عمري تسع وثلاثون سنة، عشت فيها الكثير من التجارب وخضت فيها الكثير من المعارك وسافرت فيها إلى بلاد عديدة وشاركت وحضرت ونظمت أو كنت ضمن طاقم تنظيم محافل كثيرة وطنيا ودوليا. بعد اشتغالي في ميدان الإعلام لسنوات توجهت إلى ميدان يأسرني بل يغويني، ميدان لا أشتغل فيه بل أعيشه بشغف ويجمع بين عشقين أبديين : الوطن و التواصل،لذلك فاختياري لخلق مؤسسة للترويج الوطني ولإبراز قوانا الناعمة لم يكن وليد الصدفة، بل كان توليفة تناسبني لا أرى نفسي في غيرها! توليفة تجمع بين ماهو شخصي ومهني واجتماعي وإنساني، توليفة تشبه ثقافة الايكيگاي اليابانية..حين نستعين بخبرتنا وتجربتنا وشغفنا في مجال اشتغالنا وليصبح هذا الاشتغال أو المهنة رسالتنا في الحياة، وهي رسالتي الآن : خدمة وطني وصورته على كل الواجهات وبكل الوسائل. لقد ترجمت هذا الحب وهذا الشغف في بناء يومي بل جعلته قانون حياة، خارطة طريق مهنيا واجتماعيا...فلا تجربة مهنية أخوضها إلا والوطن في صلبها، بل أجمل تجاربي الشخصية والاجتماعية وأقواها كان الوطن محركا لها.. لماذا أقول هذا الآن؟ لأنني عشت تجربة استثنائية إكسيرها الوطن، إكسيرها القوة الناعمة، إكسيرها ثراتنا اللامادي، إكسيرها الإنسان، إكسيرها المهارات وإكسيرها التمغربيت.. إكسيرها الشغف والعزيمة...إكسيرها البركة ودعاء الصغير قبل الكبير..إكسيرها وحدة الصوت ووحدة التوجه ووحدة الإرادة..إكسيرها رجالات ونساء يحركهم الشغف، حب الوطن النية والعمل! أتحدث هنا بكل تأكيد عن تجربة عشتها بكل جوانبها، بكل حمولتها كما عاشها الملايين ألا وهي كأس العالم بقطر والإنجاز الأسطوري للأسود...لا أعرف كيف أرتب أحاسيسي كي أرتب افكاري لأكتب، لكنني سأترك الفرصة لقلمي كي ينصاع كما يريد، كي يتبع «النية» كي يترك جانبا الإيمان بقواعد السرد والنحو واللغة وينصاع بنية خالصة كعجوز لاتعرف إيمانا غير إيمانها الفطري الذي تحس. سأتحدث اليوم بلغة إيمان العجائز، بلغة بركة المغاربة، بلغة نية الرگراگي، بعفوية سير سير التي نهجها الأسود، والتي لم تترك شيئا يروضها إلا عاطفتها وحبها لوطنها وحبها لأمهاتها، إلا عزيمتها على أن تحقق المستحيل، تمردت الأسود ضد قيود الأحكام المسبقة، ضد نظرية الفشل، ضد الخوف، فمروضها لم يروضها على شيء سوى على أن لا تُروض مرة أخرى وأن تعول على قوة الإنسان وعلى النية وعلى ثقتها بأنها قادرة كل مرة على الزئير أكثر، أن تصبح أكثر قوة عند دعوات و عناق الأمهات عند تحقيقها فرحة أمة بكاملها.. الأسود أعادت تربيتنا من خلال درس واحد : لا وجود للمستحيل مع وجود النية و الإرادة و الإصرار و العمل، لا شيء يعلو على روح الإنسان المقدامة المحبة والصافية، لا شيء يقف أمام الحب : حب الوطن حب النجاح حب الذات وقبل كل هذا حب الأمهات و الرغبة في إسعادهن...الافتخار بهن أمام العالم بجالابيبهن وفرحتهن العفوية بعيدا عن صور زوجات نجوم الانستغرام..كسرت الأسود القيد، تمردت لتروضنا بأجمل الطرق، لتصبح في مدة وجيزة مانحة للسعادة، داعمة للطموح، كاسرة لنذير الشؤم الذي أصررنا على التشبث به، خالقة للطموح وللتطلع للأفضل..الأسود روضت الفراش، وخلقت تأثير الفراش، إنجازات لحظية لم تتعد المائة وعشرين دقيقة على أكثر تقدير، ستترك حتما آثارها على المدى البعيد وعلى أكثر من صعيد..ستدخل التاريخ، ستغير العديد من المسارات، ستبني العديد من العلاقات، ستصحح الكثير من الأخطاء، ستبني صرحا ديبلوماسيا لا يتصدع، ستزيد من صيت المغرب، ستحسن أكثر صورته وصورة شعبه الملتحم الواقف وراء فريقه كالملاك الحارس : يدعو يرنم يضحك يبكي .. يساند يدعم ويواسي.. أثر الفراشة لا يرى كما سبق وقال درويش لكنه يُحس! إحساسنا كلنا بسير سير حتى سرنا إلى قطر تاركين كل شيء وراءنا لأن الأهم أمامنا : الوطن ! وشباب يمثله لا يحتاج إلا دعمنا و ترديدنا «لسير سير» و لا يحتاج منا شيئا إلا : النية! درس ضرب بعرض الحائط كل هذه الماديات التي غرقنا فيها، درس أرجع الأمور لنصابها مغربنا مغرب الأولياء والخير والبركة والنية الصافية والحب والشغف والكرم عاد من جديد.. مغرب تبنيه الأمهات يبنيه فخر الانتماء رغم الاغتراب تبنيه الثوابت : الله، الوطن، الملك مغرب يبنيه كل المغاربة فور إعطاءهم الفرصة..المغرب يبنيه شعب متسامح، منفتح، عفوي، مُحب، شعب يحب الفرح و الفرح يليق به..شعب انفعالي و عاطفي و شغوف...شعب في الآن نفسه «مْهْوّْر» و حكيم..شعب تركيبته خاصة، كيميائه تنسجم مع كل يقدره، شعب يحقق المستحيل فقط اذا «كبرتي بيه» المغرب الآن دخل التاريخ الكروي من أوسع أبوابه، دخله بعد وصوله لنصف نهائي كأس العالم و أي كأس عالم؟ بقطر، وهذه لعمري حكاية وحدها...فكما رفع المغرب رأس الأفارقة والعرب والمسلمين كرويا داخل رقعة الملعب وداخل المدرجات رفعت قطر رأسنا عاليا بتنظيم مبهر وأجواء خيالية، وبرامج ثقافية ورياضية وترفيهية راقية ومتناغمة مع ثقافتنا التي أراد البعض تحجيرها وتسويدها ليكتشفوا أنها أكثر غنى وانفتاحا وتنوعا.. قطر استطاعت ولأول مرة أن تجمع الفخامة والشعبية بدون مركب نقص، الانفتاح والمحافظة على ثقافتنا، الكرة والتنظيم و النظام، الأمن والسلام والترفيه وأجواء الاحتفال، تركيبة غريبة ساحرة سحرية لا تستطيع إلا قطر تقديمها للعالم.. هناك في قطر انبهر القطري والعربي والأجنبي، هناك في قطر الكل شعر أنه في بيته، في بلده...فما بالك نحن المغاربة؟ بعد إنجازات أسودنا وزئيرها الذي رن في كل البيوت...كنا نتجول في شوارع الدوحة وأسواقها في منتجعاتها وجزرها، في مقاهيها ومطاعها والكل يحتفي بنا، كأننا لعبنا المقابلات مع الأسود، أحسسنا بحب غامر، بكرم فائض، بفخر صادق، نساء ورجالا وأطفالا عربا وغيرهم الكل يغني معنا : مبروك علينا هذه البداية مازال مازال ولي مابوجا ماشي مغربي و سير سير..عشنا كالأبطال وكالنجوم الكل يريد صورة مع كل من يرتدي قميص المنتخب أو يحمل راية المغرب، الكل يهتف : رفعتم راسنا يا مغاربة! أي فخر هذا؟ وكيف لشيء غير تلك المستديرة المليئة بالهواء السحري أن تخلق هذا، وأن تجعلنا نعيش هذا، وترفع رأسنا هكذا في بلاد غير بلادنا لكنها تزينت بأعلامه، وغطت واجهتها بعبارات شكر وتشجيع الأسود..وصورهم..حيث أننا لم نحس أننا خارج المغرب فروح المغرب سافرت معنا لتستقر في الدوحة وفي كل من زار الدوحة...وستظل مرابطة له بدون ان يشعر..لأنها ببساطة روح النية، روح الأمهات الكادحات، روح رضى الوالدين وروح أصحاب البركة، وروح التارجليت والتمغريبت، روح النخوة كيفا لا ونحن للعلا عنوان! شكرا يا أسود كلنا فرحون بكم في ملحمة احتفل بها الملك والشعب، إفريقيا والعرب والعالم!