بواسطة برلمانية.. وهبي يلتقي جمعية هيئات المحامين بالمغرب غدا السبت    أمن الدار البيضاء يوقف 7 أشخاص يشتبه تورطهم في الإيذاء العمدي وحادثة سير متعمدة    فعاليات الملتقى الجهوي الثالث للتحسيس بمرض الهيموفيليا المنعقد بتطوان    منظمات أمازيغية تراسل رئيس الجمهورية الفرنسية حول استثناء تعليم اللغة الأمازيغية    قيود الاتحاد الأوروبي على تحويلات الأموال.. هل تُعرقل تحويلات المغاربة في الخارج؟    أكديطال تتجه لتشييد مصحة حديثة بالحسيمة لتقريب الرعاية الصحية    مدافع الوداد جمال حركاس: تمثيل "أسود الأطلس" حلم تحقق        الوسيط يعلن نجاح الوساطة في حل أزمة طلبة الطب والصيدلة    توقعات أحوال الطقس ليوم السبت    سانت لوسيا تشيد بالمبادرات الملكية بشأن الساحل والمحيط الأطلسي    هكذا علق زياش على اشتباكات أمستردام عقب مباراة أياكس ومكابي تل أبيب    حجوي: 2024 عرفت المصادقة على 216 نصا قانونيا    ابنة أردوغان: تمنيت أن أكون مغربية لأشارك من أسود الأطلس الدفاع عن فلسطين    مواطنون يشتكون من "نقطة سوداء" أمام كلية العلوم بطنجة دون استجابة من السلطات    افتتاح الدورة 25 لمهرجان الأرز العالمي للفيلم القصير بإفران    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة        متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد بودويك ومتاهات الدلالة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 09 - 04 - 2021


إِضَاءَةٌ أَوَّلِيَةٌ
ليس من اليسير مناولة تجربة الشاعر محمد بودويك الشعرية بالمألوف النقدي القائم، فالأمر يتطلّب الحفْر في الطبقات المحْجوبة، والغائرة في ثنايا أكوان شعرية متخيَّلة تعجّ بالمفارقات واللّعب/ النّسْج الذي يُمثّل طريقةً لتطويع اللّغة خِدمةً للدّلالة، وآليةً من آليات الكتابة الشّعرية لديه، لذا نلحظ في جلّ ما أبدَع هذه الخصّيصة اللّعبية الّتي تُوسّع المعنى، وتمنح للخطاب الشعري طاقة تّحويلية.
والمتتبّع للتّجربة يكتشف إبداعيتها وأصالة تيماتها وعمْقها الرؤياويّ، ولا عجب في ذلك فالشّاعر خبِرَ القصيدة ومسالكها، فسكَنها وسكنَته منْذ مايقارب خمسة عقود من حياة مساره الشّعري، قارئاً مُخلصاً و مُبْدِعاً مُفْلِقاً ، وناقدا مُضيئاً متاهات القصيدة؛ وكاشفاً عن جمالياتها. كلّ هذا الزّخم القرائي و المعرفي والإبداعي يعطي لهذه التجربة الشعرية أهميتها وجدارتها في الشّعرية المغربية المعاصرة.
وما يُلفتُ الانتباه أيضا، في هذه التجربة، كونها بعيدة كلّ المسافة عن الاحتذاء والاقتفاء، فهي تسلُك في الكتابة الشّعريةطُرُقاً مُختلفة لا تخضع لمنطق البناء المألوف، ذلك أنّ « شرعية انحراف لغة الشعر عن لغة الكلام العادي وعن لغة النثر، هي التي تحدّد في المجال الدلالي شعرية القصيدة، وتمنحها بعدها المتميّز ونكهتها الخاصّة» (1)، وهذا ما جعل تجربته عصيّة على المقاربة النقدية ذات الإواليات المعطوبة قرائيا وتصوّراً، لأنها تتخلّق من رؤيا تنظر إلى اللّغة كأداة لتعطيل الواقع بغاية صياغته بلغة الخيال و أصالة المتخيّل؛ كمقوم من مقومات شعريته، بعبارة أخرى إن اللغة عنده ترتضي الإقامة في غريب اللّفظ البعيد المأخذ؛ وتذويبه وصهْره بقصْد تأدية وظيفته الدلالية بسلاسة وفي سبْكٍ جماليٍّ قلّ مثيلُه، وهذا الأمر لا يُمتلَك إلا بعْد مراودة ومكابدة، و وعي عميق بجراحات اللّغة وامتداداتها، وآفاقها المفتوحة على الإبداع الخلّاق.
وبالتّالي فهي تجربة مُمتدة في الذّاكرة الشّعرية المغربية بحضورها المستمرّ إبداعا وتشكّلا وممارسة نقدية، عبْر أعمال شعرية، تحمل فرادتها من عناوينها المثيرة للحيرة، والمستفزّة للذائقة الشعرية القائمة؛ نظرا لجوانبها ذات السّمة الانزياحية وأبعادها الدّلالية، فهي عناوين تؤسس لشعرية جديدة تخالف المعتاد وتنتصر للمغايرة، ولعلّ المتأمل في المنجز الشّعري للشاعر انطلاقا من «جراح دلمون» عُبوراً ب»يتبعني صفير القصب» ثم «قرابين» و»مركبة السنجاب» وقوفاً عند « امرأة لا تحصى» ، يُدرك حرص الشّاعر على الاشتغال والانشغال بأسئلة الشّعر ورهاناته وأفقه الحداثي؛ مما يشْرع أمامنا باب القوْل إن الشاعر يصوغ الذّات والعالَم وفق رؤيا تنسج عوالمها الشّعرية ببلاغة الانزياح الّتي تبئّر اللّغة، وتشْحنها بِظلال دلالية تُواري جماليات الدّلالة، الأمر الّذي يتطلّب قارئاً ناقداً يسْتغْور تلك الأراضي لكشْف أسرارها الإبداعية وإضاءة مغالقها. كما أنّها تجربة تنتمي إلى خطاب الحداثة الشعرية الموسوم بالتّحويل والاسترفاد من الينابيع المعرفية والأنهار الشعرية المجدّدة والمتجدّدة، وبالتالي ف»لا غرو أن خطاب الحداثة الشعرية هو خطاب متعدّد يتّسم بالانفتاح والتجدّد، بل إن تباين الرؤى والمواقف حسب السياقات التاريخية والخلفيات السياسية هو الملمح الصارخ للتعدّد داخل الوحدة. ومن هنا، فإن قياس حجم التجديد، ودرجات الوعي الشعري الحداثي، يجب أن تميّز المقدمات التمهيدية والاكتمالات النسبية لبعض الفرضيات والاستراتيجيات التجديدية»(2) ، فهذه التعدّدية هي ما يعطي للشّعر وهجه وقيمته الجمالية، وجدارته الإبداعية، لكون خالقها هو القادر على القيام بتغيير الذائقة الشعرية، وإحداث تحوير في أفق التركيب والأسلوب، وعليه «فالشاعر المؤثّر في التاريخ هو الذي يحوّر أو يُعدّل في أفق الحساسية والتعبير ، الذي ارتسم في هذا التاريخ..» (3)
(1) اَلِارْتِهَانُ إِلَى صَوْتِ اَلْقَصِيدَةِ :
أعتقد أن أفلاطون كان مُخطئاً عندما طرد الشّاعر من المدينة الفاضلة، بادّعاء مفادُه أنه يثير الأهواء القبيحة ويتّكئ على الخيال، وهو في اعتقاده من أسباب تقويض أركان المدينة الفاضلة، لكنّ الحقيقة التي غيَّبَها تتمثّل في أنّ الشّاعر يروم تأسيس وبناء الكينونة وحمايتها من التّلاشي، وساعياً إلى اكتشاف الوجود الخالص بالاستعمال المختلف للغة وتطعيمها بالمُفارقة الدّلالية، ليغدو الخطاب المبْتَدَع مُحمّلاً بأبعاده «النّبوئية»، فمطمح أفلاطون كان سياسياً في المُقابِل كان هاجس الشّاعر بنائيّاً، أي البحث عن كافّة السّبُل التي تعطي للإنسان كينونته الأنطولوجية، و في هذا يتجلّى وجْهُ الاختلاف بين السّياسة والشّعر، ومع ذلك لايمكن ، في العُمق، وضْع حدود أو متاريس وهمية بينهما، بل إنّ العلاقة قائمة على التّأثير والتّفاعل.
ويشكّل ديوانه الأوّل «جِراح دَلْمُون»(4) إرهاصاً تحويليّاً، فالشّاعر محمد بودويك اختار شعر التفعيلة كشكلٍ لصوْغ تجربته،وتشكيل العالَم والأشياء وفق رؤية تنحاز للخَرْق ذلك أن جوهر الشّعر « يكمن في هذا الاختراق لأغشية اللغة المفهومية التي تجعل الواقع أو العالَم مُعتماً، والشعر هو الوسيلة التي توصلنا إلى طراوة العالَم والأشياء. والشّعر لا يُبدع عالَماً جديداً من عندياته. هذا العالَم الشّعري موجود والشّعر هو الذي يتمكّن عبر العبارات الانزياحية من إعادة تملّكه. هنا تكمن أهمية المقومات الشّعرية في أوج تحققها وألقها الجمالي» (5) وما نخلص إليه- بعد قراءة متأنية للمتن الشّعري- أن السّمة البارزة، في هذا العمل، تتجلّى في الحضور القويّ لصوْت القصيدة في بنية الخطاب الشعري، ممّا يفضي إلى القول إنّ « الإبداع الأدبي هو المعادل الرمزي والموضوعي، حسب إيليوت، للواقع المعطى. كما أنّه مستودَع أسرارها وخفايا تشفّ عن رؤية محدّدة إلى العالم حسب كولدمان. هذه الرؤية التي لا تخصّ بالضرورة الفرد وحده، بل تعمّ الفئة أو الجماعة التي ينتمي إليها ويقاسمها شؤونها وشجونها» (6) ، فَرِهَانُ الشّاعر تشكيل المكان/ جرادة معادلا شعريّاً ، لأنّه يمثّل وجوده الذاتي وتجربته في الحياة، وذاكرته الجمعية، غير أن هذا التشكيلَ يتّصف بسيادة صوتِ الواقع،ممّا طبَع الخطاب الشّعريّ بغنائية مُبَطَّنَة بالوجَع الجماعي، فتمّ تقديم الفضاء المكاني في صور تنزّ بالقتامة، وتعرّي حقيقة الخراب المجلّل عوالمها،ممزوجاً بصوت الشّاعر اللاعن والرافض الثّائر على الأوضاع، مُبرزاً تَمَاهِيه مع المدينة المُشكّلة لهويته وانتمائه الوجودي و الشّعري، فالتّماهي قائم بين الذات والمكان في تركيبة متداخلة ومتواشجة. هكذا تمنح المدينة ملامحها القاتمة للقارئ في طبَقٍ استعاريّ يُخَصِّب المعنى والدلالة، يقول: ( وفي الكأس تطفح المدينة/ القتامة / تجثو مصلوبة بلامسامير / في مئزر الحيْف ثكلى / يتمطّط السّأم الأسود/ في ثنياته عشبها المحروق / ضرعها المنخور / زرعها المسروق../ وقيل، المطر اعتقلوه ..)، فالخطاب الشّعري يقدّم المكان بلغة الكارثة، حيث الموت والحيْف والسّأم الأسود والجفاف… ملفوظات مدبوغة بطابع الرؤية السوداوية الثّاوية والمُبَطِّنة لموقف رافض لمأساوية الواقع وتراجيديته، كما أنّ الزّمن مصاب بالشّللية و العدَمية؛ كإحالة ضمنية على المفارقة الصّارخة، كاشفا عن المخفي والمتواري في العالَم،حيث نجد الشاعر يفجّر القلق والمكابدة أسئلة متوهّجة ببركان داخلي الذي «لايخمد، ولا يسكن بفيضه الكشفي، ولكنّه دائم الكشف عن المضمر في الكون والمسكوت عنه في الواقع،وهو الموقف المؤسّس للوعي المتجدّد، المفضي إلى تعدّد زوايا الرؤية» (7) ، لهذا نجده يوجّه خطاباً إلى مدينته الحلم المغدور: ( ها أنت / وكل الطّرق تتكوّم / تعوج عندك / في مدخل القلعة / قطرات الملل بجانبيك / شلالات متاعب ودم / حين في المضاجعة تستكينين / لفحولة الغاصب / تشقين القميص تفتحين الأزرار / تطفئين الأنوار/ وتبدأ دورة أسطوانة رحلة الشهيق..) فالشاعر يرسم، بفرشاة الخيال وبوعي شقيّ، مدينة جرادة امرأة مسبية تتعرّض لأبشع اغتصاب حيث الشهيق والظلمة والملل والدماء من مظاهره المفجعة، مُعبّراً بذلك عن مكابداتها الذاتية والوجودية، ومن ثمّ فالشعر يمثّل انعكاساً احتمالياً لواقع احتمالي، من خلال، نسج سيرة مدينة عُمّالية ترزح تحت نير الظلم الاجتماعي وتعجّ بالمفارقات والاستفهامات المُضنية لذات مُدْرِكَة الواقع بتناقضاته وعِلَلِه المختلفة في صور شعرية يحاول عبْرها الشاعر، تعرية واقع المدينة ومن ثمّ المجتمع . فيغدو -أي الشعر- رهينا لصوْت الخارج، ممّا يعكس حال التواشج والتلاحم بين صوت الذات القلقة والمتوتّرة و صوت الواقع المجروح المبحوح، وقد عبّر الشّاعر عن ذلك بلغة شعرية انزياحية تُضْفِي، على الخطاب، صفاتٍ جماليةً باحتمالات تأويلية « تضفي على موجودات الواقع جمالية لم تكن لتمتاز بها في غياب البلّورة الجمالية دون أن يغرب عن لُبّنا كون أشياء الواقع تتضمن عناصر شعرية وشاعرية لا تطالها اللغة الجمالية»(8). فقصائد الديوان تبيّن أن الشّاعر مريدٌ لمدينته، وعاشقُها المتيّم بها حدّ الفناء، فهي بمثابة الجرح النّازف والحلم المأمول، والأكثر من هذا تشكّل بؤرة إبداعه الشّعري التي يجمّل قُبْحها بالخيال والجمال يقول : ( وأعلن/ أحملك خنجرا في القلب/ وأحتمي بدمي / وبالليالي المبتلّة / بهمس الأحبّة الراحلين / أعلن، / مواعيد الجرح تحتسي / كل الصباحات / واللغة تتدحرج كقُنفذ…) هكذا ف»جرادة» تمثّلُ ذاكرة جمعية لبنية اجتماعية معطوبة،وقد تمّ نسْجُها في صور انزياحية تُعمِّقُ رؤيا الشّاعر، وتفتحُ الدّلالة على أفق مُلتبس لانهائيّ، حيث اللغة تَعْدِلُ عن دالّها للتّعبير عن مدْلولها، وهُنا مَفْرِق تجربة الشّاعر، أليست اللّغة هنا تخْلع غموضها الدلالي لتتزيا ببيان مدلولها، وتنسج سيرة مدينة شعريّاً وفنّيّاً بأساليب يتداخل فيها الإبداعي بالإيديولوجي، و»لاشك في أن محاورة الإيديولوجي ومساءلة الاجتماعي، في سياقات جمالية تحاول أن تخرج النّصّ من سكونيته إلى حركية أكثر جاذبية، وإثارة جوانبه الخفية، ورصد علائقه الدّاخلية» (9) . فالشاعر يمتلك وعيا شقيّاً يبرزُ انخراطه الفعلي في قضايا المجتمع ؛ بالالتحام به والانغماس في أسئلته الحارقة والمضنية بتعقّداته وتشكّلاته الاجتماعية والسّياسية والثقافية، فالصوت الخارجي حاضر بجلاء في المتن الشعري، وهذا لا يعني أن الشّاعر يحاكي الواقع بطريقة تُفقِد تجربته ماءها الشّعري، بل إن محمد بودويك أبدع وتفنّن في تطويع اللّغة لخدمة رؤيته للذات والعالَم، فالخطاب الشعري طافح بهذه اللغة الشعرية ذات البُعد الانزياحي، لغة لا تقول الواقع بقدر ما تستكشفه في صور شعرية محمّلة بإشراقات مُدهشة ومُغرية، وتزخر بمعاني جليلة ذات نَفَسٍ جماليّ أخّاذ. لغة تحتاج إلى قارئ لا ينقاد إلى القراءة الأفقية، وإنّما يتجاوزها إلى العميق والغائر ، لأنها مستمدّة « من أسلوب الحديث الواقعي بما فيه من نبض حيّ ونبرات حارّة لا تخلو أحيانا من الخشونة والجفاف، ولكن ما أصدقها وأروعها وما أعظم جمالها الفني ولذتها العميقة حين تألفها آذاننا بعد أن تتحرّر هذه الآذان من تلك النّغمات المعسولة التي كانت تستعبدها في الشعر الرومانسي الناعم»(10)
(2) التَّكْثِيفُ الشِّعْرِيُّ و الِاتّسَاعُ الدَّلَالِيُّ:
إن شعرية محمد بودويك لا تستسلم لصوت الخارج، وإنّما تجنح إلى التّكثيف والانزياح الدلاليين لتوسيع الرؤيا الشّعرية، ممّا حوّل الخطاب الشعريّ إلى فضاء لتفاعل الأساليب المجازية والاستعارية والكنائية في صوْغ شعريّ يمتحّ وجودَه الجمالي من التّجريب ، ومُنفتحاً على كتابة شعرية تغيّب الانفعال وتروم توسيع المعنى بتكسير أفق الدلالة، ذلك « أن التكثيف الدلالي بهذا المعنى يكون منتجا للشعرية لفتح إمكانات العديد من التّأويلات من جهة، ولاحتمالها الانفتاح على تقاطعات ثقافية وحقول معرفية متعدّدة من جهة ثانية» (11). والمتأمّل لعمله الشعري « مركبة السنجاب»(12) يقف على هذا الملمح الانزياحي حيث يأخذنا الشاعر في رحلة إلى عوالم لغة تخرج من الاستعمال الطبيعي إلى التوظيف الإيحائي، ذلك أن مركبة السنجاب ما هي إلا مطية لاكتشاف براعة النّسج الأسلوبي والتصويري، التي تتطلب تشريح الجمل الشعرية تشريحا تأويليا،بإمكانه إبراز الدلالات المحتملة وتشْرَعُ أفقاً قرائيا مفتوحا،ل» أن القراءة المفتوحة تمنحنا إمكانات دلالية متعدّة، كما تمنحنا المقدرة على النّفاذ إلى متن النّص الداخلي وطبقاته الأكثر غورا» (13) يقول الشاعر : ( فجأة…/ ملاك ودودُ/ يأتيني رفقة امرأة سواء/ يضيء البرق ضحكتها وينير بين يديها/ الفجاج كلما مشينا فيه تواثبت نجومٌ/ كلّما احتفنْتُ ما يندفان/ وسعتني رؤيا لازوردية فاستحال الرجوع/ أسلس إليه قيادي/ يأخذني إلى سر مخضود / حيث الحكمة طيرٌ/ والشعر ظل ممدود/ ويعلمني كيف أنحني للأشجار…) إنها رحلة الشعر المشرَعة على الحكمة واقتناص البهي والبحث الأبدي عن عشبة الفيض والكينونة، التي يتسيّد عليها الفراغ ويكون البياض مقام المحو وإعلان الولادة، وركوب الشّعر يقود إلى مفازات الخيال يتصيّد فيها الشّاعر المجازات والاستعارات للتعبير عن الكينونة المفتقدة، وينهل الحكمة من الطير برؤيا شعرية عماده الحلُم ليأخذنا معه إلى عوالم ربّانية زاهية بألوان لازوردية الحاجبة لأسرارها حيث الكتابة طريق للتواضع للكائنات والتباس الوجود، وما يميّز هذا العمل غلبة التصوير المشهدي، حيث يلتقط الشّاعر مشاهد عمادها التّوصيف الشّعري؛ بإبداعية تنزاح عن المألوف وتخلق لغة مسربلة بالغياب، وذلك وفق سردية متنامية أحداثها، مما جعل الخطاب الشعري مبصوما بنَفَس سردي يقول: ( جنب الساقية../ شجرة الخرّوب../ الشجرة ذاتها الوحيدة كلقلاق أشيب/ تسهر / على نبض معاركي الصغيرة/ وأزيز الأضواء المسروقة من / تثاؤب جرّة أحلامي…) فالبنية النّصيّة تعلن عن مُكابدة الذّات مع عالم المفارقات والعجائب في مشهدية تصويرية لافتة، فالسّفر قطعة من التّعب والمعاناة، التي يُجابِهها الشّاعر بإرادة الخيال وتطويع اللّغة بإلْباسها لُبُوسات جديدة تقوّض اللّغة الطبيعية. ورغم ما يعتور الذات الشّاعرة من منغّصات تحُول دون تحقيق الرغبات والأهواء، يسبغُ العالَم الشّعري بتقنيات بيانية قوامها المشابهة للتعبير عن وجوده،وإضفاء سمات الحركية والفاعلية في البناء النّصي يقول:( كأنني لبلابة عطشى / يخفرها مقصّ أشدّ عطشا/ أتسلق خرائب المكان/ من دون رافعة/ ولا يدٍ مُتغضّنة/ عالياً/ أضحك من يَبَسٍ/ كالشّوك تحت القِدْر../ وقد أولمت ظلالي/ للغربان ). إنّها لوحة تشكيلية تحمل مغزى الصراع الذي تخوضه الذات مع الخراب المعمّم بغية إثبات وجودها المشوب بالهشاشة واليباس والألم، والذي تحيل عليه ملفوظات عطشى/ يبَس/ الشوك/ أولمت… ، وقصيدة «نهر هيراقليطس» إحالة على أن الشّعر متجدّد ومتغيّر، لا يثبت على مجرى واحد، بل يحفر مجاريه المتعدّدة، ويتحوّل ال»نهر» إلى رمز شعريّ مترع بدلالات تُستشفّ، من سياق المنطوق الشعريّ، فهو رمز المقاومة يجابه العِلل وأعداء الحياة، كما يعبّر عن النّفَس الغنائي و له أيضا رمزية الثبات على المبدأ، وهذه الدلالات تشحن الخطاب بأبعاد جديدة بتحميل الكلمات بدلالات وإيحاءات لأن « الكلمات دائما تحتمل إيحاءات ظاهرية لا تستقر على المعنى الحقيقي، بل لها آثارها الدلالية في عالم الكينونة الباطني»(14) ، يقول: ( نهر/يبدّل وجهته/ كلّما أضْجَره السّعال…/ يغيضُ/ فتراه مُصفرّا/ كلّما اعتلاه/ الزّناة والمهرّبون/ أو بالت/ في أحداقه / نسوة البَلشون./ نهر/ يضجّ بالنشيد/ متى ما رآني../ نهر إغريقيّ / لا يخون…) في هذا التّشكل تطعيم وإخصاب للغة حيْث التّعدّد الدلالي خصّيصة من خصائص الكتابة الشعرية لدى الشاعر. من هنا يتجلى أن الشّعر النابض بالجمال والخلْق لا يثبت على حال، بل هو دائم التحوّل ويحفر هويته انطلاقا من العلاقات التي تربطها عناصر الخطاب الشعري. هكذا «تظلّ اللغة باستمرار ملغومة، محوَّلة عن عاداتها (…) من هنا يبدو الشاعر الحديث في كتابته مخاطرا: لا ينظم أرضا اكتشفها غيره، وإنّما يكتشف أرضا يترك تنظيمها لغير، وإذ يتقدم في هذه الأرض وما وراءها، لا يتقدّم وفقا لمُخطّط سابق، بل بدفعات متلاحقة، مفاجئة»(15)
(3) الشِّعْرٍيُّ وَالْجَمَالِيُّ:
في ديوانه» امرأة لا تُحصى»(16) نلمس انعطافة جديدة في الكتابة الشعرية عند الشّاعر، حيث يشيّد خطابا شعريّا يفيض بالمتعة و العُدول عن المألوف في بناء الصورة الشعرية، التي تمثّل تجلّيّا لتمثلات العالَم في رؤيا الشاعر ، فالعالَم الشّعري يتحوّل إلى فضاء تسود فيه صورة المرأة بتجلياتها المختلفة،وتسبغ الخطاب بهالة من البهاء الرمزي لصورة المرأة. فهي المرأة المستقبل المتعدّدة والكثيفة، المثيرة للاشعور الفردي والجمعي، وهي الوحيدة و الموئل والسقيفة والأميرة واللاسعة والكثيرة، المليكة والفاتنة والهالكة، الجميلة والفاتنة والفاتكة، الحسناء والغادة والخريدة ، والكاعب والفرعاء والغراء والظبي والغزال، فهذا التناسل التصويريّ النّعْتي -إن صح القول- تتولّد عنه كينونة أنثوية محمّلة بمواصفات غيبية ذات طُهرٍ فريدٍ، يقول: ( وحيدة !!/ بل متكثرة وكثيفة/ متعدّدة كأجنحة الهواء/ ملتفة على البياض/ كثلج الشّمال/ تفاحة شهية / عليها نداوة قزح/ وقوس قزح/ في جزيرة عزيزة/ لم يطمثها قدم ولا قلم (…) أنت لاسعة كشوك السياج/ وعذبة كالورد العالي …) فالشّاعر توسّل بالتشبيه كأسلوب فنّي لتشكيل صورة المرأة المحلوم بها، وترسيخها في ذهن المتلقي بمواصفات منتزعة من الذاكرة الجمعية، وفي هذا إقرار بجدارة هذه المرأة لكونها مصدر وجوده، ففي غيابها موت وفي حضورها ارتواء وبَراءٌ، بل تعجز الأساليب البيانية عن القبض على ملامحها الهاربة والمنفلتة. فنحن « أمام نهر معرفي متدفّق، متعدّد المنابع، متلوّن الروافد يختلط فيه العلمي والخرافي والتاريخي والأسطوري والديني والفلسفي وكل ألوان معارف العصر. إنه تركيبة معرفية «(17) ، هذا البُعد الدلالي يمنح للمرأة أفقا متخيّلاً محبوكاً على مِنْوَلِ الأقاصيص الدينية والأسطورية والشّعرية يقول: ( مريض بك/ يتلألأ الملح في خلدي/ أتوجس النظر إلى الخلف / واللعنة المتوخاة ترافقني/ وتموء قطط مالْرو في/ نبضي وسمع جسدي/ مريض كنهر يتحلّب/ رانيا إلى/ استدارات العذارى../والحصى المتثائب / وموج السواحل/ (…) أنا في غيابك/ سندان بارد وجزمة مهملة../ وزهرة مقبرة / أنقذيني مني…منك/ ومعا..منّا/ (…) لا تلعني الزّمن الذي أراك وأراني/ووحدنا دينا ودِنّا/ أنا أورفيوس الأخير / زمني جديد / وحيلتي واسعة / لن تأخذك مني الآلهة…/ (…) عودي/ ليخضر عودي (…)/ دمي: هدهدي إليك/ والغراب يعلمني / حكمة الدفن/ وكيف أواري عن/ رمادي جفني ..) إن جمالية التأثيث الشّعري في هذه المقاطع المنتقاة تحيل إلى الجوانب الدينية حيث تحضر قصة قابيل مع الغراب وأسطورتي أورفيوس والفينيق، ذلك أن الشاعر قدّم صورة المرأة في هذه التشكّلات المعرفية بأبعاد شعرية تتّسم بالانزياح الدلالي، مما وسّع المعنى وحقّق جماليةالخطاب الشعري. والشّاعر في قصيدة «لارا» قد بلغ مقام الفيْض في حضرة محيي الدين بن عربي برمزيته الصوفية؛ ليدَع الكوامن تبوح بأسرار وسرائر الحبّ الإلهي،فالعقل يلجُ منطقة الانخطاف والذهول والكُمُون والغيبوبة؛ لأنه أمام «لارا» المرأة حفيدة المسيح التي طوّقته بسلاسل من العشق والتيه والضياء والبهاء يقول : ( لم يعد معي لبّي/ أخذته لارا: / فليت التي سقتني أسِرتني/ وأبقتني الدهر كلّه معلولا/ عليلا معتلا متبولا.(…) لنجرح أصبعينا/ حتى يتآخى دمنا/ أعطني سراجك / أعطيك عكّازا من/ شجر وطني تهشين به/ على جحافل الظلام من حولي/ ونايا تكرزين به/ نشيدا ألثغ يليق بمعلولا …) هكذا نجد الذات معتلة وعليلة ودَنِفَة، حيث «لارا» تغدو في صورها البلاغية، ذات المنحى الرمزي، منظومة في نسقٍ تصويري متكامل ومتداخل وبتشكُّلات تثير الافتتان الجمالي الموحي برمزيات ممتدة في اللانهائي، و في هذا التّشكيل اللّغوي تنجلي براعة الشاعر في استخدام لغة تحقق جمالياتها الشعرية «بمجرد ما يتحول الواقع إلى كلام، يضع مصيره الجمالي بين يدي اللغة، فيكون شعريا « (18 )، يستغور الأعماق ويفجّر البواطن ويكشف الحجب المتوارية خلف الرغبات والهواجس، لتصبح التجربة ذات فاعلية شعرية تفتح مسارب الشعر الزاخرة بمتاهات الدلالة.
خُرُوجٌ مُحْتَمَلٌ :
هذه القراءة ماهي إلا مدخل من المداخل الممكنة لمقاربة التجربة الشعرية للشاعر محمد بودويك، وذات أبعاد احتمالية في التأويل، وخروجنا من حضرة هذه التجربة يظل هو الآخر محتملاً على اعتبار أن كل خطاب يحمل في أوصاله النّصية أمداء لقراءات أخرى، بل سنظلّ في مصاحبة دائمة مع نداء هذه التجربة الثّرّة.
الهوامش:
(1) عبد الله راجع: القصيدة المغربية المعاصرة : بنية الشهادة والاستشهاد، ج1، منشورات عيون، الدار البيضاء، ط1، س1987،ص95.
(2) عبد القادر الغزالي: الشعرية العربية: التاريخية والرهانات، دار الحوارللنشر والتوزيع، سورية، اللاذقية،ط1،2010،ص264و265.
(3) أدونيس: سياسة الشعر: دراسات في الشعرية العربية المعاصرة، ار الآاب، بيروت،ط1، 1985، ص17.
(4) محمد بودويك: جراج دلمون، منشورات البوكيلي، القنيطرة، 1997.
(5) جان كوهن الكلام السامي: نظرية في الشعرية، ترجمة محمد الولي ،دار الكتاب الجديد المتحدة،ط1، 2013، ص 30.
(6) نجيب العوفي: ظواهر نصية، عيون المقالات، الدار البيضاء، ط1،1992،ص76.
(7) ع.القادر فيدوح: معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، دار صفحات للدراسات والنشر، 2012،ص10.
(8) صدوق نور الدين: النص والتأويل،دار الثقافة والإعلام،الشارقة، كتاب الرافد، ع130، نوفمبر 2016،ص 72.
(9) عبد القادر فيدوح: معارج المعنى في الشعر العربي الحديث مرجع مذكور،ص55.
(10) محمد النويهي: قضية الشعر الجديد، دار الفكر، ط2، 1971، ص17.
(11) د.محمود الضبع: غواية التجريب : حركة الشعرية العربية في مطلع الألفية الثالثة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ،2014،ص27.
(12) محمد بودويك: مركبة السنجاب، مطبعة آنفو-برانت، فاس، 2007.
(13)عبد القادر فيدوح: معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، مرجع مذكور، ص 57.
(14) نفسه،ص61.
(15) أدونيس: الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتّباع عند العرب،ج4: صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري، دار الساقي،بيروت،لبنان،ط11،2019،ص267.
(16) محمد بودويك: امرأة لا تحصى،مطبعة آنفو-برانت،فاس، 2008.
(17)د.عبد الرحمن محمد القعود: الإبهام في شعر الحداثة : العوامل والمظاهر وآليات التأويل، عالم المعرفة،ع 279،مارس 2002، ص24.
(18 )جان كوهن : بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر ،ط1، 1986، ص37.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.