أدت انتخابات 08 شتنبر 2021 في بلادنا إلى تصدر الحزب الليبرالي، أي حزب التجمع الوطني للأحرار، للمشهد السياسي، وبالتالي اكتساحه وبشكل واسع لجميع المؤسسات المنتخبة، المؤسسة التشريعية والجماعات الترابية والمجالس الإقليمية والجهوية أيضا، وكأن المغاربة صنف واحد من التفكير، ومن الانتماء السياسي والمذهبي، صنف متطابق بشكل كلي ينفي الفروق والاختلافات بين جميع التصورات الحزبية ويبقيها في الأسماء والشعارات فقط. لكن هذا الأمر لم يكن مفاجئا بالنسبة لكثير من المتتبعين السياسيين، وبالنسبة للطبقة الشعبية أيضا، لأنه كان رائجا من قبل، وبشكل واسع داخل السوق السياسية، منذ أكثر من سنة، على أن حزب الحمامة هو الذي سيفوز في الانتخابات المقبلة، وأن السيد عزيز أخنوش هو من سيترأس الحكومة، لدرجة أن الأوساط الشعبية اعتقدت أن هذه الشائعة حقيقة حتمية ينبغي أن تنكشف في الواقع وداخل الزمان المقبل، من هنا كانوا مهيئين للتصويت لصالح هذا الحزب وقبل أن يعلن عن تاريخ الانتخابات وقبل بداية الحملة الانتخابية، لأنهم اعتقدوا أن تلك إرادة الدولة العليا التي لا يجب أن تخالف، خاصة وأن الحزب الذي كان حاكما من قبل، ولمدة طويلة، عشر سنوات كاملة (العدالة والتنمية) أبان عن فشل ذريع في التسيير، وعن تناقض أفعاله مع وعوده وأقواله وعلى جميع المستويات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية أيضا. هكذا ساعد هذا الجو على تحقيق رغبة حزب الحمامة في الوصول إلى الحكم خاصة وأنه انخرط في وقت مبكر، في تهيئ المواطنين والمواطنات بواسطة مختلف الوسائل من إغراءات مادية وغيرها، وخاصة أيضا، أنه حزب يضم عددا من الأعيان وأصحاب الشركات الكبرى الصناعية والتجارية. وبطبيعة الحال فإن هذه البورجوازية الكبيرة، ،خلال مسار تهيئ نفسها للتثبيت في الحكم، لا يمكنها التفكير، من أجل تحقيق التحالفات الحزبية المقبلة والضرورية لتشكيل الحكومة، إلا مع من هم أقرب إلى تصوراتها الليبرالية، ولذلك عملت على خلق ذلك التحالف الثلاثي المعلن عنه بعد ظهور نتائج الانتخابات، والمكون من حزب الأصالة والمعاصرة وحزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار، ذلك أن المنطق الإيديولوجي هو الذي حتمه، فهي كلها أحزاب يمينية ليبرالية في المجمل. فمثلا حزب الأصالة والمعاصرة حزب صنع من طرف الإدارة الرسمية داخل البلاد في بداية الألفية الثالثة سنة 2008. حزب انتقل من جمعية «حركة لكل الديموقراطيين» إلى حزب سياسي، واستطاع بقدرة قادر في انتخابات 2009 أي بعد سنة من التأسيس أن يحقق انتصارا باهرا بحصوله على فريق برلماني بواسطة 80 عضوا من أصل 325، و هي قفزة نوعية تحصل عادة في بلادنا من طرف الأحزاب الإدارية. تكون هذا الحزب من مزيج من الليبراليين واليساريين والأعيان والتكنوقراط ، ولذلك لم تكن له رؤيا واضحة، وإن كان يتشبث بشعار الحداثة والديموقراطية محاولا صياغة تصور مجتمعي يقوم على مفهوم «الديموقراطية الاجتماعية»، ولذلك ظل تصوره الايديولوجي غامضا وغير واضح بسبب إشكالية النشأة، وإن كان أميل إلى التصور الليبرالي. أما حزب التجمع الوطني للأحرار فهو أيضا حزب نشأ بإيعاز من الدولة واستجابة لرغبتها في الحد من امتدادات اليسار داخل المجتمع. ولذلك فهو حزب إداري بامتياز تم صنعه في السبعينيات بقيادة السيد أحمد عصمان الذي عمد إلى تشكيله من عدد مهم من النواب المستقلين الذين شكلوا أغلبية البرلمان المغربي عقب الانتخابات التشريعية لسنة 1977، علما أنه كان قد ترأس الحكومة في السابق سنة 1972، مما يوضح النفوذ السياسي والمعنوي الذي كان يتمتع به هذا الرجل داخل الدولة. أما حزب الاستقلال فهو حزب وطني نشأ تلبية لحاجة شعبية مجتمعية ملحة في أربعينيات القرن العشرين، وهو من مكونات الكتلة الديموقراطية، وهذا ما يميزه عن الحزبين السابقين أي عن كل من التجمع الوطني للأحرار وحزب الأصالة والمعاصرة، إلا أن ما يجمعه معهما هو البعد الليبرالي للاقتصاد. إن هذه الليبرالية هي ما نرفضه نحن كاتحاد اشتراكي للقوات الشعبية، لأننا نؤمن بالاشتراكية كرؤيا ومنهج في تسيير دواليب الدولة والمجتمع، ولذلك فنحن نرفض الليبرالية في جميع أشكالها لأنها تدعو إلى تعزيز ودعم رأسمالية السوق الحرة، والتي تؤدي إلى استغلال العمال وتوسيع فجوة اللامساواة، وتلغي دور الدولة، وتركز على المبادرات الفردية الحرة مما يؤدي إلى تراكم الثروة في أيدي نخبة قليلة من الناس، وتدفع إلى الرمي بالآخرين في غياهب الفقر والحاجة، وبذلك تعمق الفجوات الطبقية وتعمل على سيادة ظواهر الاستغلال والاستيلاب. نعم لقد مللنا من مشاهدة هذه الظواهر البئيسة داخل مجتمعنا خاصة ونحن قد ناضلنا من أجل القضاء عليها لسنوات طوال، وكلما اعتقدنا أننا نسير إلى الأمام إلا وتأتي فترة من الزمن نشعر فيها بالتراجع إلى الخلف بشكل رهيب مما يجعلنا نشعر بالإحباط واليأس. لقد عانينا في السابق، أي في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من قمع الدولة الرهيب والذي ذهب ضحيته عشرات الأبرياء الذين زح بهم في السجون، ورمي بالبعض منهم في الغياب الأبدي دون معرفة مصيرهم لحد الساعة. لكننا استبشرنا خيرا في أواخر التسعينيات بمجيء حكومة التناوب التي فتحت الباب واسعا للممارسة الديموقراطية وحقوق الانسان، وأطلقت الكثير من المشاريع المفيدة لصالح الانسان المغربي، لكن بدأ التراجع الخطير منذ بداية الألفية الثالثة، وتعمق بشكل قوي مع مجيء الإسلاميين إلى أن وصلنا إلى اللحظة الحالية ، لحظة عودة أصحاب الفكر الليبرالي المتوحش، لأن أية ليبرالية لا يمكن أن تكون إلا متوحشة، هؤلئك الذين طعموا حكومتهم بالتكنوقراط الفارغين سياسيا، والذين تم صبغ البعض منهم في آخر لحظات تشكيل الحكومة .مما يوضح الارتجال وعدم الوضوح لدى هؤلئك الذين يقبضون على زمام الأمور في بلادنا .والمشكل أن بلادنا تواجه مجموعة من المشاكلات الجمة والعويصة وعلى جميع الأصعدة. أليس الوصول إلى حكومة بهذا اللون السياسي هو نوع من العبث السياسي واستهتار بطموح المغاربة الذين يتوقون إلى تحقيق مكتسبات أكثر تقدمية وأكثر تطورا لواقعهم المعيشي. إن التغيير الإيجابي هو ما ينتظره المغاربة خاصة بعد الاعتراف بفشل النموذج التنموي ووضع نموذج بديل يحاول تجاوز الهفوات السابقة، والتي أضرت بالحياة اليومية للمواطن المغربي على مستوى التشغيل والصحة والتعليم وغيرها من القطاعات الحيوية . إن الأزمات التي يعيشها المغرب اليوم لا يمكن أن تحل إلا برؤيا تقدمية إنسانية، وهي رؤيا لا يمكن أن تتحقق إلا بواسطة النظرية الاشتراكية الديموقراطية باعتبارها نظرية ذات بعد إنساني عميق يهدف إلى إتاحة الفرص بشكل متكافئ للمواطنين ، وبالتالي التخفيف من الفوارق الاجتماعية التي ولا شك أن النموذج الليبرالي سيزيد من تعميقها . إن الاشتراكية اليوم أصبحت ضرورة حتمية لنصرة الديموقراطية والحداثة وتخليص المجتمع من كل مظاهر التخلف والاستغلال والتبعية . لقد مللنا من تراكم الأزمات الداخلية بكل مظاهرها السياسية وغيرها ، فإذا كان المجتمع قد طوى صفحة الإسلاميين ،(وإن كان من الصعب جدا محو ثقافتهم الرجعية التي عشعشت في صفوف بعض الأتباع) ،فإنه الآن مطالب، وبقوة، بمحاربة كل أوجه الاستغلال الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكل جوهر الفكر الليبرالي . من هنا فمسؤوليتنا اليوم كحزب اشتراكي ديموقراطي هي النضال المستمر من أجل بناء وترسيخ نظام ديموقراطي خال من كل أشكال الاستغلال ومن علاقات التبعية حفاظا على كرامة الإنسان المغربي ، وهي مسؤولية يجب أن نخوضها بكل مسؤولية ووعي من أجل تحقيق مجتمع حداثي ديموقراطي .