لطالما شكلت الأندلس المفقودة (إسبانيا الحالية) المُضمرَ العاطفي والتاريخي في الحنين إلى فلسطين الحرّة. وحتى في محاولة «التحيين» الجارية لهذا الثنائي، يبدو لزاما على المخيال الجماعي للعرب والمسلمين أن يمرّ بالاستشهاد ليتحقّق المرور بالجنّة، المرادف السماوي للفردوس التاريخي المفقود، ومن ثمّة إلى فلسطين. ومن مكر المتوسّط، الحاضن الميثولوجي لكل الحضارات، أن إسبانيا اليوم هي الأقرب إلى عرب المتوسّط وغيرهم، حيث تميزت مواقفها في الأسبوع الأخير، ما جلب عليها غضب إسرائيل، فقد خرج رئيس الحكومة، الاشتراكي بيدرو سانشيز، عن الطوق الغربي، بإعلان موقف غير منحاز، ولا يحابي دولة الاحتلال. اختار الجانب الصحيح من التاريخ، وذلك بالوقوف على مرمى غزّة والتصريح بما لا تحبّ دولة نتنياهو. اختار منبرا له معبر رفح، ليقول ما يؤلم الاحتلال في وضعه الراهن، ويؤلمه بشكل مضاعف. أولا، عندما شدّد، في زيارته للمنطقة على «رفض القتل الأعمى للفلسطينيين في غزّة والضفة الغربية»، ونيته في أن تعمل حكومته الجديدة «في أوروبا وفي إسبانيا من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطينية». ومن الواضح أن بيدرو سانشيز قد تعمّد أن يكون إلى جانبه نظيره البلجيكي ألكسندر دي كرو، الذي سيخلفه، في الأول من يناير/ كانون الثاني، في الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، ولهذا وقعه عند إعلان المواقف، حيث تبيّن أنهما يشتركان في تقدير الموقف، كما تبيّن أن رسالتهما وصلت، مشتركة إلى عنوانها الإسرائيلي، وذلك لمّا سارع وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إلى إدانه ما سمّاها »المزاعم الكاذبة لرئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا اللتين تدعمان الإرهاب». تعدّدت الاعتبارات التي جعلت إسرائيل تغضب من الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي، ثم من الرئيس القادم لهذا التكتل الغربي القوي اقتصاديا، فهي غضبت من بيدرو سانشيز، لأنه لم يحمّل حركة حماس مسؤولية ما جرى، ولم يعتبر أن الحركة اتّخذت الفلسطينيين دروعا بشرية، كما تريد تل أبيب في لحظة تفاوض لا تعجبها، كما أن من مسبّبات الغضب الدعوة إلى دولة فلسطينية وإعلان الاعتراف بها، في هذا الوقت بالذات. وهو ورفيقه اعتبرا «أن إيجاد حلّ لأزمة غزّة لا يكفي» مع التأكيد على الحلّ الشامل بقيام دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس، مع الدعوة إلى «اعتراف المجتمع الدولي وإسرائيل بدولة فلسطين». … وتجدر الإشارة بهذا الخصوص إلى أن البرلمان الإسباني سبق له سنة 2014 أن تبنَّى بما يشبه الإجماع قرارا غير ملزم يدعو إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ويزيد من حنق الاحتلال أن بيدرو سانشيز يتحدّث بلسان صريح، وتحميه ثلاث قبّعات، منها الإقليمي ومنها القارّي ومنها الدولي، لا يمكن إغفال تأثيرها المضاعف، فالرجل المنصَّبُ حديثا رئيس وزراء دولة تنتمي إلى دائرة المتوسط، وبالتالي فهي شريكة «جيو سياسية» في معالجة القضية الفلسطينية، وسبق لأحد سياسييها المخضرمين، ميغيل أنخيل موراتينوس، أن عمل سبع سنوات مبعوثا خاصّا للاتحاد الأوروبي إلى منطقة الشرق الأوسط، وسبق لساسة أميركا، ومنهم وزير الخارجية كولن باول ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس، أن طلبا منه التوسّط في الصراع. القبعة الثانية التي يعتمِرها سانشيز تجعله مسؤولا أوروبيا، فهو يتولى حاليا رئاسة الاتحاد الأوروبي، الذي يعدّ جزءا من المنظومة الغربية التي أبانت عن مساندة غير مشرفة لإسرائيل في إبادتها الجماعية للفلسطينيين. وإذا كانت بعض الدول، القليلة العدد والضعيفة التأثير، قد اعترفت بالدولة الفلسطينية، منها السويد ومالطا ورومانيا والمجر، فإن موقف إسبانيا وبلجيكا إذا حصل سيكون الأول لدولتين كبيرتين في قلب الاتحاد الأوروبي. والقبعة الثالثة تهم موقع إسبانيا في قلب الأممية الاشتراكية، وهي التجمّع الأيديولوجي الأكبر في العالم اليوم، والذي يضم أكبر الأحزاب الاشتراكية والاشتراكية الديمقراطية في العالم. ومن المنتظر أن تكون لسانشيز بَصمته في تسيير هذا التكتل في الأيام المقبلة بعد نجاح المؤتمر الذي انتخبه بالإجماع رئيسا له، ولا سيما أن أحزابا عديدة حاكمة اليوم، في أوروبا وفي العالم، تنتمي إلى هذا التيار. علما أيضاً أن لإسبانيا دائرة نفوذ مهمّة في أميركا اللاتينية. كانت إسبانيا، في نهاية الألفية التي ودعناها، الممرّ الجيو استراتيجي الذي اختارته معادلات نهاية الحرب الباردة واستعصاءات الشرق الأوسط في عام 1991، لتناول القضية الفلسطينية. وكان العالم وقتها يستعد لانهيار الاتحاد السوفييتي، ويقرأ لوحة أنقاض حرب الخليج، فيما أعلن جورج بوش الأب عن نيته عقد مؤتمر دولي في العاصمة الإسبانية عن السلام. ووجه وقتها مع آخر رواد الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، رسالة في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 1991 إلى إسرائيل ولبنان والأردن والفلسطينيين. وبناء عليه، استضافت مدريد مؤتمر السلام في الشرق الأوسط الذي شاركت فيه، لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل عام 8491، جميع الأطراف العربية المنخرطة في نزاع مباشر معها. كثيرة الأصوات العربية التي «قصفت» إسرائيل في أتون الحرب، بلسان عربي فصيح. وقد عجزت، بالرغم من لُعاب الحرب المتطاير، عن توجيه رشقة واحدة من الصواريخ، وعدت بها شعوبها ضد الاحتلال. ولهذا يستحقّ الانحياز الإنساني في شخص بيدرو سانشيز، بالفعل، أن نرفع له قبّعة الاحترام، تنضاف إلى قبّعاته الأخرى. تعود كل هذه الحمولة التاريخية والسياسية والعاطفية، مع الخروج المشرف لبيدرو الفلسطيني، والذي فتح باب العد الأخلاقي العكسي لما راكمته أوروبا الغربية، خصوصا طوال الحرب على شعب أعزل. جانب من الانتصار الذي حقّقه أزيد من 41 ألف شهيد، نصفهم من الأطفال، هو هذا الذي غيَّر توجّه عالم بكامله، وأتاح لذوي الضمائر الحيّة والانحيازات الإنسانية أن يُسمعوا أصواتهم الخضراء، ويوقف آلة الكذب التاريخية عن العمل بكامل قوتها. تبدو الحاجة ماسّة إلى أطروحة إدوارد سعيد واجتهاداته، بل إلى سِجالاته العصية والشائقة، في إنقاذ الضمير الإنساني من ضموره الأخلاقي. وهي أطروحة انحازت، بلا مواربة، إلى حقّ الفلسطيني في تحرير أرضه ونفسه، في موازاة مع تحرير الإنسانية من التباسها الأخلاقي حول ما يجب أن يفعله الضمير في لحظات القسوة الفاشية لتاريخ مأساوي. نشر ب «العربي الجديد» يوم 2023/11/28