الحافة!".. بلغة أخرى، لقد استهدف الاتحاد فوجد نفسه بين الحكامة والسندان، أو الحكامة … والديوان!).. وهو ما يضع شرعية طرح السؤال: هل كان وزير العدل والسفير الملم بالقوانين وسموها لا يدري هذه المحاذير، وما يمكن أن يأتي منها، هل يجهلها أم هي معرفة ترمي إلى ما هو أبعد منها، أي الموقف من صلاحيات التعيين الملكي بالذات وبالتالي تغيير تلازم السلطتين… الاقتراح والتعيين في هاته النازلة؟ لا يمكن لأية سياسة أن تمحيَ ما كتبه الدستور، إلا ما محاه الدستور نفسه!!! وهنا صلب الدعوة التي أطلقها الكاتب الأول للاتحاد أمام المجلس الوطني للشبيبة الاتحادية حين قال: تحلَّوا بالشجاعة وطالبوا بتعديل الدستور، ولن تجدوا منا إلا الدعم بالنصيحة والتبني والمناقشة والمرافعة .. فنحن لنا تاريخ ولسنا طارئين على تاريخ الإصلاحات، وعلى عقلنتها بما يخدم البلاد والعباد، ويخدم الديمقراطية والاستقرار، ويزيد من التوقير الواجب للملك! يريد قادة الأحرار، بصريح العبارة، أن تكون للملك فقط سلطة المصادقة على ما يأتيه من لوائح تقترحها الأغلبية وتزكيها، على ألا يتجاوز مجال الاختيار دائرة الأحزاب المكونة لها، حتى وإِنْ انعدمت لديها النخب المؤهلة، كما يتضح من البرلمانيين والوزراء والمسؤولين عن القطاعات التي تعود إليهم مسؤوليتها! 3 لقد أسقط قيادي حزب رئيس الحكومة، عن المسؤولين في مجالس الحكامة التي استهدفها، الصفة المؤسساتية عنهم، والتي حصلوا عليها بموجب التعيين الملكي، وهو تعيين أسقط صفتهم الإيديولوجية، عند التدبير، ومن ثمة فالسيد أوجار يعيدهم إلى انتمائهم الإيديولوجي لكي يبرر محاكمتهم والتشكيك في حيادهم المؤسساتي المطلوب، ودليله في ذلك تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول حقيقة البطالة المتفشية في أوساط الشعب المغربي.! وقد كان مبرره في ذلك: هو أن " الإنسان لا يمكن أن ينفلت من ثقافته وجلده وممارسة حياته كلها وهو يساري ". والحال أن الوزير السابق نفسه (سيرة وقناعات بطبيعة الحال) هو المثال المضاد لما أعطاه من مثال …! فقد عرفناه يساريا لا تلين له شوكة، مبالغا في قناعاته الطبقية، راديكاليا على الطرف الأقصى من واقعيته الحالية. ومع ذلك لم يبق من ذلك الفتى المشاغب والثوري، سوى .. نشيد الليبرالية الديمقراطية الاجتماعية التي لا ترى نفسها إلا في مناصب التسيير والمسؤولية الحكومية!ليبرالية ليست موجودة للمجتمع أو للدولة، بل للحكم فقط لا غير! 4 "حينما نقوم بالانتخابات وتفرز هذه الأخيرة أغلبية، لكن مؤسسات الحكامة تنتمي إلى زمن سياسي وإيديولوجي ما". يتعمد السيد الوزير السابق أن يسقط التحقيب الزمني في التباس فهمه للزمن السياسي، بين تدبير مجالس الحكامة وبين تدبير المجال الحكومي. وليس سرا ولا تخمينا أن هاته المجالس، كلها تخضع لِديمومة زمنية مغايرة للزمن الحكومي، بل وجدت بالأساس لأجل هاته الزمنية الخارجة عن النفس السياسي المباشر المرتبط بالولايات الحكومية كما هي محددة في انتظاميتها، كي لا تسقط أشغالها وخلاصات عملها وتقاريرها في المنطق السياسي المتعاقب. ولنا أن نسأل: هل على مجالس الحكامة المسؤولة عن الإحصاء أن تعطي أرقاما ترضي الحكومة، حسب لونها، أي أرقاما ليبرالية حين يحكم الليبراليون، وأخرى إسلامية حين يحكم الإسلاميون، وثالثة يسارية عندما يحكم اليساريون؟ هل يريد دراسات ليبرالية تمجد تسريح العمال والمرونة، وتخفي أرقام البطالة في عز دولة تريد أن تكون اجتماعية.. وحكامة تساير الحكومة، ولو كانت قابلة للتغير مع اقتراعات سابقة لأوانها مثلا ومتغيرة ..؟ أم يريد مؤسسات تمدح الفساد وتخفيه تحت السجاد والحصير حتى لا يراه المغاربة، أو لا يراه العالم ثانيا..؟ إن ما يهمه اليوم هو ترجمة المزاج السائد على رأس الحكومة، والذي لا يحبذ مؤسسات تفسد عليه النشوة الكبيرة والرضا عن النفس ولو كان الغلاء فضيحة والفساد حقيقة والبطالة آفة تعطل 14 ٪ من المغاربة ! وخلاصة القول إن الذي تابعناه منذ مجيء الحكومة، وانفجار كل بؤر الغليان في المجتمع، مع عجز بين في تنزيل الدولة الاجتماعية،هو النزوع الرهيب نحو الهيمنة المطلقة على كل الفضاءات، المؤسساتية منها والمدنية، بوسائل تروم إغلاق الحقل السياسي، على حزب واحد… بثلاثة أسماء!