تعد مسألة إعداد التراب الوطني مدخلا أساسيا لاحتضان كل مجهود تنموي، لكونه مجالا تتقاطع فيه كل أنشطة الدولة إذ علاقة إعداد التراب الوطني بالتنمية هي علاقة ضرورية إن لم تكن ضمنية وحتمية. إن التنمية الترابية كبرنامج عمل وكمفهوم، أصبحت تعد من الأولويات الأساسية لدى جميع الدول، لكونها السبيل الوحيد لتبوء مكانة ما داخل ميكانزمات المجتمع الدولي، الشيء الذي بدأ يفرض على كل الدول ضرورة العمل على تطوير هياكلها السوسيو اقتصادية وبنياتها السياسية إن كانت راغبة في احتلال مرتبة مشرفة داخل أنسجة نظامه المعاصر، فقوة الدولة لم تعد مرتهنة اليوم بالعامل السياسي الاستراتجي بقدر ما أصبح العامل الاقتصادي محددا هاما لمدى قوة الدولة أو ضعفها، مما فتح الباب على مصراعيه أمام التكتلات الاقتصادية بطابعها الجهوي والقاري. إن كثرة وتنوع التحاليل والمقاربات المتعلقة بموضوع التنمية ناتج عن صعوبة الإحاطة به وتحديد مجاله وأبعاده، إلا أنه مؤخرا ترسخت قناعة لدى بعض الباحثين والمشتغلين بهذا الموضوع مفادها أن التنمية ليست نمطية، أي ذات نمط واحد، إذ من غير المقبول منهجيا و علميا اعتبار أسلوب تنموي سلكته كتلة دولية أو دولة معينة نموذجا مرجعيا يمكن لبلد آخر الاقتداء به لتطوير نفسه، لما قد يتضمنه ذلك من تحطيم وتبسيط للثقافات المحلية، فليس للتنمية صيرورة كونية وحيدة الاتجاه. لذلك فالتنمية عملية متكاملة، لا يوجد سبيل لتحقيقها إلا عبر تبني منظور تكاملي يعمل على تأطير مجموع أبعادها، إذ هي في الحقيقة حصيلة تفاعل بين هذه الأبعاد، والتي يمكن التمييز فيها بين ثلاث أبعاد رئيسية، وهي البعد الاقتصادي والبعد السوسيولوجي والبعد الديمغرافي، على هذا الأساس يمكن اعتبار التنمية بأنها مجموع الموارد المالية، وهذا ما يشير إليه البعد الاقتصادي، يقوم الإنسان باستثماره لصالحه، وهذا ما يشير إليه البعد الديموغرافي، وأن هذا الاستثمار لا يتم إلا من خلال مجتمع يشتمل على نظم و قيم وسنن اجتماعية، وهذا ما يشير إليه البعد السوسيولوجي . إن الإعداد المتوازن لمجال ترابي معين يعد مدخلا ضروريا لأي مشروع تنموي فعال على مستوى الدولة، إلا أن الرغبة والطموح غير كافيين لبلورة ذلك، بل لا بد وأن يقترن بصياغة لتخطيط محكم يوازي بين الأهداف والإمكانيات مع ضرورة العمل على ترتيب الأولويات في إطار سقف زمني محدد ومضبوط، كي لا تغدو المشاريع التنموية المبرمجة في إطار خطط عملية مضبوطة مجرد عمليات تلقائية لن تكون لها مردودية. تكتسي إشكالية إعداد التراب بالمغرب أهمية بالغة بالنظر إلى المخلفات السلبية للاختلالات الجغرافية القائمة وتحديات الانفتاح والتنافسية، مما يستدعي نهج سياسة ذات بعد استراتيجي شمولي للتراب الوطني على المدى البعيد وتوفير وسائل المجال وتدبيره، وتبني مقاربة جديدة تهدف إلى التوفيق بين الطموحات لإعادة توازن التنمية والإكراهات المرتبطة بمتطلبات المنافسة، وذلك من خلال ترشيد هيكلة إعداد التراب الوطني وتجاوز الاختلالات المجالية. خلال تجربة حكومة التناوب التوافقي، سجلت إشكالية التهيئة المجالية قفزة نوعية، وذلك راجع بالأساس إلى اعتمدها مبدأ التشاور والتوافق بين مختلف المتدخلين، بعد أن أقر مختلف المهتمين بإعداد التراب بمدى مأساوية وخطورة واقع حال المجال المغربي. هذا ما دفع القطاع الحكومي إلى تبني المقاربة التشاركية والتشاورية عبر فتح ورش الحوار الوطني حول إعداد الترابي الذي عمل على إبراز مختلف الاختلالات المجالية سواء على المستوى الحضري أو القروي أو البيئي، ومن ثم تحسيس مختلف المتدخلين بأهمية المقاربة الجديدة في ميدان إعداد التراب، عن طريق إرشادهم إلى ضرورة إعادة النظر في مفاهيمه الأساسية على ضوء مقاربة شمولية تفسح المجال للمقاربات المتعددة الأبعاد والمستويات واستيعاب هذه المقاربة كسياسة مجالية تعتمد على استراتيجيات القرب كبدائل لمركزية السلطة، والعمل على تحديد الاختيارات الكبرى والاستراتيجيات وتقديم الوسائل الكفيلة بتنفيذ هده الاختيارات والقيام بأجرأتها من خلال الميثاق والتصميم الوطني لإعداد التراب، والتصاميم الجهوية. يمكن القول إن مسألة من حجم تهيئة وتنمية المجال الوطني من منظور متخصص تعد أمرا مهما من الناحية المنهجية، إلا أن الواقع يبين مدى ترابط و تفاعل مختلف عناصرها، حيث إن إنجازها يتم من خلال المجتمع الذي يحتوي على متغيرات كثيرة ومتشعبة تؤثر بصورة أو بأخرى في مسار الحركة التنموية ككل. كما أن تحقيق ذلك يتطلب أيضا وجود نظم مرنة، وأجهزة إدارية ذات فعالية ويد عاملة مدربة وملتزمة أخلاقيا بمسؤولياتها المتجددة، ومن هنا يبرز الاهتمام المتزايد بالتنمية الإدارية باعتبارها مدخلا مهما لتحقيق أي تقدم منشود للمجتمع. من هنا تبدو شمولية إعداد التراب، إذ إضافة إلى كونه يسعى إلى خلق توازن عقلاني بين مختلف الأقاليم، إلا أنه يروم التخفيف من التمركز الإداري وتمكين كافة الجهات المتأخرة من اللحاق برديفتها المتقدمة، وغني عن القول أن إدارة التنمية لن تحقق على الوجه الأكمل إلا إذا توفرت لها معرفة مظاهر التخلف ومعوقات النمو على كافة المستويات، هناك رهان آخر يطرح على المستوى الإيكولوجي، حيث تجاوز تدهور مجالاتنا الهشة ومواردنا الطبيعية المستوى المحتمل، وهذا التدهور مرشح للتفاقم نتيجة التزايد الديموغرافي والتوسع العمراني و انتشار الأنشطة الاقتصادية التي لا تحترم البيئة. إن هذه التحديات تفرض على الجميع، دولة وجماعات ترابية وفاعلين اقتصاديين ومجتمعا مدنيا وباحثين، أسلوبا جديدا في الرؤية والعمل، وفي اعتماد مقاربة جديدة لأنماط التدخل. بعد التشخيص الجزئي لواقع حال المجال المغربي يمكن اقتراح مقاربة جديدة في التعاطي مع المسألة المجالية، إلا أن تفعيل ذلك يستوجب ما يلي: * ضرورة تجاوز النظرة الأحادية في التعامل مع قضايا إعداد التراب التي تجعل من كل متدخل ينظرإلى ميدان تخصصه بنظرة خاصة مفتقدة إلى البعد الشمولي، بمعنى أنه يجب تجاوز واقع البرمجة القطاعية وتعويضها بنظرة شمولية، أساسها التعاون والتنسيق بين مختلف الفاعلين. *عدم السقوط في فخ التباسات الفكرة الخاطئة التأويل، الجاعلة من هدف إعداد التراب التغلب والقضاء على التفاوتات المجالية، ذلك أن التراب الوطني في مجموعه هو عبارة عن مجالات متفاوتة، وبالتالي فإن خطة العمل المستقبلية، تقتضي الأخذ بعين الاعتبار هذا التفاوت والبحث عن التوازن في اللاتوازن، بتبني إيقاعات مختلفة ومتفاوتة حسب إمكانيات كل مجال وخصائصه الجغرافية والمناخية والحضارية. *تقوية فعالية تدخلات الجماعات الترابية سواء الحضرية أو القروية، وتكثيف تأطيرها الذي لا زال ضعيفا مقارنة بالإدارة العمومية. * نهج سياسة إعلامية منفتحة وإشراك السكان في برامج التهيئة المحلية، ذلك أن تكنولوجيات الإعلام يمكن اعتبارها قطبا رئيسيا لدعم سياسة إعداد التراب عن طريق دورها في تأمين وجود بنيات تحتية من التواصل والإخبار الحديثة عبر كل أنحاء التراب الوطني، خصوصا إذا علمنا أن أهم ما تنتجه البلدان المتقدمة من القيمة المضافة هو رأسمال غير مادي بل عبارة عن إنتاج فكري وذهني مبرمج بطرق سهلة عبر شبكات الإعلام. * تبني المغرب لسياسة الجهوية المتقدمة مع إعطائه مكانة أرقى للجهة كأسمى إطار لتدبير الشأن المحلي وتخفيف العبء عن الحكومة المركزية، وجعلها محورا أساسيا لكل سياسة تستهدف إعداد التراب الوطني، لا يمكنها أن تكون نافعة وواقعية من شأنها إنشاء إطار حقيقي للتشارك والتعاقد بين الدولة والجهة، إلا باحترام مجموعة من الضوابط والشروط التي يمكن تلخيصها في ما يلي : * بلورة منهجية جديدة ملائمة تعتمد على تخطيط التنمية المحلية والجهوية من أجل تقويم نقط قوتها وتحديد مصادر ضعفها، والاستفادة منها على مستوى التخطيط الجهوي، وهو ما سيسمح بالانتقال ليس فقط من تخطيط قطاعي و استدراكي إلى تخطيط جهوي تفاوضي وتشاوري يقبله الفاعلون المحليون و الجهويون في إطار تسيير تشاركي لا مركزي. * ينبغي على التنمية الجهوية أن تعتمد على إسهامات جديدة وعلى كفاءات تكون قادرة على القيام بدورها في مجال التسيير العمومي المطبوع بالتخلي التدريجي للدولة عن جزء من مهامها، وبالتالي ضرورة البحث عن كفاءات واختصاصات جديدة تكون مهمتها هي دعم التخطيط الجهوي المندمج والتجسيد الملموس للانسجام بين المقاربة التشاركية للتنمية الجهوية والمقاربة الخاصة بالتصاميم الجهوية لإعداد التراب. *تحديد البنيات والإجراءات التنفيذية للتخطيط الجهوي، ويتعلق الأمر أساسا بالفاعلين والمؤسسات وآليات التنسيق والتتبع والتقييم، وينبغي للتفاعل المنسجم بين هاته الآليات والمستويات أن يؤدي إلى بلورة مشروع تنمية جهوية يمول انطلاقا من الإمكانيات المتاحة، كما يهم الفرص التي يتيحها التعاون الدولي اللامركزي. *تهييئ أدوات مطابقة لغايات إعداد التراب الجهوي بحيث تشكل أداة فعالة لتحقيق التنمية الجهوية، وينبغي أن تراعى خصوصيات بعض المجالات أثناء تهييئ هذه الأدوات التنموية- فالمجال الساحلي مثلا يعرف إشكالية خاصة به ليست هي نفس الإشكالية بالنسبة للمناطق الجبلية أو الصحراوية- وذلك من أجل ضمان حركة إنمائية عامة تأخذ بعين الاعتبار هذه المعطيات. يمكن للجهة إذن أن تشكل إطارا جيدا لحل المشاكل الخاصة باللاتوازن الجهوي، والتفاوت بين العالم الحضري والقروي على مستوى التجهيزات السوسيو ثقافية، وإعداد البنية القادرة على المساهمة في مجهود التنمية الاجتماعية. يجب على مؤسسة الجهة المساهمة في إنجاح النموذج التنموي الجديد والاستجابة للطلبات المتعددة للمواطن لكي لا تتحول إلى بنية إدارية بدون فعالية اقتصادية، إذ أن الجهة ليست غاية في حد ذاتها بل وسيلة من وسائل العمل الحكومي لتحقيق التوازن والتكامل بين الأقاليم التابعة لها، مما يجعل من أولويات الدولة اعتماد خطة عمل مستعجلة من أجل الإقلاع الاقتصادي وتحقيق العدالة المجالية والاجتماعية