لقد شهدت إفريقيا منذ خروج الاحتلال الأوربي المباشر في منتصف القرن العشرين وإلى غاية 2023، أزيد من ستين نزاعاً مسلحاً معظمها لأسباب داخلية ساهمت اليد الخفية في تسعيرها وصب الزيت على نيرانها، ولازالت هناك حوالي 13 بؤرة صراع تعيق القارة السمراء عن شق طريقها نحو السلام والتنمية والوحدة، وتحقيق شروط الحياة الكريمة لأبنائها، ولو في حدودها الدنيا، من ربط بشبكات الماء والكهرباء والتطهير والطرق، وتوفير مقعد دراسي لكل تلميذ في سنّ الدراسة ومستشفى لعلاج المرضى. لقد تبخرت أحلام معظم الشعوب الإفريقية، مع استثناءات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في تحقيق الاستقلال الفعلي في قرارها السياسي وسيادتها الاقتصادية وأمنها الغذائي. ثمّ حلّت بالعالم أزمة كوفيد_19 لتسقط آخر أوراق التوت عن سوْءة القارة وتكشف عن تبعيتها للآخر بشكل مطلق وفظيع في مجال الدواء والغذاء، إذْ احتلت المراكز الأخيرة على الصعيد العالمي في تأمين اللقاح بل وفي الحصول على الأقنعة الطبية ومواد التعقيم البسيطة خلال تلك الجائحة العالمية. إنه صك إدانة لحصيلة الأنظمة التي جاءت على ظهور الدبابات ورفعت شعارات إيديولوجية دغدغت مشاعر الملايين ردحاً من زمن الحرب الباردة، لتستيقظ «الجماهير الشعبية» على الحقيقة المرّة لواقع يتحكّمِ فيه مستعمِر الأمس بواسطة وكلائه المحليين في مواردها الطبيعية ومؤسساتها المالية والاقتصادية والعسكرية والثقافية وبالتالي السياسية. إنها حقيقة النخب الفاسدة التي راكمت الثروة واحتكرت السلطة، وفرخت من هذا الزّواج غير الشرعي كل الأمراض والأوبئة التي فتكت بالقارة السمراء بدءاً من المحسوبية والرشوة والقبلية، وصولاً إلى الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية والحركات الانفصالية والنزاعات الحدودية التي استعملتها كفزاعة لتجييش الشعوب وتهييج نفْسها الغضبية، وتحويل أنظارها نحو العدو الخارجي بدل معالجة المشاكل الداخلية وبناء القدرات الذاتية. لقد وجدت الدكتاتوريات العسكرية ضالّتها في هذه الوصفة السحرية، حتى صدّق الجلاّدون أنفسهم وتقمّص الجنيرالات والعقداء دور الثوّار والزعماء، وتحولت بقدرة قادر الانقلابات إلى ثورات، واستبدلت المجالس العسكرية أسماءها بمجالس قيادة الثورة ثمّ ما لبثت تلك الأنظمة، في ظل حرب المواقع بين القوى الكبرى، أن حصلت على «الاعتماد» من عاصمة المطرقة والمنجل لِتَتفيّأ مكاناً تحت ظلال النجمة الحمراء. والنصف الآخر من إفريقيا حصل على الاعتماد المضادّ من البيت الأبيض مشفوعاً بصك البراءة من الإلحاد والحزب الوحيد، وشهادة بالانتماء إلى العالم الحرّ. أكيد أنه بعد مرور ستة أو سبعة عقود من الزمن على الاستقلال الشكلي لدولها، لم يعد ممكناً أن تُعلق إفريقيا فشلها على الاستعمار الأوربي وحده. صحيح أن الاستعمار جزء من الأزمة البنيوية التي تنخر القارة، وصحيح أن «الرجل الأبيض» لم يغادر من الباب إلا ليتسلل من النافذة، وصحيح أنّ مستعمر الأمس لازال في بعض الحالات يتحكم بشكل مباشر في البنوك المركزية وسكّ العملة وتحديد قيمة صرفها كما هو الشأن بالنسبة لدول غرب إفريقيا التي لازالت تتعامل بالفرنك، ولكن ذلك كله لا يلغي مسؤولية الأنظمة التي أخلّت بواجبها في بناء الدولة الوطنية ومؤسساتها القوية. ونتيجة لهذا التخريب الممنهج لقدرات الدول النامية فقدت الشعوب الثقة في أنظمتها ومؤسساتها، وكان ذلك بمثابة فيروس الجمرة الخبيثة التي ستحرق معظم تلك البلدان. فبانعدام الثقة في العدالة وبانتفاء المساواة في الحقوق والواجبات بين مكونات الشعب الإثنية أو القبلية أو الدينية أو السياسية، وبانسداد الطريق أمام تغيير الحكومات بالطرق السلمية والقانونية، ستلجأ الفئات المتضررة أو التي تشعر بالمظلومية إلى كل الوسائل إما طمعاً في انتزاع حقوقها أو للانتقام من جلاديها. وبما أنّ الأرضية كانت خصبة بوجود مجتمعات متعددة الإثنيات والمعتقدات، فقد كان من السهل أن تنفجر هنا وهناك حركات انفصالية ومشاكل حدودية أو جماعات دينية متطرفة. ولتمويل أنشطتها لم تكن لتجد حليفاً أفضل من عصابات تهريب السلاح والمخدرات والاتجار في البشر. هذه هي الأرضية التي عليها ستبني القوى الكبرى مشاريع تفكيك الدول التي تختزن في باطنها المعادن النفيسة والثروات الطبيعية وحقول النفط والغاز، وهي المهمة التي تعتبر استكمالاً للمشروع الكولونيالي القديم لتقسيم وتفتيت البلدان إلى فسيفساء متناهية الصّغر تجعل من كل دولة كياناً لا يملك مقومات السيادة، وبالتالي يصبح مديناً بالولاء لأحد مراكز القرار المسيطرة على العالم. فإذا نظرنا إلى ما يجري في السودان اليوم من اقتتال بين الجنرال البرهان قائد الجيش وغريمه الجنرال الملقب ب «حميدتي» قائد قوات التدخل السريع، فإنه سناريو مكرر لما وقع في جنوب السودان الذي تمّ فصله بعد ظهور حقول النفط فيه، وهناك بوادر لنقل «حميدتي» إلى دارفور التي انطلق منها في بداية مشواره ليعلن عن استقلال الإقليم الذي يوجد به أكبر منجم للذهب في السودان إلى جانب ثروات أخرى. وبشكل قريب من هذا المشهد تشكل الكونغو الديمقراطية بمساحتها الشاسعة وثرواتها الطبيعية والصراعات الداخلية المتشعبة مرشحاً قوياً للسير على خطى السودان في التقسيم مرة أخرى بع التقسيم الذي تعرضت له عند بداية الستينيات. أما ليبيا فرغم الوحدة النسبية لنسيجها العرقي، إلا أنها لم تسلم من تفجير مشاكل التبو في الجنوب وأقلية أمازيغية في الشمال انضاف إليها وجود قابلية تاريخية لتقسيم البلد إلى ثلاثة أقاليم كانت تشكل شبه فدرالية في العهد السنوسي، وهي أقاليم طبرق وطرابلس والواحات، وعملياً توجد على الأرض حكومتان واحدة في الشرق والأخرى في الغرب، وقد أصبح لكل منهما حلفاء إقليميون ودوليون يوفرون لهم المظلة السياسية والعسكرية لأهداف أكيد أنها لا تخدم المصالح الليبية. وبالنسبة للجزائر، لا شكّ أنّها جمعت ما تفرق في غيرها من عناصر الانفجار الداخلي التي أتينا على ذكرها في باقي دول القارة، فهي دولة يحكمها العسكر بقبضة من حديد، والعسكر نفسه منقسم إلى أجنحة متصارعة على النفوذ بدليل تواجد حوالي 30 جنرالا خلف القضبان، وهروب جنرالات منهم قائد الدرك غالي بلقصير وقائد الجيش الأسبق خالد نزار إلى إسبانيا قبل أن يعود هذا الأخير إثر سيطرة جناحه مرة أخرى على السلطة. وإلى جانب هذا التناحر الداخلي الذي قد يخرج عن السيطرة في أي لحظة، هناك فساد مالي ينخر مؤسسة الجيش وأبرز عناوينها ما تم الكشف عنه في كتاب «مافيا الجنرالات» من امتلاك قائد الجيش الراحل الجنرال العماري لأزيد من عشرين فندقاً في فرنسا لوحدها، بالإضافة إلى فضيحة تبخر ألف مليار دولار خلال الولايتين الأوليين من حكم بوتفليقة. وهي نفس الفترة التي ظهرت فيها إلى السطح مجموعات أولغارشية مقربة من الجنرالات قد تكون مجرد أقنعة للجنرالات النافذين ومنهم عائلة خليفة التي فجرت ما وصف بفضيحة القرن في الجزائر في قضية بنك خليفة وشركة طيران خليفة، وغيرها كثير من الفضائح التي تورط فيها رجال أعمال مقربون من دوائر النفوذ في الجيش والرئاسة ومنهم رجل الأعمال علي حداد الذي يقبع في السجن هو الآخر، وقضية وزير النفط شكيب خليل الذي فرّ إلى الولاياتالمتحدة، والقائمة طويلة. وقد نجم عن حالة التعفن في أجهزة الجيش والدولة، انقسام أفقي وعمودي داخل أركان الدولة، دفع بكل أطياف الشعب للخروج في حراك شعبي هادر لمدة تفوق السنتين ونصف السنة، تلته حملة اعتقالات في صفوف النشطاء والصحافيين وقادة المعارضة من أمثال كريم تابو الأمين العام السابق لجبهة القوى الاشتراكية، ولم يسلم من الاعتقال حتى رموز ثورة التحرير ضد الاستعمار مثل «المجاهد لخضر بورقعة» بتهمة إضعاف معنويات الجيش الجزائري! وقد أدت هذه الأحداث والفشل الذريع للدولة الجزائرية في القيام بوظائفها الأساسية إلى احتقان سياسي وسخط اجتماعي ساهم في تأجيج أصوات الحركات المطالبة بالاستقلال في منطقة القبائل شمالاً وفي منطقة الطوارق جنوباً بالإضافة إلى مطالب الحكم الذاتي للأقلية المزابية في غرداية التي تعرضت للتنكيل والقمع مما أودى بحياة زعيمها الدكتور كمال فخار تحت التعذيب سنة 2019، كما قتل العشرات في أحداث 2015. ولا ننسى آثار العشرية السوداء وتفريخ الجماعات المتطرفة التي لم تندثر وإنما أعادت انتشار أفرادها في دول الساحل والصحراء تحت مسميات جديدة كجماعة الموقعين بالدم وأخواتها. إنّ القاسم المشترك بين هذه الدول الأربعة هو امتلاكها لثروات معدنية وطاقية هائلة تثير شهية القوى الكبرى، ورقعة جغرافية شاسعة لا تتوفر فيها شروط الدولة الأمة، وخضوعها لأنظمة عسكرية احتكرت السلطة والثروة وخلقت احتقانا سياسيا طويل الأمد، أدى إلى انتشار واسع لمافيا الفساد وهيمنة الأولغارشيا، نجم عنه ضعف الدولة وفشلها وإهدار ثرواتها على الأسلحة التي لم تستعملها الجيوش إلا لقمع شعوبها. كلّ ذلك وغيره دفع إلى ردود فعل عنيفة تصب كلها في تفكيك أوصال الدولة الموروثة عن الاستعمار وظهور مشاريع مجتمعية بديلة تتراوح بين حركات تطالب بالاستقلال وأخرى تطالب بدولة دينية، وفي ظل الفراغ وجدت عصابات الجريمة العابرة للحدود أرضاً خصبة للتوسع والانتشار. يحدث هذا في وقت يعيش فيه العالم على وقع تحولات كبرى ستغير خارطته التي رسمت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لتقوم مقامها خارطة جديدة، فهل ستكون الجزائر وشقيقاتها الأخرى أولى ضحايا هذه التغيرات الجيوسياسية؟ ذلك ما ستنبئنا به السنوات القليلة المقبلة.. —-