نظمت فرقة مسرح سيدي يحيى الغرب، مؤخرا، حفلا شعريا وثقافيا تمحور حول ديوان «طعنات في ظهر الهواء» للشاعر محمد بلمو بمقهى فندق أمل، حضره ثلة من المهتمين والباحثين. في البداية ركز الناقد يونس حكم قراءته في عنوان الديوان، عارضا براعته التحليلية التي تنم عن قوة ديداكتيكية أكثر ما تنم عن قوة تقليدية، حيث فكك هذا العنوان على المستوى الدلالي طارحا علاقته بنصوص الديوان، مستخلصا ثنائيات الحياة والموت، الحزن والفرح، الخفاء والتجلي… كاستراتيجية للشاعر بلمو في محاكاة الواقع الأصم برؤية إبداعية تتنصل من كل مألوف. هكذا أصبح الشاعر بلمو يحمل معالمه موجها شعره الى هذا العالم المتناقض من أجل إيجاد أرضية صالحة الإنبات لهذا الإنسان الواعي بفكره ونقده وشعريته. بعد ذلك تدخل الدكتور لغزيوي أبو علي شاكرا أعضاء فرقة مسرح سيدي يحيى الغرب ومنوها بالفاعل الجمعوي طارق بورحيم الذي كسر هذا الصمت عن هذه المدينة الصناعية، قبل أن يفتتح مداخلته التي تحمل عنوان «تجربة الشاعر بلمو بين التأصيل والتحديث انطلاقا من ديوانه «طعنات في الهواء»، مؤكدا أن قراءة الديوان ليست سهلة المراس بل تتطلب الدربة والتجربة كنبش في جذور الأدب والفلسفة، لأن الأهمية اللفظية ليست لها قيمة ذاتية، بل هدفها البحث في ما يجعل من هذا الأدب أدبا، فالشاعر بلمو حاول أن يجعل من هذا الشعر موضوعا إشكاليا وخلافيا، لأنه تجاوز بين الذات والجماعة أو الضمير الجمعي والشعور حسب دوركايم، كموجه فني عام في المجتمع، فالتنوع التناصي راكم تجارب كثيرة ومتشابكة يصعب تفكيكها دون استحضار مرجعيات هذا المبدع. لأنه انطلق من الأدب ومن الفلسفة، فهذه الثنائية جعلته يراكم تجربة لتكون طريقا لبناء موقف من الحضارة والحب والمدينة والنص والمكان والموت. فهذه الرؤية جعلته لا يركن الى مشروع قديم بل حاول أن يعيد النظر في هذه الثقافة الشعرية كفعل مركب من الذكريات والرموز والإبدالات، من أجل تشكيل بنية متكاملة بهويتها الإنسانية. فالشعر عنده ثورة وتمرد على القيم التي غلفت المجتمعات الإنسانية حتى أصبحت خارج سيطرة الانسان، لكن هذا الديوان هو تدخل مباشر في إظهار هذه الطعنات بشكل مباشر أو غير مباشر، بحيث لا تكاد تجد على هذا الكوكب طبيعة بهذا المعنى اسمها الانسان، وهذا الموقف جعل من الديوان ورشات مفتوحة قابلة أن تستوعب كل الشرائط الإنسانية كالموت والحزن والأمل. ولكن بلمو بهذه الثنائيات أنتج لنا تقنيات الهروب عن هذا الواقع وخاصة في قصيدته «لا أكتب» أو «عودي أريج كي نرقص»، لأن الطبيعة الشعرية هي أساسا انتماء الى هذا العالم المادي، عالم اصطناعي وتكنلوجي، مقابل عالم الآلهة والأرواح، لأن قصائده أصبحت تتحدث عن حقوق الانسان ونهاية موته، حيث جاءت لتحرر اللغة العادية من اليومي بالانزياح والعدول لتبني لنا نشوة حديثة تحمي طبيعة الانسان وتفكيره الأخلاقي والجمالي، فالشاعر في هذا الديوان يحمل رسالة خارج ما هو سائد لكي يبني وعيا ممكنا حسب كولدمان، فهو يضع لنا ارثا متناسقا من الحواس من أجل تشكيل المجامع والأفراد، فبلمو لم يستسغ هذه الأنماط السائدة بل أراد أن يتناول حداثة الواقع المعطوب، بواسطة خاصية الحواس والفكر كما يقول أدونيس في كتابه «الشعرية العربية» في ص 64-63» إذن فالحقائق الاجتماعية حسب بلمو تكون سابقة عن الأفراد، ولا نستطيع أن نفسرها بل نريد تغييرها. مما يجعل «طعنات في ظهر الهواء» هي صوت من لا صوت له، وحرية من لا حرية له، لذا نقول أن هذه الخاصية القيمية والجمالية الشعرية جعلته شاعرا يحمل رسالته الى الإنسانية، من أجل تحديث هذا المجتمع وتفكيك طلاسيمه، لذاك اتسم ببعدين، بعد تفاضلي وبعد تفصيلي، فالبعد التفاضلي يرتبط ارتباطا وثيقا باختيار الحروف والكلمات والجمل من أجل تأسيس إيقاع تركيبي وتحليلي، ما يحيل على بعض الكتابات مثلما عند محمد النويهي في كتابه «قضية الشعر الحديث» وإسماعيل عز الدين في كتاب «الشعر العربي المعاصر» ونازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر العربي المعاصر»، وغالي شكري في كتاب «شعرنا الحديث» وأخيرا محمد بنيس في كتابه «ظاهرة الشعر الحديث»، فبلمو في هذا العالم الشعري المتنوع حاول أن يمتاح رموزه لكي يبني مملكة الشعرية، سواء على المستوى الايقاعي الداخلي (تكرار، تجانس، ترادف، تضاد…). أما الإيقاع الخارجي فحاول أن يحاكي الشعر الحديث لأنه ارتبط بأبحر مزدوجة وبروي واحد في بعض قصائده. أما على مستوى الصور الشعرية، فإنه حاول جاهدا أن يستحضر الرمز والغرابة كبعد انزياحي لكي يعطي لهذه اللغة وضعا إبداعيا يدرس بها التاريخ بطريقة تجذرية وتعبيرية، فهذه الصور هي محاكمة للتقديم المرتبط باللغة المحافظة وبالنقد المعياري. فبلمو كسر هذه التجارب كما كسرها أدونيس وخليل حاوي والسياب وصلاح عبد الصبور، جاعلا منها أرضية التزامية بقضايا الانسان المرتبط بالزمن وبالعرق وبالفكر، هكذا عمل الشاعر على الابتعاد عن عقلانية العلم الباردة في التعامل مع المعطى الشعري من أجل الإحاطة بالكيان الإنساني كما يقول أدونيس في كتابه «الشعرية العربية» ص 103-107). فالشاعر بنى هذه الأنا الفاهمة في تحديد ماهية الأنا والوعي الضدي في تكريس المكونات المؤسسة للحداثة والمدى الجغرافي التاريخي للحداثة المدنية، لأن الشاعر هو قدر وجد في هذا العالم لكي يؤسس لهذا الوجود وجوديته، ولكي يبني له لغته الإبداعية وليست السوداوية كما عند صلاح عبد الصبور أو عند نتشيه أو عند هيديكر، فالشاعر إذن هو المستنير والمنير، القادر على حمل هذا العالم من أجل إيصال صوته الى الأكوان الأخرى فهذا البرومتيوس الذي أعطى لهذا العالم هذا النير وهذه الأعذار لكي يعيش خارج منطق الحكيم الذاتي من أجل مواجهة التهميش والاستهلاك. ف»طعنات في ظهر الهواء» هي عبارة عن تعددية ثقافية وحرية غير مؤدلجة وكتابة إبداعية تتجاوز الذاتي والموضوعي، لأن الصراع الذي يعيشه الشاعر هو صراع أبدي وليس مؤقتا، فعبر هذه الثنائيات أراد أن يعيد للشعر صوته وعبقريته دون السقوط في الترف ولا اللهو، باعتبار الشعر لغة العالم وسر الوجود، فهو يبقى دائما كلغة ضد الفناء.فمهمة الشاعر بلمو إذن هي مهمة الفيلسوف والناقد الذي ينبغي أن يكسر هذه الأنماط التي تكبل الانسان رغم أنه مقياس كل شيء، فهو الفاعل والمؤثر في المجتمع والباني لكل فعل اجتماعي، لأن شعره ارتبط بطبيعة لغوية تداولية، أراد بها التواصل مع العالم الخارجي لكي يظهر لنا كل الترسبات الماضية والمثالية من أجل ربط الانسان بواقع، ليس بوعي شقي بل بوعي نقدي غير متصالح مع ذاته، هكذا استفاد الشاعر من كل النظريات سواء كانت فلسفية أو لسانية أو سوسيولوجية من أجل إظهار البراعة الإبداعية التي تتأسس على رؤيا إنجازية وتأثيرية. فالبراديكم البلومي هو عبارة عن مقاومة ضد العالم الذي نعيش فيه، عالم مليء بالتناقضات والانكسارات، فراح في هذا الديوان يقربنا من الماضي والحاضر والمستقبل، من أجل أن نكون خير أناس خرجوا الى الدنيا فاعلين وليس مقلدين. الحفل الذي أداره بفنية الفنان طارق بورحيم، تميز بقراءات شعرية لكل من الشاعر الزجال عبد الحق خضرا الذي قرأ القصيدة التي أثارت النقاش وأسالت الكأس فيضا هي قصيدة «أريج» والشاعر الزجال رشيد العلوي الذي ألقى قصيدة أطربت الأذان وحركت الفؤاد وجعلت المستمع يصغي لهديلها كأننا أمام أنين الطبيعة وأمواج اليم. وبعدها فتح النقاش حيث تدخل بعض الحضور منوها بهذا اللقاء الحماسي بعد سنتين ميتتين ثقافيا بسبب كورونا نشرت ظلالها على أجساد الناس وارواحهم.