ليست الدارالبيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير … لم تكن تلك السيدة الميسورة التي قادها قدرها إلى المدينة القديمة بالدارالبيضاء لتتخيل، ولو لحظة واحدة، أنها ستكون، في يوم من الأيام، موضع شك وطعن في شرفها ونواياها. هي المرأة الطيبة التي نذرت نفسها لخدمة الأطفال اليتامى والعطف عليهم وتلبية حاجياتهم وإيوائهم في منزلها الخاص، ستحرم من مكان تدفن فيه بمدافن المسلمين، وقبل وفاتها ستتجرع مرارة الدوس على كرامتها ونعتها بأبشع الصفات وستتعرض للرشق بالحجارة والرجم لا لشيء سوى لأنها آمنت برسالتها في مساعدة من هم في أمس الحاجة إلى العون، الأطفال اليتامى والمتخلى عنهم، لكن ولسوء حظها عاشت وسط مجتمع منغلق على نفسه، لا يقبل أن تبادر امرأة لحمل مشعل الإنسانية لتضيء به ظلماتها المتربصة في الطرقات وفي الأنفس، مجتمع نظر إليها بعين الشك والريبة وأصدر عليها حكمه دون بينة أو دليل، لتتجرع خيبتها وحيدة وتموت حزينة كئيبة على مصيرها المؤلم. هي للا تاجة، المرأة التطوانية أم الأيتام التي يوجد ضريحها الصغير في المدينة القديمة بالدارالبيضاء، للا تاجة التي كرست كل حياتها وأموالها في القرن التاسع عشر لرعاية الأطفال، لم تشفع لها تضحياتها ولا ما بذلته من جهود في سبيل تحسين أوضاع اليتامى والأطفال المتخلى عنهم، في العيش بسلام إلى آخر عمرها، بل ستجد نفسها منبوذة وحيدة في غرفة باردة، وعند موتها ستحرم من الدفن ب «روضة» المسلمين . بجانب مبنى القنصلية البلجيكية السابقة وفي ضريح صغير مهمل لا تتجاوز مساحته بضعة أمتار، ترقد للا تاجة مجاورة لمدرسة عمر بن عبد العزيز الابتدائية، ترافقها صباح مساء… أصوات الأطفال الذين أحبتهم، وضحت من أجلهم… تلك السيدة التي يضم رفاتها ذلك الضريح الصغير كانت تتمتع بحب ساكنة «الدار بيضاء»، لما عرف عنها من مسارعة إلى مساعدة المحتاجين من الأطفال واليتامى وتضحية في سبيل ذلك، وكرم وتضامن مع كل من وقف ببابها طالبا للمساعدة والعون. لقد توارى جزء كبير من حياة للا تاجة وراء ستار الغموض، تفاصيله بقيت مجهولة لكن المؤكد أنها عاشت في القرن التاسع عشر وأنها كانت امرأة ثرية ميسورة الحال وأن أصلها من مدينة تطوان، واستنادا إلى الكتابات القليلة التي تناولت سيرتها يُحكى أن الناس أطلقوا عليها لقب «أم الأيتام» بعد أن وهبت منزلها وأموالها لرعاية اليتامى والأطفال… لقد كانت للا تاجة تستقبل الأطفال في منزلها وتحيطهم بصنوف الرعاية والاهتمام، تعد لهم مأكلهم بنفسها، أطباق شهية من أسماك كان يجود بها صيادون جلبوها من البحر القريب. تغمر هؤلاء الصغار بحبها اللامشروط موفرة لهم الرعاية والاهتمام قبل المأوى والملبس، مما جلب لها حب الناس واحترامهم.. لكن ذلك الاحترام لن يدوم طويلا فسرعان ما ستنقلب الأمور رأسا على عقب وسيتحول الاحترام الذي كانت تحظى به إلى شك واتهامات وقذف في شرفها، حسب ما حكاه مصطفى أخميس، صاحب كتاب» شعائر وأسرار أضرحة الدارالبيضاء «. لقد تغيرت نظرة الناس إليها بعد أن دخل القنصل البلجيكي لدى المغرب آنذاك، مسرح حياتها، بهدف مساعدتها في رعاية أولئك الأطفال اليتامى بعد أن تأثر بالأعمال الخيرية والتضحيات التي تقوم بها للا تاجة، ليقرر تقديم المساعدة المادية واللوجستية لها، لكن هذا الأمر سيثير شكوك الساكنة وستتناسل الشائعات حولها وستسري بين الناس كالنار في الهشيم إشاعة أنها أصبحت جاسوسة، بل سيتسع الأمر وستتهم بوجود علاقة عاطفية بينها وبين الديبلوماسي البلجيكي، وتبعا لذلك لم يعد أحد يتحدث إلى المحسنة، ووصل الأمر ببعضهم حد رشقها بالحجارة أثناء مرورها من الشارع. وتشير روايات أخرى إلى أنه في إحدى الليالي، نجت من موت محقق، بسبب الحجارة التي قذفها عليها الناس، حسب مصطفى اخميس. انقلبت حياة هذه المحسنة وبدأت تعاني من شتى أنواع المضايقات والإهانات، لكن نساء الحي سيعرفن بحدسهن أنها بريئة وسيتعاطفن معها وستحصل على دعمهن المعنوي والمادي ضدا عن إرادة أزواجهن لأنهن آمن ببراءتها مما نسب إليها، وحسب الكاتب أخميس فإن النساء «كنّ على يقين من براءتها ومن خلو علاقتها مع الدبلوماسي البلجيكي من الشّوائب» لكن موقف الرجال ظلّ معاديا لها. في آخر حياتها يقول ذات الكاتب، «لم تعد للا تاجة تجرؤ على الخروج من بيتها وعانت من اكتئاب شديد حتى الموت»، حيث عاشت آخر أيامها «حزينة محاصَرة في غرفة داخل القنصلية، قبل أن تلزم الفراش وتوافيها المنية في ربيع بداية القرن العشرين». وقبل أن ترحل إلى دار البقاء حكت للا تاجة في قصيدة كتبتها قصتها ومعاناتها وحبها للأطفال. قصيدة بدأت النساء يرددنها في تجمعاتهن ومناسباتهن الدينية وفي الحمامات، وهن يذرفن الدموع حزنا على المصير المؤلم لهذه المحسنة. قصة معاناة للا تاجة لن تتوقف هنا بل سيكتب فصل أخير فيها بعد مماتها، حين قرر الباشا رفض دفنها في مقبرة إسلامية، ما دفع نساء الحي إلى التمرد والوقوف ضد هذا القرار ملتمسات من القنصل البلجيكي أن يدفنها في قطعة أرضية تعود ملكيتها إلى قنصلية بلجيكا، فسارع إلى تلبية طلبهن، وساهمن، في وجه آخر من وجوه تضامنهن معها، في بناء ضريح صغير، يحمل اسمها تكريما لها، وهو الضريح الذي سيبقى شاهدا على معاناة امرأة وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الأحكام المسبقة والعنف المادي والمعنوي والظلم والحصار في مجتمع، في ذلك الوقت، يوزع الاتهامات ويصدر الأحكام في حق النساء ويؤمن بمقولة المتهمة غير بريئة ولو لم تثبت إدانتها. إطلالتنا على أضرحة الدارالبيضاء التي تناولت ثلاث حلقات وتحدثت عن سيدي بليوط وسيدي عبد الرحمن واليوم للا تاجة وغيرهم لن تنسينا الإشارة باقتضاب إلى باقي صلحاء البيضاء ومن بينهم: سيدي مسعود الذي عاش في زمن مولاي الحسن الأول، كان من عائلة غنية ومحترمة يوجد ضريحه على المدخل الجنوبي لمدينة الدارالبيضاء بطريق النواصر. سيدي معروف: يوجد ضريحه بالحي الذي سمي على اسمه سيدي معروف. سيدي التاغي : ضريحه على شاطئ عين الذياب بغابة سيدي عبد الرحمن يقال إنه من أحفاد ركراكة. سيدي احمد بن لحسن: ضريحه بمديونة. سيدي احمد بن ايشو : ركراكي من نواحي الصويرة مات بالمنطقة ودفن فيها يقول أحد أحفاده، الذي شيد صومعة الضريح في سنة 1930، إن الولي الصالح من منطقة الشياظمة وإن لقب بنيشو يعود لفترة الاستعمار الفرنسي حيث كان أحد بائعي الإسفنج ينصب خيمته قرب الضريح وكان يصيح مناديا الفرنسيين والمغاربة «فوالا لي بيني شو» فأطلق الاسم على ضريح الولي المدعو احمد. ضريح سيدي بوسمارة موجود بزنقة بوسمارة، سيدي امبارك الركراكي بالمدينة القديمة، سيدي مومن بولحناش بزناتة سيدي فاتح بزنقة التناكر، سيدي موسى المجدوب بالمحمدية، سيدي عبد الله بلحاج بالحي الذي يحمل اسمه، سيدي حجاج باولاد بوز، سيدي مومن بحي سيدي مومن، سيدي الخدير حي سيدي الخدير، سيدي عثمان حي سيدي عثمان، سيدي مبارك بوكدرة حي انفا، مولاي التهامي طريق الجديدة، سيدي زغلول طريق مراكش، مولاي الطاهر زنقة العرائش، سيدي ابراهيم بمديونة، سيدي البرنوصي بحي البرنوصي، سيدي بو الكباش بزنقة آسفي، سيدي المخفي بالحي المحمدي، للا الدرقاوية ضريحها بساحة القيروان كانت من مريدات الطريقة الدرقاوية، للا القادرية كانت على أوراد الشيخ عبد القادر الجيلاني أخذت الطريقة عن أبيها ضريحها بزنقة الصويرة .