تمهيد يمكن الحديث عن «الجهل المركب»، و»الإفلاس المركب» : هناك ثلاثة مستويات من الجهل: 1 – جهل بسيط يعلمه العقلاء، ويحسون به طوال احتكاك بعضهم ببعض، أو بالطبيعة، فيسعون إلى تجاوزه جماعاتٍ أو فرادى، عن طريق التعلُّم والتعليم. 2 – جهل مركب، وهو ألا يدرك الجاهل أنه جاهل، أو لا يحس بالحاجة إلى الخروج من جهله، أو يجد مصلحته فيه. وهو درجتان: 1 – الدرجة الأولى «الإعاقة»، وتتمثل في جهل المرء أنه جاهل، مع عدم إحساسه بالضرر الذي يصيبه نتيجة جهله. وذلك برغم ملاحظته الفرقَ بين حاله وحال من هم أعلمُ منه، وأحسن حالا. وما يقال عن الفرد يقال عن الجماعة. فيكون هذا الجاهلُ المعاق أشبه بالمحموم الذي يفضل التقلبَ في الفراش على تناول الدواء، أو شرب الماء. 2 – الدرجة الثانية «المكابرة» للمتاجرة، وتتمثل في الاستثمار في الجهل. وهي حال من يعلم أنه جاهل، أو يمارس سلوك الجاهل، ويملك القدرة على الخروج من ممارسة ذلك الجهل، ولكنه لا يفعل، لأن ممارسة الجهل هي وسيلتُه ل»بردعة» الآخرين وتسخيرهم، والتنعم على حساب شقائهم. وكما يقال: «جوع كلبك يتبعك»، يمكن أن يقال أيضا: «جهل أخاك يعبدك.» بيت القصيد «الإفلاسُ المركب» هو أن يكون الشخص (أو الجماعة) مُفلساً ولا يحس أنه مفلس. وأخطر صور هذا الإفلاس تلك التي تنتج عن توظيف الجهل المركب من الدرجة الأولى (الإعاقة) في خدمة الدرجة الثانية منه (المكابرة للمتاجرة). أي حين يوضعُ الجاهل الكسولُ، والمحبطُ الخاملُ، والقَمَّامُ الواطئ، في خدمة البهلوان المحتال. والحالة التي تهمنا هنا هي حالة «التصنيم»، بدل «التفكير»: حين يُكلَّف الكسولُ الخاملُ القمامُ بتلميع «الشخص» و»الرمز» من أجل التشويش على «الفكرة»، على «الحق». ذلك أن «الفكرة» المؤسَّسة على معرفةٍ علمية بالمسار التاريخي التحرري للبشرية، وعلى التحليل الموضوعي للواقع محليا وكونيا، هي الطاقة التي يحجُبها البهلوان المحتال عن الكسول المُحبط، لأنها الطاقةُ التي ستحرره منه. أما بعد تواردت علي هذه الأفكار، منذ أيام، وأنا أرى حملةً عشواءَ لتصنيم أشخاص يروجون أفكارا لا يمكن الدفاع عنها فكريا، ولا واقعيا، ولا حتى دينيا، من أجل عرقلة الإصلاحات المقترحة لعيوب كشفها تطبيقُ مدونة الأسرة. فبدل أن يحتجوا لأفكار (الشيخ) بما يرجحها عمليا، وحتى عقديا، يحتجون بالشخص نفسه، وبدل أن يحتجوا للشخص بما يؤهله للخوض في الموضوع، كما يحتج العلماء، أي بالإنتاج العلمي المتخصص، يحتجون ب»صورته» المزينة، ومستوى الضجيج الإعلامي الذي تحدثه جوقته. وهذا ما عنيناه بالإفلاس المركب: الإفلاس الأول: الهروب من الفكرة إلى الشخص/الرمز: الشيخ/الدكتور/العلامة…إلخ. والإفلاس الثاني: الهروب من الحديث عن أهلية الرمز (العلمية) إلى التحليلات التي لا صلة لها بالاستحقاق المزعوم. أما إفلاس الإفلاس، فيتمثل في تخوين كل من يقول: أين الصفة؟ أين الأثر العلمي المحكَّم؟ أين المصداقية؟ أين الانسجام؟…إلخ.. وقائع مع الأسف، قرأتُ عابرا لأستاذ جامعي معروف، تدوينةً قَدَح فيها في دين ومواطنة من ينتقد فلانا، وقرأت لآخر أن من ينتقد ذلك الفلان نفسه «غير متحضر»، (وعلقتُ عليه مستفسرا، ولم يلتفت إلي). وقرأت لثالث حرفيا: «محبةَ فلان عبادة»!!! والفلان هو الفلان والتصنيم هو التصنيم. أليس هذا إفلاسا؟ هذا النوع من الانحراف الخطابي غريب عن البيئة المغربية. إنما عرفناه، في السنوات الأخيرة، في مهاترات ذباب الخروب! ذباب مفلس تاريخا وواقعا، مادة وخلقا. ختاما في النقاش العلمي الموضوعي، خاصة تحت سقف الوطن، فسحةٌ ومُتَّسَعٌ لمن طلب الحق. فسحة تُغني عن الجهل النَّكَدي «المنهجي» المفضي إلى الإفلاس. حياكم لله…