من ينتقد سياسة الدولة الفرنسية في مجال الإسلام يمكن أن يتعرض للمتابعة باسم القانون الجديد المسمى «الانفصالية». هذا القانون يعطي للدولة الفرنسية مفهوم القداسة الذي كانت تتمتع به الكنيسة في القرون الوسطى، ولا يمكن مناقشة سياستها في قضايا «إسلامها» الفرنسي على الخصوص، وأصبحت قرارتها مقدسة كما كان في النظام القديم، وهو قانون يسمح اليوم بمتابعة كل من ينتقد سياسية الدولة في هذا المجال. هذه الملاحظة أثارها العديد من الباحثين في الشأن الإسلامي بفرنسا منهم هاوس سينيغر، الذي نبه في عدد من اللقاءات إلى هذا التحول في السياسة العمومية لبلده، وهو تحول برز على الخصوص في نوفمبر 2015 مع العمليات الإرهابية التي ضربت فرنسا من طرف جماعات متطرفة. ومس هذا التحول مبدأ اللائكية كأحد مكونات الجمهورية واستعماله بطريقة سياسية خاصة تجاه الأقلية المسلمة بفرنسا.وألف هذا الباحث كتابا في هذا المجال أطلق عليه «الجمهورية الاستبدادية.. إسلام فرنسا وأوهام الجمهوريين»، وتحول هذا المفهوم أي اللائكية إلى موقف وقيمة أخلاقية يجب تطبيقها على هذه الأقلية التي يشكك في انضباطها واحترامها لهذا المبدأ دون غيرها من الأقليات الأخرى التي تشكل المجتمع. بعد ثلاث سنوات على إنشاء صندوق لمحاربة «الانعزالية» ولا سيما الدينية منها، بات الصندوق في صلب تحقيقين أحدهما قضائي والثاني برلماني، ما بين شبهات باختلاس أموال واتهامات بالمحاباة وإنتاج محتويات مثيرة للجدل، بعدما حملت عليه عائلة سامويل باتي، الأستاذ الذي قتله إسلامي متطرف شاب بقطع رأسه في 16 أكتوبر 2020 عند خروجه من مدرسته في ضواحي باريس. وأصبحت الوزيرة مارلين شيابا المنتدبة لشؤون المواطنة متهمة اليوم بتبديد أموال هذا الصندوق لصالح أصدقائها وأنصارها باسم محاربة الانعزالية الدينية. هذه الأزمة بالحكومة وهذا التدبير الذي يوجد اليوم بيد القضاء يبين طريقة التعامل مع جانب المعتقدات بفرنسا. لنعد إلى التطور في التعامل مع الإسلام وتجاه هذه الأقلية ببلد فولتير، والتي تتشكل أساسا من المغاربيين، رافقته أحداث دولية كان لها تأثير سلبي على صورة الإسلام بفرنسا، وهو الأمر الذي رصدته عدة دراسات، وأبرز تطور كان في هذا المجال الثورة الإيرانية التي قادها الخميني واختياره المواجهة مع الغرب والتهديد بإهدار دم سلمان رشدي، هذا بالإضافة إلى فوز جبهة الإنقاذ الإسلامية بالجزائر في الانتخابات، واختيار العسكر للمواجهة مما تسبب في العشرية السوداء والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والمفقودين بالجزائر في عقد التسعينيات من القرن من الماضي. ووصلت انعكاسات هذه الوضعية إلى فرنسا من خلال سلسلة عمليات ومحاولات فاشلة شهدتها باريس ومرسيليا. كانت هذه مجمل الأحداث السياسية والأمنية التي أثرت على صورة الإسلام بفرنسا والغرب في القرن الماضي دون نسيان الماضي الاستعماري خاصة في الجزائر الذي مازال حاضرا في ذاكرة المجتمع الفرنسي. بعد هذه الوضعية التي عاشتها فرنسا في نهاية القرن الماضي، جاءت عمليات11 من شتنبر 2001 في نيويورك بالولايات المتحدةالأمريكية، والتي خلفت صورة جد سلبية عن الإسلام، وهي عمليات تبنتها القاعدة، لكن التحول المهم بفرنسا تم سنة 2015 بعد سلسلة من العمليات الإرهابية التي راح ضحيتها العشرات من الفرنسيين. هذا الوضع بفرنسا يتطرق له كتاب بعنوان «الجمهورية الاستبدادية.. إسلام فرنسا وأوهام الجمهوريين»، يتحدث فيه الكاتب هاوس سينيغر عن الطريقة التي انزلقت بها الدولة الفرنسية تدريجيا نحو الأمن والإدارة المتشددة للإسلام في فرنسا منذ عام 2015، وكيف تم المس من طرف الجمهورية الفرنسية بالحريات العامة والدينية التي تراجعت باسم محاربة الإرهاب. وأصبح منطق الشك والريبة هو الذي يحكم الدولة في تعاملها مع العقيدة وممارسي العقيدة الإسلامية من خلال حالة الطوارئ المطولة التي شهدتها فرنسا خاصة في مجال تدبيرها للإسلام، وقانون سحب الجنسية الذي استهدف هذه الأقلية دون باقي الأقليات الفرنسية. بالإضافة إلى قانون مناهضة «الانفصالية» الذي يسمح اليوم بمتابعة كل من ينتقد سياسية الدولة في مجال تدبيرها للإسلام. يؤكد هذا القانون حول «الانفصالية» الانتقال من النظام القانوني الذي ينظم سلوك الأفراد إلى النظام الأخلاقي الذي يفحص مواقفهم وآراءهم، يقول نفس الباحث، ويضيف «هذا تحول نوعي: أي شخص ينتقد اللائكية في إطار مرجعي إسلامي يتعرض لخطر القمع بموجب القانون، لأن هذا الإطار المرجعي الديني يُشتبه الآن في تأجيجه النزعة الانفصالية.» مصطلح «الانفصالية» الذي اختاره إيمانويل ماكرون – وظهر بشكل خاص خلال خطابه في لي مورو (إيفلين ضاحية باريس)، في أكتوبر 2020 – ضار بشكل خاص. وهو يهدف أولاً وقبل كل شيء إلى تجنب استخدام كلمة «الطائفية»، حتى لا يعطي انطباعًا باستهداف طائفة ما، في حين أنه من الواضح أننا نتوجه إلى المسلمين. الانفصالية هي إضفاء الطابع الفردي على العقاب، لأنها تستهدف أفراد معينين، بالإضافة الى الطائفة. ومع ذلك، فإن رؤية خطاب ماكرون تتساءل: ما هي العتبة التي تسمح باستيعاب خطاب يحمل رأيًا ليصبح انفصاليا وخارج القانون؟» يقول هاوس سنيغر الباحث في الشأن الإسلامي لجريدة «لوموند». وهي وضعية أثرت على مسلمي فرنسا الذين أصبحوا يشعرون أنهم مستهدفون من طرف الدول التي خرجت عن مبدأ اللائكية الذي يقره دستور الجمهورية الذي يعني أن الدولة الفرنسية محايدة أمام جميع المعتقدات. بل أصبح منهم من يعتبر الدولة الفرنسية «معادية» للإسلام. هذه الوضعية أكدتها الفضيحة التي اندلعت مؤخرا وهي طلب وزارة الداخلية الفرنسية مؤخرا من مسؤولي التعليم تحديد هوية التلاميذ الذين تغيبوا في عيد الفطر في 21 أبريل الماضي، يكشف هذا السلوك أن إحدى مؤسسات الدولة أصبحت تراقب سلوك سكان أحد أهم الأقليات بالبلد وتمس بالحريات العامة وتتجسس على جزء من السكان لمتابعة ممارساتهم العقائدية. وفي تعليقه على هذا القرار، قال الباحث هاوس سينيغير في حوار مع جريدة لوموند «بأن السلطات الفرنسية بالكاد تكافح لتطبيق القانون بالتساوي والتعامل بحيادية مع المسألة الإسلامية والوجود الإسلامي في فرنسا، وبالتالي فمثل هذا القرار في هذا التوقيت يزيد من حدة تشكيك الناس في الأداء الطبيعي للدولة الديمقراطية. وذكر أنه بسبب ما جرى، لا يجب أن يشعر أحد بالغضب ممن يرون في مبادرة وزارة الداخلية شكلا من أشكال الإسلاموفوبيا تمارسه الدولة الفرنسية.» كما أن الدولة الفرنسية لا تتردد في التدخل في الشؤون الدينية للفرنسيين وتنظيم الإسلام وتمثيليته خير دليل على ذلك، ووضعت الدولة مؤسسة جديدة منتدى الإسلام بفرنسا» بدل «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية»، وعملت بوسائلها على إيجاد بديل تنظيمي يلائمه بل يلائم تصور الرئيس إيمانويل ماكرون للإسلام. وهو ما يعني أن كل رئيس فرنسي جديد يقوم بترتيب تصوره وعلاقته بالإسلام والمسلمين وفق طريقته ووفق الاستشارات التي يحصل عليها من مقربيه، وذلك في دولة لائكية من المفترض أن يكون مسؤولوها على مسافة من مجال ممارسة المعتقدات. وحسب هاوس سينيغر فإن تكليف «منتدى الإسلام في فرنسا» بمهمة ضمان توجه ليبرالي للدين الإسلامي بفرنسا، قضية محكوم عليها بالإخفاق، لأن الاتجاه الإسلامي المحافظ في فرنسا حقيقة واقعة، ومن ثم فرغبة البعض في فرض «إسلام تنوير» من أعلى، خطأ خطير في التشخيص، ويضيف أن إسلام التنوير «إسلام « تحدث عنه ماكرون، وقال إنه مصطلح بُني على فكرة غير مدروسة مشتقة من عقلية استعمارية، مذكرا بأحد رواد الفكر الاستعماري الفرنسي روبرت مونتاني (1893-1954) الذي كان قد دعا إلى ما سماه «تطهير الإسلام» من خلال صنع «إسلام لبيرالي» متحرر يقول نفس الباحث في حوار مع جريدة لوموند. هذه السلوكات تجعل أغلب مسلمي فرنسي يشعرون أن الدولة الفرنسية تتدخل في مجال معتقدهم، بل الأكثر من ذلك تسمح لنفسها في التدخل في حرية المعتقد في شكل من الأشكال. وهو نفس السلوك الذي تنهجه الأحزاب السياسية بفرنسا التي تستعمل اليوم مبدأ اللائكية واحترامه من أجل الهجوم على مسلمي فرنسا، حتى اليمين المتطرف، المعادي تاريخيا لمفهوم اللائكية بفرنسا، وجد ضالته في استعمال هذا المفهوم كحصان طروادة لمهاجمة المسلمين. سلوكات هذه الأحزاب أو بعض مؤسسات الدولة وتعاملها مع إسلام فرنسا بشكل لا يحترم مبدأ اللائكية الحقيقي، وهو عدم تدخل الدولة في المعتقد، وسلوك الشك والتهم الجاهزة ضد مسلمي فرنسا، يجعل العلاقة معقدة بين هذه الأقلية بفرنسا والمجتمع السياسي بصفة عامة، ويجعل المسلمين بهذا البلد ينظرون نظرة خوف وتوجس إلى الدولة ومؤسساتها بل يعتبرها بعضهم معادية للإسلام، كما يخلص إلى ذلك هاوس سينيغر.