لا نريد تأكيد القول بأن الغش في الامتحانات الإشهادية والمهنية أضحى « ظاهرة « بالمفهوم السوسيولوجي أو النفسي لدى علماء الاجتماع وعلم النفس التربوي، أو أنه» حالة مرضية عابرة «قد تحتفي باختفاء أعراض وباء يجتاح المجتمعات المدرسية والإدارية، أوأنه « نزوة طيش « اقتفى أثرها والتشبه ببعض حالاتها مواقف « العنترية / المراهقية « لإثبات فحولة مجموعة جيل من الشباب أمام المد السلبي لظواهر اجتماعية تنخر الحياة المدرسية خاصة ؛ ودواليب العمل الإداري لدى بعض ذوي « العاهات الاجتماعية « من « المسؤولين « في قطاعات مختلفة . كما أنه من الصعب الجزم بقبول نتائج انتشار هذه « الظاهرة « في العديد من مناحي الحياة لتحديد المسببات والدواعي، للتأكيد بأن سبب العلة من هذه الحالة، أو تلك، يوصل بكيفية تحكمية إلى النتيجة الحتمية لهذه المخرجات أو الأخرى ؛ لأن الظواهر الإنسانية ظواهر متنوعة تصعب «قولبة «وصهر مسارها في بوتقة موحدة، مهما حاول العلم بما فيه التجريبي سك حتميات نتائجها . ويتم الاكتفاء في هذا الموضوع بقراءة لهذه « الظاهرة « بالحديث عن الامتحانات المهنية والإشهادية، وعمليات التقويم من بين « الظواهر» السلبية التي تحيد عن الأبعاد التربوية للإصلاح، وتفقد نتائجه بعضا من مصداقيتها . لقد همت عملية إصلاح المنظومة التربوية جملة من العمليات التي استهدفت البرامج والمناهج والكتب المدرسية، والهندسة البيداغوجية للنظام التعليمي، وتطوير أساليب التدريس والتقويم، فضلا عن التغييرات التي همت جوانب التدبير الإداري والبشري. ومع ذلك ظل الحديث مرتفعا، بل صاخبا في أحيان كثيرة، حول ضرورة محاربة ظاهرة الغش في الامتحانات؛ سواء ما تعلق منها بالامتحانات الإشهادية أو المهنية، والدعوة إلى العمل على تخليق الحياة التربوية، التي لا تقبل بالاكتفاء بالتنديد بهذه الممارسات واستنكارها بل بضرورة مواجهتها بكل ما يقتضيه الأمر من حزم لإرساء ثقافة الإصلاح التي نرومها . فهل يمكن حصر أسباب هذه الظاهرة في : كيفية بناء المناهج والبرامج الدراسية وإعداد الكتب المدرسية ؛ طرائق التدريس وأساليب التقويم والمراقبة المستمرة ؛ غياب ثقافة أخلاقية تسعى إلى إقرار قيم النزاهة والاستقامة لدى بعض الممتحِنين والحراس ؛ غياب الوعي والإحساس بالمسؤولية في البناء الأساس لجيل اليوم والغد ؛ غياب الحس المواطني لدى الممتحَنين، ولدى الآباء والمسؤولين عن إرساء ثقافة الإصلاح، وثقافة الحق الديموقراطي في التعلم وتكافؤ فرص النجاح ؟ إن الإرادة الثابتة للإصلاح ينبغي أن تترجَم إلى سلوكات تستهدف تغيير كل أساليب الغش في مختلف القطاعات عامة، والمجال التربوي خاصة، قوام ذلك إشاعة ثقافة جديدة متمسكة بالقيم والمبادئ الأخلاقية لبلورة قيم الإصلاح وثقافته . وهو أمر يشترك في تحمله كل المعنيين بالشأن التربوي، من أساتذة وإداريين ومجالس المؤسسة وجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلميذات والتلاميذ، وكل الفاعلين التربويين والشركاء الاجتماعيين لمناهضة هذا الضرب من الفساد، ووضع أسس ناجعة وعادلة لخدمة المجتمع ونمائه؛ عبر مختلف قنوات التواصل، بما فيها وسائل الإعلام ؛ للتوعية بأخلاقيات المواطنة الحقة، وبقيم النزاهة والاستقامة، نظرا للدور الحيوي الذي تلعبه التربية والتكوين في بناء مجتمع تسوده قيم النزاهة والمواطنة، باعتبار دور المدرسة الأساس كونها مؤسسة للتنشئة الاجتماعية والتكوين، وتلك هي القيم التي أكد عليها ميثاق حسن التدبير لترجمة الإدارة إلى فعل يومي يمارس في مناهضة كل أشكال الانحراف عن مسار وأهداف التربية والتكوين . لقد نص الظهير الشريف رقم 126 . 16 . 1 الصادر في 25 غشت 2016 بتنفيذ القانون رقم 13 . 02 المتعلق بزجر الغش في الامتحانات المدرسية ( الجريدة الرسمية عدد 6501 بتاريخ 19 شتنبر 2016 ص 6642 )؛ بعد موافقة مجلس النواب ومجلس المستشارين عليه . وحدد الباب الأول: التعريف ومجال التطبيق في المادة الأولى : « يراد بالغش في مدلول هذا القانون ممارسة المترشحة أو المترشح أو غيرهما أي شكل من أشكال التحايل والخداع في الامتحانات المدرسية المتوجة بالحصول على إحدى الشهادات والدبلومات الوطنية . وتعتبر من بين حالات الغش في مفهوم هذا القانون، الأفعال التالية : 1 . تبادل المعلومات كتابيا أو شفويا بين المترشحات والمترشحين داخل فضاء الامتحان ؛ 2 . حيازة أو استعمال المترشحة أو المترشح لآلات أو وسائل إلكترونية كيفما كان شكلها أو نوعها أو وثائق أو مخطوطات غير مرخص بها داخل فضاء الامتحان ؛ 3 . حالات الغش المستندة إلى قرائن والتي يتم رصدها من طرف المصححين أثناء عملية تقييم إنجازات المترشحات والمترشحين ؛ 4 . الإدلاء بوثائق مزورة واستعمالها قصد المشاركة في الامتحانات ؛ 5 . انتحال صفة مترشحة أو مترشح لاجتياز الامتحان ؛ 6 . تسريب مواضيع الامتحان من طرف كل مسؤول أو متدخل أو مشارك في تحرير أو نقل أو حماية أوراق ومواضيع الامتحانات المدرسية ؛ 7 . المساهمة من طرف غير المترشحات والمترشحين في الإجابة عن أسئلة الامتحان سواء من داخل مركز الامتحان أو من خارجه وتسهيل تداولها ؛ 8 . الاتجار في مواضيع الامتحان والأجوبة من خلال استعمال وسائل تقليدية أو إلكترونية وتسهيل تداولها بصفة فردية أو في إطار شبكات . المادة 2 تسرى أحكام هذا القانون، على حالات الغش المرتكبة داخل الفضاءات التالية : – مؤسسات التعليم والتكوين العمومي التابعة للسلطة الحكومية المكلفة بالتربية الوطنية أو مؤسسات التعليم المدرسي الخصوصي الخاضعة لمراقبة الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين ؛ – مؤسسات التكوين المهني العمومي ومؤسسات التكوين المهني الخصوصي المعتمدة والخاضعة شهاداتها ودبلوماتها للمعادلة مع الشهادات والدبلومات الوطنية ؛ – المقرات الإدارية التي تحفظ فيها مواضيع الامتحان من مرحلة الإعداد إلى مرحلة توزيعها على المترشحات والمترشحين . كما تسري هذه المقتضيات على الوسائل المستعملة لنقل مواضيع الامتحان من المقرات الإدارية السالفة الذكر إلى فضاء اجتيازالامتحانات . « وأورد الباب الثاني : التأديب في المادة 3 ما يلي : « تسحب ورقة الامتحان من كل مترشحة أو مترشح ضبط وهو في حالة غش أثناء اجتياز الامتحان ، ويحرر محضر بذلك ، وفق النموذج المحدد بنص تنظيمي . كما تطبق في حق كل مسؤول أو متدخل أو مشارك في تحرير أو نقل أو حماية أوراق ومواضيع الامتحانات المدرسية في حالة ثبوت تسريبها أو محاولة تسريبها التوقف الاحترازي عن العمل فورا بقرار للسلطة الحكومية المختصة، ويحرر المسؤول الوطني أو الجهوي أو الإقليمي أو المحلي محضرا في الموضوع يحال فورا على النيابة العامة . « ولقد سبق أن أشار المنشور رقم 8 و ع الصادر بتاريخ 28 فبراير 2001 عن وزارة الوظيفة العمومية والإصلاح الإداري والمتعلق بتدبير المباريات والامتحانات المهنية إلى أن « منظومة المباريات والامتحانات المهنية « تعتبر « بحق مجالا يتعين التفكير في إخضاعه للإصلاح المستمر على ضوء مبادئ حسن التدبير « . لكن الأمر لا يتعلق البتة بوضع النصوص القانونية والتشريعية لزجر الغش بقدر ما يتعلق بترسيخ ثقافة المقاومة لمواجهة المد المتنوع والمتجدد لأصناف وضروب الغش بشكل يصعب معه تعداد أنماطه وأساليبه التقنية والفنية، والتي غالبا ما تصاحبها أفعال تكتسي طابع العنف تبلغ بأصحابها إلى حد الجرأة والمطالبة « بحق لهم « في النقل والغش ومواجهة الحراس وإيذائهم إذا لم يتغاضوا عن مفاسدهم بالتهديد والوعيد . عند تتبع مسار هذه النصوص التشريعية المعتمدة في « ظاهرة الغش « يتبين أنها ليست وليدة اليوم ؛ بل هي ممتدة في الأزمان والأحوال منذ صدور الظهير الشريف رقم 060 . 58 . 1 الصادر في فاتح غشت 1958 بشأن موضوع زجر الخداع في الامتحانات والمباريات العمومية؛ الذي أكد في فصله الأول أنه « تعتبر بمثابة جنحة كل من يرتكب من الخداع في الامتحانات والمباريات العمومية لولوج المترشحين إحدى الإجازات التي تسلمها الدولة … «. وأشار في فصله الثاني إلى أن « كل من ارتكب جنحة من هذا النوع ولاسيما إذا سلم للغير نص الامتحان أو موضوعه قبل إجراء الامتحان، أو أطلع عن قصد عليها أي شخص يهمه الأمر، واستعمل أوراقا مزورة كإجازات ( الدبلوم )، أو شهادات، أو نسخ موجزة من رسوم الازدياد، أو غيرها، أو عوض المترشح الحقيقي بغيره، يعاقب بسجن تتراوح مدته بين شهر وثلاث سنوات، وبغرامة يتراوح قدرها بين 12.000 و 1.200.000 فرنك، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط . كما أكد في الفصل الثالث أنه « لا تحول الدعوى العمومية دون إجراء التأديب الإداري كما نص عليه القانون « . وأشار المرسوم رقم 67 . 401 بتاريخ 22 يونيو 1967 بسن نظام عام للمباريات والامتحانات الخاصة بولوج أسلاك ودرجات ومناصب الإدارة العمومية في الباب الخامس: عمليات لجن الحراسة، الفصل 15، إلى أنه « يجب أن لا تحمل أوراق الامتحان اسما أو إمضاء أو أية علامة تساعد وحدها على التعريف بصاحبها … « وفي الفصل 16 أشار المرسوم أعلاه كذلك إلى أنه : « يقصى حتما كل مترشح ثبت عليه غش كيفما كان نوعه، ويمكن أن يقصى علاوة على ذلك من كل مباراة أو امتحان مقبل بصرف النظر عن العقوبات المنصوص عليها في التشريع المعمول به وعند الاقتضاء العقوبات التأديبية « . إن الحديث هنا يعني صنفين من الامتحانات التي تجرى أطوارها بالمؤسسات التعليمية، وهي : الامتحانات المهنية: التي ينظمها المرسوم رقم 854 . 02 . 2 الصادر بتاريخ 10 فبراير 2003 بشأن النظام الأساسي الخاص بموظفي وزارة التربية الوطنية، والأنظمة الأساسية الخاصة بأطر الأكاديميات الجهوية المصادق عليها من قبل المجالس الإدارية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين خلال سنة 2019 ( المواد من 10 إلى 17 ) باعتبار المرسوم والأنظمة الإطار المرجعي القانوني المؤطر للترقية عن طريق الامتحانات، والقرارات الصادرة عن وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي حول كيفية تنظيم الامتحانات المهنية طبقا لمقتضيات المادة 116 من المرسوم أعلاه، والمواد المشار إليها في الأنظمة الأساسية الخاصة بأطر الأكاديميات الجهوية . الامتحانات الإشهادية والمنظمة بقرارات وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي : الظهير الشريف رقم 113 . 19 . 1 الصادر بتاريخ 09 غشت 2019 بتنفيذ القانون الإطار رقم 17 . 51 المتعلق بمنظومة التربية والتكوين والبحث العلمي ؛ قرار وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي الصادر رقم 06 . 2383 بتاريخ 16 أكتوبر 2006 في شأن تنظيم امتحانات نيل شهادة الدروس الابتدائية ؛ قرار وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي الصادر رقم 06 . 2384 بتاريخ 16 أكتوبر 2006 في شأن تنظيم امتحانات نيل شهادة السلك الإعدادي كما وقع تعديله وتتميمه ؛ قرار وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي الصادر رقم 19 . 162 بتاريخ 28 يناير 2019 بتغيير وتتميم قرار وزير التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي رقم 06 . 2385 بتاريخ 16 أكتوبر 2006 في شأن تنظيم امتحانات نيل شهادة البكالوريا . ورغم صدور مذكرات وزارية حول محاربة ظاهرة الغش في الامتحانات منها : المذكرة رقم 116 بتاريخ 16 غشت 1989 حول موضوع محاربة الغش، والمذكرة التحيينية رقم 02 بتاريخ 07 يناير 1992، والمذكرة التحيينية الثانية رقم 197 بتاريخ 28 دجنبر 1992؛ والمذكرة الوزارية رقم 99 / 3 بتاريخ 8 مارس 1999 حول موضوع « الغش « ؛ والمذكرة رقم 01 بتاريخ 03 يناير 2000 حول موضوع « استعمال الهاتف النقال في المؤسسات التعليمية «، وما تلاها من قرارات ومذكرات حول الموضوع، فإن « ظاهرة الغش « لم تزدد إلا استفحالا. والأمر في اعتقادي لا يرتبط فقط بالخداع في الغش في الامتحانات والمباريات المهنية المشار إليها سلفا، بل يتجاوزه إلى فروض المراقبة المستمرة التي اتخذت أبعادا أخرى من الغش والخداع والتدليس . إن الإجراءات الزجرية والتأديبية في حق من ثبت تورطه في عمليات الغش والخداع تبقى ناقصة جدا أمام استفحال « الظاهرة « بين الممتحنين في الامتحانات الإشهادية والمهنية، وكذا في الامتحانات التربوية الموحدة أو المحلية، وللحفاظ على مصداقية الامتحانات لا يكفي ما يتم اتخاذه في حق القليلين الذين يتم ضبطهم، فهناك الكثير من الغشاشين الذين يفلتون من الضبط ؛ إما بتقنياتهم وفنية غشهم العالية، أو بتواطؤ صامت أو صريح من قبل بعض الحراس؛ تحت طائلة عدم المبالاة أو بفعل الخوف من التهديد والوعيد؛ بل يقتضي أن يتم بالإضافة إلى التحسيس بين صفوف كل الممتحنين بمصادرة هذا « الحق « – كما يعتقد البعض ( لأنه حق أريد به الباطل ) – بالمواجهة ؛ سواء من قبل التلاميذ والممتحنين أنفسهم داخل قاعات الدرس والامتحان ، أو من قبل الحراس، مهما كان الثمن غاليا، لأن كرامة ونبل وشرف مهنة التدريس لا يمكن أن تدنسها شرذمة من المشاغبين الغشاشين . فالتربية والتكوين مهمة نبيلة يبذل فيها نساء ورجال التعليم ذوي الضمائر الحية قصارى جهودهم لإقرار قيم الأخلاق والنزاهة والاستقامة وتكريس مبادئ تكافؤ فرص التعليم والنجاح بين الجميع على السواء . إنها مهمة المدرسة المغربية التي تستدعي منا اليقظة والحذر من كل أشكال الانزلاقات التي تنخر كياننا . إنها مهمة كل المعنيين بالشأن التربوي ببلدنا من إدارة تربوية وأساتذة ومفتشين وجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلميذات والتلاميذ والشركاء الاجتماعيين وفعاليات المجتمع المدني، لمناهضة بغي الغش والخداع في نواة المجتمع / أي المدرسة، وفي كل الأماكن التي يسمح فيها البعض بممارسة أشكال الإعداد للغش خارج أسوار المؤسسة . إنها باختصار شديد مهمة الجميع لتجاوز عاهة الغش ونزيفه. فمتى نوقف هذا النزيف ؟ * باحث تربوي