إذا كانت القراءة غذاء للعقل، فإن الكتابة علاج لاختلالات النفس والعقل معا. التكامل الضروري بين القراءة والكتابة هو ما يضفي عليهما معا أهميتهما. ليست القراءة مكتفية بذاتها، كما ليست الكتابة مكتفية بذاتها. قراءة مفيدة أساس كل كتابة ترقى إلى مستوى العلاج. عندما أكتب للنشر أستحضر القارئ أساسًا، ليس لأكتب ما يعجبه، ويرضى عنه، بالضرورة، وإنما لأسطر ما يبدو لي أن مشاركة غيري فيه قد تنطوي على فائدة معنوية، ليس ممكنًا تحققها لو ظل ما أفكر فيه ببؤرة ذهني، حيث قد لا يعدو كونه، في البداية، خاطرة عابرة، تزول بزوال اللحظة التي داهمتني فيها. الإمساك بالخاطرة وتحويلها إلى فكرة، هو الجسر الممكن بيني وبين القراء. وليس ليغير من هذا الأمر، إعجاب أو سخط ممكنان لدى القارئ؟ لأنهما معًا من طبيعة الأشياء، ما دمنا لسنا نسخا طبق أي أصل موهوم، ولا جدوى من السعي إلى تحويل الناس إلى نسخة واحدة مكرورة. والحياة في هذه الحالة، لا يمكن أن تطاق. كل كاتب يسعد لكونه مقروءا، سواء نال تأييد قرائه، أو ناله نصيب من النقد، بما في ذلك الصنف الذي يضع على عاتقه دحض أطروحاته وتفنيد براهينه، بما هو مضاد ومناقض لها، في مجال الكتابة الذي يتحرك ضمنه، سياسيًا كان، أو اقتصاديًا، أو فكريًا. لذلك، لن تجد كاتبًا حقيقيًا لا يحتفي بالنقد الذي تثيره كتاباته، لدى المهتمين، كما لدى عموم القراء. سواء أعلن ذلك صراحةً أم أسر به إلى نفسه دون غيره من الناس. وذلك لسبب بسيط، هو أن النقد، بما في ذلك صنفه المغرض أو المتحامل، يفتح أمام الكاتب قارات أخرى من التفكير، لم يكن قد انتبه إليها ربما، عند بلورة النص الأصلي. وليس هناك أدنى شك في أن بصمة هذا النقد ستجد لنفسها طريقًا إلى النصوص الجديدة، التي يبلورها الكاتب في المستقبل. وهذا ربما هو ما يميز بين الكاتب الحقيقي والمزيف، وهو، في كل الأحوال، ما يضمن التطور والتقدم للأول، ويشد الثاني إلى مواقع ليست تعرف إلى التطور والتقدم سبيلًا. كل كتابة موقف، وكل إسهام في الحوار والنقاش والنقد موقف، غير أن الموقف ليس عين الحقيقة بالضرورة لا في الكتابة ولا في نقدها، إنما الحقيقة قد تكون نقطة تقاطع بين أكثر من موقف ورأي في ضوء معطيات واقع متحول باستمرار ومركب بالتعريف مما يجعله مستعصيا على الاختزال. لذلك فإن البحث عن الحقيقة في تدوينة أو مقال أو حتى في كتاب هو رهان غير موفق بالتأكيد، لأن صواب الموقف في مجمله لا يستوعب حقيقة الواقع أو حقائقه المتعددة بالأحرى، وهذا التعدد مصدر ثراء ولا ينبغي تحويله إلى لا أدرية ما أو ما شابه باسم النسبية الملازمة لكل ما هو متعدد، إذ النسبية هنا عامل محرك للإبداع المعرفي في حين أن النزعة النسبية المتطرفة مناهضة للمعرفة والإبداع والحقيقة. اعتماد هذه المنهجية في مقاربة المكتوب أو المسموع أو المرئي من التعبير عن الرأي أو الموقف يفتح الباب واسعا للتفاعل الإيجابي بين المنخرطين في هذه العمليات المعقدة بالمعنى التركيبي حيث الواقع حاضر بقوة وحيث الفكر حاضر بقوة وحيث العواطف والأهواء تعيش تشذيبا متواصلا باستمرار هذه الحركة الدائبة بين الواقع والفكر، في أفق بلورة وإعادة بلورة حقائقهما المتحولة باستمرار. اقرأ. تأمل جيدًا في المقروء. كون رأيًا، ثم عبر عنه بوضوح. هكذا تفيد غيرك. يتعزز رأي المتفق مع رأيك. تتوضح الصورة أكثر أمام من يتبنى وجهة نظر أخرى. وقد يبادر، ربما، إلى طرح فكرته، أو رأيه خارج مناطق الظل والالتباس. هذا شرط أولي من شروط الحوار، الذي يتجاوز حوار الصم. ويمكن أن تتولد عنه، بالتالي، أفكار جديدة، مختلفة عن رأيك الأصلي، ورأي الذي يجادلك انطلاقًا من رأيه. إذ ليس مهما أن تكون التركيبة الجديدة، من الأفكار، مشتركة بينكما، بل المهم أن تؤسس لحوار أعمق وأوسع وأشمل. وهذه غاية الغايات، إذا جاز لنا التعبير. إذ بها تتقدم الأفكار ويتحقق التنوير المنشود، من كل حوار فكري حقيقي. لاحظت أن الكثيرين لا يتجاوزن قراءة عناوين ما ينشر في المواقع الإلكترونية، كما على صفحات الفيس بوك، وربما في الصحف أيضًا، ليزعموا أنهم كونوا فكرة واضحة عن مرمى الكاتب، وما يريد قوله. وربما معرفة ما يعتمل داخل عقله الباطني أيضًا. العناوين يا سادة، هي لجلب الأنظار، وليس لتدقيق القول، إذ لو كان العنوان كافيًا، فما هي الحاجة إلى تدبيج متن من المتون إذن؟ والعناوين يا سادة، وخاصة في المواقع والصحف، عادة ما تكون من بلورة سكرتير التحرير أو رئيس التحرير، وهمه الأساس هو، هنا أيضًا، لفت نظر زائر الموقع أو متصفح الجريدة، ودفعه إلى قراءة المتن المنشور. لذلك رجاءً، من لم يجد في نفسه الصبر الكافي لقراءة مقالة ما أو تحليل ما، فلا أحد يؤاخذه على ذلك، إنما المؤاخذة تبدأ عندما يتم التنطع إلى إبداء الرأي في نص لم تتم قراءته أصلًا. هذه من الأبجديات التي لا ينبغي أن تغيب عنا. القراءة، بالنسبة إلي، إنصات قبل كل شيء. أحاول أن أفك شفرة المكتوب، من خلال الإنصات إلى الكاتب أولا. أحاوره على المستوى الذهني. أتساءل عن الهدف من طرح هذه الفكرة أو تلك. قد أتلقى الجواب، من الكتاب الذي أقرأه، وقد لا أتلقاه، لكن ما يستهويني، بالذات، هو قدرة الكاتب على تحفيز وتنشيط الذهنية التساؤلية لدي. وعموما، لا أحب الكتابات التي علي أن أقول: آمين، عند الانتهاء منها، إذا صبرت على ذلك. لأن هذا يعني أنها خالية من أي قيمة مضافة، بالنسبة إلي على الأقل.