مولاي الطاهر الأصبهاني وما أدراك ما مولاي الطاهر .. فنان اجتمعت فيه كل المميزات التي يتمناها أي مشتغل في هذا المجال، ممثل من طينة الكبار، فاعل أساسي في زمن أوج مسرح الهواة، من خلال أعمال مسرحية جليلة مع فرقة «شبيبة الحمراء» وفرقة «كوميديا» إلى جانب القامة مولاي عبد العزيز الطاهري ومحمد الدرهم ولمعلم الزجال الكبير محمد شهرمان، منها مسرحية « التكعكيعة « و»نكسة أرقام « و»الضفادع السوداء» وغيرها من الأعمال التي حازت على جوائز في المهرجانات الوطنية لمسرح الهواة في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، وكانت من أولى الفرق التي توظف الغناء في المسرح مثل الجزء الأخير من أغنية « نرجاك أنا «، والتي تقول « آش بغيت أنا بهاد العالم…»، وهي الأغنية التي تغنت بها الغيوان في ما بعد، من تلك الأعمال المسرحية ما كتبه شهرمان، وما كتبه مولاي عبد العزيز وغيرهما. فمولاي الطاهر، رجل يحمل جنون الفنان، في ستينيات القرن الماضي كان موظفا بأجر محترم لدى وزارة الفلاحة مكلفا بالري بمنطقة الحوز، وكان هو المسؤول الوحيد في المنطقة عن هذه العملية، وفرت له الوزارة سيارة مع عدة امتيازات في تلك الحقبة، امتيازات كان يتسابق عليها الجميع أنذاك لكنها لم تكن تعني لهذا المهووس بالمسرح أي شيء، فهو من أوفى الأوفياء لمجموعته المسرحية لا يتخلف عن أي موعد من مواعيدها خاصة في المسابقات الوطنية، عندما لمحه الصديقي وكان عضو لجنة التحكيم في مهرجان المسرح الوطني للهواة نادى عليه، وكان قد تابعه خلال مواسم متعددة وسأله: « آجي آش كادير أنت ف العمل ديالك ؟ « أجابه مولاي الطاهر بأنه موظف في وزارة الفلاحة، ليعالجه الطيب الصديقي برد سريع وحاسم « آش داك انت لشي فلاحة أنت ديال المسرح راه بغيت نشوفك ف المسرح البلدي نهار الاثنين « .. دون تفكير ومباشرة من المعمورة، حيث كانت تقام فترة تدريبية للمسرح يشرف عليها الصديقي والطيب لعلج وآخرون، سيحل مولاي الطاهر بالدارالبيضاء، تاركا وراءه الوظيفة والأجرة وكل تلك الامتيازات ليلج شوارع البيضاء بدون بوصلة، ودون أن يعرف حتى إن كان الصديقي سيمنحه أجرا أو لا، فالأخير بدوره كان يتعارك من أجل خلق مسرح مغربي أمام آلة أخرى كان لها رأي آخر، مباشرة بعد التحاقه بالمسرح البلدي سيشارك في أعمال مسرحية كبيرة مع الرجل منها « النور والديجور «، وبعض الملاحم وأعمال أخرى، ومعروف أن الصديقي كانت له فرق داخل فرقة واحدة، ففي الجانب الآخر كان هناك العربي باطما وبوجميع وعمر السيد ومحمد مفتاح والزوغي والحسين بنياز وغيرهم يقدمون أعمال أخرى، ضمنها مسرحية «الحراز» الشهيرة، وبمناسبة الحديث عن هذا العمل وجب التذكير بأن عبد السلام الشرايبي كان قد اشتغل على هذا النص الملحوني الجميل وقدمه بمراكش أمام المرحوم الحسن الثاني بحضور سفراء الدول المعتمدين بالمملكة، وكان يلعب فيه دور «البطل المحبوب» الفنان والمبدع مولاي عبد العزيز الطاهري، لعدة اعتبارات منها وسامته، لكن الأهم أنه كان من حفظة الملحون وفن القول والأذكار وغيرها من فسيفساء التراث الفني المغربي، ولما اتفق الصديقي مع الشرايبي على إعادة توظيب هذا العمل وتقديمه من جديد، هذه المرة من زاوية منظور تقنية إخراج الصديقي، نصحه الشرايبي باستقدام مولاي عبدالعزيز الطاهري الذي كان في تلك الحقبة بالدارالبيضاء، ليساعد الممثلين على حفظ الأغاني المتخللة للعمل وطريقة أدائها، وبالفعل ذلك ما حصل، كان مولاي الطاهر بعد طول اشتغال على أعمال مختلفة مع الصديقي ينتظر يوم عطلة كسائر زملائه إلى أن جاء ذلك اليوم بعد أن وزع عليهم الصديقي تعويضاتهم وطلب منهم أخذ أيام استراحة، انشرحت أسارير مولاي الطاهر فأخيرا سيفلت من الانضباط والتشنج وسيتمتع بتسكع لطيف مع الأصدقاء، إلا أن الصديقي سيصدمه « انت ماغتمشيش انت راك غادي تصور معنا الحراز للتلفزيون وراه غنصوروها غدا « ، « الله آسي الطيب كي غندير تنحفظ الدور وأنا عيان وعمرني لعبت ف العمل «، أجابه مولاي الطاهر بذهول والحيرة تعتلي محياه، تعقيب الصديقي كان حاسما « ما تخاف والو راك قاد عل الدور وغادي تكلف به « . من يقدر على مجابهة الصديقي فهو الأستاذ والأب الروحي والواثق في أعماله وعلى دراية شاملة بمؤهلات العناصر المشتغلة معه، لم يكن مولاي الطاهر يعلم أن الصديقي من خلال اختياره للمشاركة في هذا العمل كان يدفع به إلى آفاق أخرى ستصبح هي محدد مستقبل مساره الفني، إذ سيلعب دور صديق المحبوب الذي يتنكر في زي امرأة ليقتفي أخبار الحراز، ولعل من أبرز المشاهد التي مازالت عالقة في الذاكرة المغربية ذلك المشهد الذي يظهر فيه مع بوجميع وعمر السيد وهما يؤديان أغنية « هاك آماما اعطي لماما»، توددا لمولاي الطاهر الذي يقدم رقصة بالأكتاف اعتقادا منهما أنه خادمة فعلية لدى الحراز ، تلك المسرحية ستكون سببا رئيسيا في نسج علاقة صداقة وطيدة بينه وبين بوجميع على الخصوص، ستمتد إلى خارج أسوار المسرح وتنسج الانسجام الحميمي بين الرجلين في مقهى «با محمد» غير البعيدة عن المسرح البلدي، فهناك كان المستقر والترويح عن النفس والمأكل والمشرب، قبل خوض مغامرات تأتي بها الصدف وليس شيئا آخر غير الصدف… تتوالى الأيام بسرعة البرق وسيؤسس بوجميع بمعية العربي باطما ومولاي عبدالعزيز الطاهري والسعدي وعمر السيد مجموعة ناس الغيوان، فيما ظل مولاي الطاهر يخوض غمار المسرح إذ سيشارك في أعمال أخرى مع الصديقي ومسرحيات مع الزوغي لعل أبرزها « على عينيك آبنعدي «، وهي المسرحية التي ستظهر فيها أغنية « العارآبويا « التي لحنها مولاي الطاهر. تأسيس ناس الغيوان لم يكن ليحد العلاقة بين بوجميع ومولاي الطاهر، فقد ظل الرجلان على ذات المواعيد وفي ذات المكان يلتحق بهما ثلة من الأصدقاء منهم الباهري محمد وباري وكثيرون، أيضا تأسيس فرقة غنائية لم يكن يعني للأصبهاني شيئا غريبا فهو يعتبره امتدادا مسرحيا ليس إلا، وماذا سيفعل هو بالامتداد مادام متواجدا في كنه المسرح أصلا، دعوة خاطفة من حميد الزوغي ستكون حاسمة في دخوله غمار الغناء، فقد أبلغه أنه بصدد تأسيس فرقة غنائية تعنى بالتراث، وبعد التفكير والاستماع لصديقه، وهو المسرحي المجرب لألوان التراث الغنائي، سيطلب منه إن أراد إنجاح المشروع الاستعانة بعناصر أخرى على رأسها محمد الدرهم، الذي سبق واشتغل معه في المسرح، وكان الزوغي قد قدم له محمود السعدي وسكينة الصفدي، يقول مولاي الطاهر « لم يكن يستهويني الغناء فأنا ابن المسرح وقررت أن أظل في المسرح، لأن متعتي فيه لا تضاهيها متعة «. بشكل سريع تم إحداث الفرقة وتمت المناداة من جديد على مولاي الطاهر الذي كان غارقا في ديون لا قبل له بها بسبب الأزمة المالية وندرة المداخيل المالية للمسرح، انخرط مع أصدقائه في التمارين وأخذ على غرارهم يبرز ما في جعبته مما ارتوى به بفضل تراكم تجربته، وسيتضح أن صوته الرخيم لا محيد عنه، فهو الذي يتمتع ب»قرار» دافئ وجميل ليشكل ثنائيا بينه وبين الدرهم من خلال صوته « لكراف « والصوت شبه الحاد للدرهم، وسيتم التحاق عبد الرحمان باكو بالفرقة لتكتمل عناصر مجموعة جيل جيلالة، وهو الاسم الذي يختزن تأويلات مختلفة، منها الإحالة على جيلالة كعنوان لهوية الفرقة المتشبثة بجذورها التراثية المحضة، وعلى مستوى السياق الاجتماعي لتلك الحقبة فهي عنوان لرفض ما يجب أن يرفض من خلال استعمال لفظة « لا « أي جيل « لا لا «. كان الزوغي من الدارسين لتقنيات المسرح والإخراج على مستوى أكاديمي لذلك كان له الفضل في الشهرة الأولى للفرقة لأنه قام بدعاية كبيرة قبل أن تعرض أول عمل لها بمسرح محمد الخامس إلى جانب مشاهير الأغنية العصرية إذاك، لتحصل المفاجأة حيث سيطلب منها الجمهور خلال أدائها الإعادة عدة مرات، وتم استقبالها بحفاوة غير منتظرة بل رفض الجمهور نزولها من الركح، المفاجأة الكبرى هي حين سيلتحق بهم الفنان أحمد البيضاوي في الكواليس ويطلب منهم المبيت في مدينة الرباط لأن الحسن الثاني يريد استقبالهم بالقصر الملكي … سيسافر مولاي الطاهر رفقة جيل جيلالة بالجمهور المغربي إلى عوالم التراث المغربي وسيلعب دورا كبيرا في تحبيبه للشباب، إذ تعد جيلالة هي الفرقة التي انفتحت على معظم تلاوين التراث الوطني ويمكن تشبيه أعمالها ب « الأوبيريت المصغرة «، إذ كانت وكأنها تقدم مشاهد مغناة، وليست بصدد أداء أغنية بالمفهوم القح للأغنية، مشروع جيلالة لم يثن مولاي الطاهر عن مزاولة المسرح، فقد شارك في أعمال مسرحية وتلفزيونية وسينمائية متعددة، فهو ألف المعارك ويدخل اليوم إحداها صحيا.. نتمنى لمولاي الطاهر الأصبهاني دوام الصحة وطول العمر…