مرت التجربة الديمقراطية المغربية الفتية بأربعة عقود ولاَّدة لأحزاب إدارية؛ وكانت تُصنع الخارطة السياسية على مقاس هذه الأحزاب. وقد كان مِقص وزارة الداخلية، هو الصانع الأساس لهذه الخريطة المزيفة سواء على مستوى البرلمان أو على مستوى الجماعات الترابية. ومع حكومة التناوب التوافقي، في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، برئاسة الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، المجاهد عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله، دخلت البلاد منعطفا سياسيا مغايرا يتمثل في احترام إرادة الناخبين التي كان يُعبث بها بشكل مفضوح. وحتى يتم الحد من هذا التلاعب الذي تكرس في المشهد السياسي، أو على الأقل التقليل منه، كان لا بد من التفكير في إرساء قواعد وأعراف قمينة بتأصيل الممارسة الديمقراطية وتكريس التقاليد المؤسساتية. ورغم محدودية اختصاصات الوزير الأول في دستور 1996، فقد استطاع عبد الرحمن اليوسفي أن يحدث تغييرات هامة تخص منهجية عمل الجهاز الحكومي والمؤسسة التشريعية؛ وهو ما ساهم في تجويد عمل المؤسستين معا (الحكومة والبرلمان)، ناهيك عن القرارات الجريئة لوضع حد لتبديد المال العام. ولما تم اللجوء إلى تغيير الدستور سنة 2011، تمت دسترة الأعراف الديمقراطية والمؤسساتية التي كرستها حكومة عبد الرحمن اليوسفي وعملت بها بعدها حكومتي إدريس جطو وعباس الفاسي. لكن، مع الأسف، لم تعرف المستجدات الدستورية الهامة طريقها إلى التطبيق السليم مع رؤساء الحكومات الذين أتت بهم الانتخابات التشريعية لما بعد دستور2011. وهكذا، عشنا مع عشرية حزب العدالة والتنمية، على إيقاع التراجعات والنكسات الديمقراطية؛ فقد تميزت ولايته الأولى، على وجه الخصوص، بما اقترفه السيد عبد الإله بن كيران، كرئيس للحكومة، من كوارث تمثلت، من جهة، في تخليه عن الاختصاصات المهمة التي منحها الدستور الجديد لرئيس الحكومة؛ ومن جهة أخرى، تمثلت في توريط البلاد في عدة مشاكل، لا زال المواطن يكتوي بنيرانها إلى اليوم؛ وذلك بفعل قرارات غير محسوبة العواقب، حيث غاب فيها بعد النظر وانعدمت فيها الحنكة السياسية والخبرة التدبيرية. وها هو السيد عزيز أخنوش، الذي كان وزيرا للفلاحة خلال ولايتي العدالة والتنمية، يدشن ولايته، كرئيس للحكومة، بما أسماه الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الأستاذ إدريس لشكر، التغول. ويمكن اعتبار هذا التغول كالشروع في السير، بهذا القدر أو ذاك، على نهج بنكيران؛ وهو ما يعتبر ضربة قاسمة لظهر المؤسسات التمثيلية. ويأتي البرلمان على رأس هذه المؤسسات التي تضررت من نهج أخنوش. لقد حرس هذا الأخير على تشكيل حكومته من الأحزاب التي حصلت على الرتبة الأولى والثانية والثالثة في انتخابات 8 شتنبر 2021، ليضمن بذلك أغلبية عددية أكثر من مريحة لتفادي معارضة قوية عدديا، قبل أن تكون قوية سياسيا. فالأحزاب الثلاثة الأولىحصدت على ما مجموعه 269 مقعدا، أي أكثر من ثلثي أعضاء البرلمان؛بينما أحزاب المعارضة الخمسة مجتمعة، لميتجاوز عدد المقاعد التي حصلت عليها 116 مقعدا؛ ويضاف إلى هذا الضعف العددي، الاختلاف الكبير، إيديولوجيا وسياسيا وحتى شخصيا (فبنكيران يعاني من عقدة اسمها إدريس لشكر والاتحاد الاشتراكي)، بين مكونات هذه المعارضة. وتقع مسؤولية اختيار التغول على الحزب الأغلبي المخول دستوريا بتشكيل الحكومة؛ وهو اختيار يضرب في الصميم مفهوم التمثيلية ومفهومي الأغلبية والمعارضة؛ ناهيك عن مفهوم التعددية السياسية. وهو ما يمكن اعتباره إفساد مقصود للمؤسسات التمثيلية. ويظهر من خلال المعطيات والأرقام الواردة في الفقرة أعلاه أن الهدف هو تحجيم المعارضة وتقليص دورها؛ وهو ما أكدته الممارسة وزكته مواقف الأغلبية الحكومية والبرلمانية. وفي هذا إضرار كبير بالمؤسسة التشريعية التي تم تحويلها عن دورها الحقيقي ووظيفتها المثلى. لقد جعلت الأغلبية الحالية من البرلمان مؤسسة محكومةبالديمقراطية العددية التي هي نوع من الديكتاتورية. وهكذا، أصبحت أسمى مؤسسة تمثيلية في البلاد تعاني من عدم التوازن السياسي والتمثيلي؛ مما يهدد التعددية السياسية ويحيد عن المفهوم الحقيقي للديمقراطية التمثيلية.ولم تقف الرغبة في التغول والتحكم عند تشكيل الأغلبية البرلمانية والحكومية، بل امتدت إلى الجماعات الترابية. وهكذا، تم توزيع الجهات بالتساوي بين الأحزاب الثلاثة (أربع جهات لكل حزب)، وتم تطبيق نفس التوجه على مجالس الأقاليم والعمالات وعلىالجماعات المحلية ذات الأهمية الانتخابية. وبهذا السلوك، وجهت الأغلبية الحكومية ضربة قوية إلى كل المؤسسات التمثيلية، بدءا من البرلمان مرورا بمجالس الجهات والأقاليم والعمالات وصولا إلى الجماعات المحلية. وفي هذا إفساد للمؤسسات التمثيلية وإضعاف لها. ويكفي المواطن أن يتابع، من جهة، جلسات البرلمان، وبالأخص الرقابيةمنها والتي تتميز بغياب الوزراء المعنيين بها؛ ومن جهة أخرى، يكفيه أن ينظر إلى كيفية تدبير شؤون مدينته، حتى يدرك هذه الحقيقية أو على الأقل الوجه البارز منها. ويبدو من خلال الأوضاع السائدة، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، أن العقل (أوالعقول) المدبر (ة) محكوم (ة) بعقلية المقاولة أو بالنظرة الضيقة للمؤسسة الحزبية، وليس برؤية سياسية وفلسفة خاصة بتدبير الشأن العام. وهذا يعني غياب بعد النظر وانعدام الرؤية السياسية المتبصرة والتفكير الإستراتيجي لدى الحكومة الحالية، مثلها مثل تلك التي سبقتها. وهذا ما يضعف المؤسسات التمثيلة التي يُعهد إليها بتدبير الشأن العام، سواء على الصعيد الوطني أو على مستوى المجال الترابي. خلاصات القول، يتضح، من خلال الوضع العام، أن التغول السياسي تسبب في إضعاف المؤسسات التمثيلية، إن لم نقل في إفسادها. والوضع الحالي لهذه المؤسسات يقوم دليلا على ما نقول. ولنا بحول الله عودة إلى هذا الموضوع لتسليط المزيد من الضوء على الممارسات التي لا علاقة لها لا بالديمقراطية ولا بالاحترام الواجب للمؤسسات الدستورية.