رويدا رويدا تتضح الرؤية، ومن وسط ستائر الدخان الكثيف التي رمتها قضية بيغاسوس على العالم، تتضح نواة القضية التي تحرك «ميديا بارت» و«لوموند» وما جاورهما إزاء المغرب. في كل القضايا المنشورة عبر الكرة الأرضية، يتم تبادل الاتهامات بين الدول وبين المنظمات المعنية بتحريك القضية إعلاميا… وفي كل الحالات هناك حديث عن الدول، بشكل عام، كاسم دال على الكيان والجهاز معا (هنغاريا، السعودية،إسرائيل ، المكسيك..). إلا في الاتهام الموجه ضد المغرب، فقد بدأت الأمور بالتعميم المضلل، ثم رويدا رويدا بدأت النوايا تكشف عن نفسها والاتجاهات المرادة لسهام التسديد تتحدد بدقة.. وهو ما سمته الأطراف الضالعة بال «دولة البوليسية الشاملة»، في تكييف فرنسي، لمعضلة قيل إنها تشمل عشرات الدول! أول شيء لا بد من قوله في هذا الصدد هو أن ما تكتبه الصحف الملتحقة حديثا ببؤرة التشكيك، هو في الواقع، تحيين لما سبق أن نشرته الصحف الأولى، صحف لوموند و لومانيتي.. إذا أخذنا مثلا مقال «ميديا بارت» الطويل، المنشور في عدد الخميس، حول الانزلاق المغربي، ممثلا في شخص عبد اللطيف الحموشي، نجد أنه رجع الصدى لما كتبته «لوموند» على هامش قضية المعطي منجب، والذي ختمته بكون المغرب انزلق إلى دولة بوليسية!(انظر مقالنا في الموضوع حينها). فبعض الإعلام الفرنسي، ولاسيما منه منصات كانت سباقة إلى تأليب الرأي العام والممثليات الديبلوماسية ضد المغرب، قد وضع مدير الديستي والأمن الوطني عبد اللطيف الحموشي في منصة التسديد. وذهب موقع «ميديا بارت»، الذي أنشأه ايدوي بلينيل، الذي هو نفسه مدير سابق في «لوموند،» إلى أن وصف الحموشي بأنه مهندس الانزلاق المغربي. وفلول اليسار الفرنسي الضائع بين هيئات التحرير، سعت في بداية الأمر إلى تقديم هجومها وكأنه دفاع مستميت عن الحرية والديموقراطية في المغرب، ولو مست .. مواطنا واحدا.! كدنا نصدق فعلا بأن المواطن المغربي يساوي، عند هؤلاء، وزنه.. أزمات ديبلوماسية. وكدنا نصدق أيضا بأن فرنسا الغاضبة، التي لا تحب المغرب، تحب أبناءه، إلى درجة أنها تجعل من ضحية واحدة من المغاربة جان دارك جديدة! وتصرخ فينا: لقد أحرقتم قديسة على عتبات الأمن الداخلي! لنعلق بابتسامة ساخرة ونبدأ القصة من بدايتها. لقد كان الأمن الداخلي للمغرب عرضة لهجوم منسق، منذ مدة، وكانت عناصر الإقناع فيه، هو الحديث عن دولة بوليسية مغربية لا يراها كل المغاربة، ويراها أصحاب لوموند وميديا بارت، وهلم صحافة تابعة، كل دليلها محاكمة أو محاكمتين . انتهى هذا الفصل (الأول) بدون أن تحقق النبوءة مشاهدات كثيرة في الفايس بوك أو تجد من يصدق هذه الأحجية، ثم جاء بيغاسوس، وما أصبح يعرف بقضية البرمجيات التجسسية التي عمت الآفاق. في البداية كانت التهم توجه إلى المغرب بدون ذكر أجهرته، كما سارت على ذلك منابر ال «فوربيدن»، في بداية العملية. وبين الضياع الأول والتيه الذي يليه، قيل لنا بأن الأجهزة تتنصت على بعضها، وأن هناك حرب بيغاسوس والغبراء مغربية داخلية. وأن حرب البسوس التي دارت بين قبيلة تغلب بن وائل وأحلافها ضد بني شيبان وأحلافها من قبيلة بكر بن وائل بعد قتل جساس بن مرة الشيباني البكري لكليب بن ربيعة التغلبي ثأرا لخالته البسوس بنت منقذ، قد عادت من جديد بين هذا الجهاز وذاك! وتعالى الدخان، عندما قرأنا أن عبد اللطيف الحموشي هو نفسه كان ضحية تنصت من طرف نظام بيغاسوس التجسسي، للزيادة من صدقية هذه الحرب القبلية الجديدة بين الأمن الوطني وأجهزته! ها هو الجلاد يصير ضحية .. ثم سرعان ما انتقل الهجوم على الأجهزة الأمنية بدون تحديد أيها متهم.. وبعد ذلك وقع الاختيار نهائيا على الحموشي، بالاسم والأوصاف، بما فيها درجة إيمانه، والتزامه بعقيدته الدينية! وها هي الضحية تصير جلادا! وفي تحولات قضية بيغاسوس، من حرب تجسس على الحريات، والمعتقدات لدى الأفراد/ المغاربة أساسا، إلى قضية تجسس بين الدول، صار اسم الحموشي رديفا لتجسس دولة بوليسية في المغرب، تتحدى الدولة ذاتها! ومن اتهام لا شخصي هلامي للمغرب كدولة، إلى تحديد الهدف في شخص المدير العام للأمن الوطني والديستي، عبد اللطيف الحموشي. فهو الذي تنصت على المعارضين، في التمارين الأولى للتشهير به! وهو الذي يتنصت على كبار رجال الدولة في الجزائر وفي فرنسا.. وهو الذي يريد أن يتنصت على رجال الدولة ورئيس الدولة في المغرب . في الواقع، وبالرغم مما يكتسيه التوهيم باستهداف رئيس دولة حليفة من خطورة، فلا يغريني الحديث عن هاتف ماكرون (الذي تساهل في استعمال السمارتفون، وهو يعلم بأنه لا أحد في المخابرات ولا في رؤساء الدول يفعل ذلك) كما لا أجد أي غضاضة أخلاقية في التجسس على رئيس أركان جيش كل همه هو أن يجد الفرصة لقتل إخواني وخاض حروبا كثيرة للعمل على تقسيم بلادي! فقط أسأل لماذا هذا الاختيار الخاص بالتنصت على هاتف ملك البلاد؟؟ أجازف بالقول إن هناك ثلاثة اعتبارات أساسية: فعندما يقول المغرب – الوطن إن الأمر يتعلق بزعزعة استقرار، فهو أكثر من يدرك عناصر قوته. 1 / ومنها أولا، الملكية، ويريد التلفيق السيبرنيتيقي أن يظهر وكأن الملكية ضعيفة، ولماذا لا رهينة البوليس السياسي ! وذلك ما تم الترويج له من قبل بيغاسوس نفسها! ملكية ضعيفة محاطة بالمشتبه بهم والبصاصين الذين يعملون لجهات ما، أولمخططات ما.بحيث أن الأجهزة التي تعمل تحت مظلتها ..تراقبها. أو بالأحرى أن الدولة البوليسية أكبر من الدولة الملكية! 2/ استهداف في العلاقة بين الملكية والأمن، وزرع الفتنة، والوسيلة المستعملة في التشكيك، في قوة الارتباط بين جهاز الديستي والملكية، والتشكيك في وفاء الحموشي ،مديرها، للملك والملكية. وما أثارني شخصيا منذ بداية القصة هوما كتبه أحد اليساريين الراديكاليين الحاضرين جدا في الإعلام، وهو يتابع تعليقات ما سماه نخبة الاتحاد عندما تساءل، مستنكرا: لماذا يدافعون عن الحموشي وينسون أن الملك واقع تحت التنصت؟كاشفا بذلك عمق ما يراد من هذه الحملة، بأن الحموشي صار أهم من ملك البلاد! فالسيد آمن فجأة، بما لم يؤمن به طوال حياته، بأن يكون قلب النظام الاستبدادي كما يسميه، قادرا على أن يفرز من بين صفوفه من يتعالى عليه! وصدق بالفعل أنه يمكن للحموشي أن يتنصت على الملك، عوض أن ينصت إليه وإلى تعليماته! ويريد أيضا أن يوهم بأن الزمن الأوفقيري قابل للعودة من جديد، تحت لبوسات بيغاسوسية جديدة، وهذا من أخطر ما يمكن ان يُروَّج له. ويريد هذا الإخراج الهتشكوكي لقضية غامضة أن يقدم لنا بأن البوليس المغربي، قد أصبح، بقدرة سحرية، مثل الإف .بي.آي fbi في عهد ادغار هوفر، المؤسس الرهيب لمكتب التحقيقات الفدرالية. والواضح أن هناك في فرنسا المخابرات من لم يغفر للحموشي أن أعاد بناء العقيدة الأمنية المغربية بعيدا عن الحليف التقليدي! ولم يغفر له لماذا استلهم نموذج «الاف بي اي» ، لتأسيس ال «بسيج» وعدم الامتثال للتاريخ في الشراكة الأمنية بين التلميذ والأستاذ، الموروثة عن فترات الحماية والفترات الأولى للاستقلال. هذا المنحى البذيء، يتعزز بالتركيز على الجانب الإيماني لدى الرجل، وكما لو أنه الوحيد المسلم في بلاد إمارة المؤمنين! تماما كما كان ادغار هوفر مسيحيا متعنتا، ومهووسا بمراقبة أخلاق الجميع بمن فيهم جون كينيدي رئيس الدولة ومن قبله ومن بعده.. 3/ الهدف الثالث من وراء التمثيل باسم الحموشي، هو زعزعة الثقة بين مكونات الجهاز الأمني المغربي برمته، بين من يعمل في الداخل ومن يعمل في الخارج: إذا كانت أجهزتنا توزع العمل بينها، ألا يكون من المستغرب اتهام جهاز داخلي بالقيام بعمل جهاز خارجي، ووضع اسم مديره ياسين المنصوري، الرجل الآخر في هدف التسديد تحت قائمة المستهدفين، نوعا من دقِّ الإسْفين بينهما. أي حرمان المغرب من ذراعه في التجسس المضاد، وفي الأمن الداخلي وتعمد إظهار العمود الفقري للنظام في حالة هشاشة أمام أجهزته الأمنية... وفي صلب هذه المعادلة الشريرة، إظهار أن قوة النظام الأمني المغربي أكبر من قوة النظام نفسه وليس جزءا منها . الواضح أن صحيفة «لوبوان» كانت قد لخصت الهدف العام بلغة صحافية لا مواربة فيها. أطلقت عملية «الجميع إلا الحموشي».. كهدف أسمى من وراء الجعجعة، كما لو أنها تضع الحد الأدنى في تفاوض ما مفترض غدا، بين المغرب وفرنسا مثلا! أعتقد بأن المغرب يجب أن يقول أيضا: «إلا الحموشي..!»، لأن اللعبة مكشوفة. ولأن أسبوعا واحدا كان كافيا لنعرف بأن الأمر يتجاوز حرية هذا الصحفي أو ذاك ، ومصير هذه القيمة أو تلك من قيم الحريات، فهذا جدول أعمال نضالي داخلي يهمنا، بل اتضح أن الأمر فيه قضايا صراع استراتيجي واقتصادي وأمني، ليس المجال مجال التدقيق فيه. ثانيا، لا نعتقد بأن الأسباب التي ذكرناها، في مجال تحصين مصادر المعلومات، وقوة المبادرات الاقتصادية واستقلال القرار الأمني والمالي، وكل ما صرنا نعرفه في معادلات ميزان القوة بيننا وبين خصومنا وحلفائنا، كافية لتفسير هذه الهجمة، ففي تقديرنا أن الهجمة تعنى كذلك التأثير على مجريات الأحداث مستقبلا، ويريد أصحابها أن تخلق ظروفا أخرى للتأثير على المستقبل. وهنا نحتاج إلى المعلومة، نحتاج إلى التجسس والتخابر والتجسس المضاد والتخابر المضاد..كدائما!