يعدّ محمّد وَقِيدِي – الذي وافتْه المَنِية صباح الجمعة سابع غشت 2020م – أحدَ فرسان الفكر والإبستمولوجيا بالمغرب المعاصر، بما راكم في المجالين من تجربة تدريسية وبَحْثيّة طويلة، وبما أنجزه فيهما من كتابات ودراسات من الوفرة بمكان على امتداد أزيد من أربعة عقود. وقد ضَمِنَ له ذلك صِيتاً، ولإنتاجه الفكري انتشاراً، ولاجتهاداته حضورا مستحقا داخل بلده وخارجه. وقيدي من مواليد رابع مارس 1946م، أمْضى سنوات تعلمه، من الطور الابتدائي إلى التعليم الجامعي، في عدة مؤسسات، بأكثر من مدينة مغربية، إلى أنْ عُيِّن أستاذاً للفلسفة في الثانوي التأهيلي؛ حيث قضى أعواماً قبل أن ينتقل إلى التدريس بكلية الآداب، التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، والتي ظل فيها يدرّس الفلسفة والابستمولوجيا وموادّ أخرى إلى أنْ بلغ سنّ التقاعد الإداري عن العمل. وقد كانت تجربة التدريس بالثانوي مهمة ومؤثرة في مساره المِهْني والعلمي اللاحق؛ كما أكّد ذلك أحدُ أصدقائه القريبين منه، في حضرة وقيدي، في لقاءٍ أقيم مؤخراً بالمحمَّدية احتفاءً بالرجل؛ حيث قال عن تلك التجربة/ المرحلة: «كان لها تأثيرها الفعّال والإيجابي على مساره الفكري في ما بعد، بحُكْم أنها المرحلة التي قرأ فيها الكثير من الأعمال الفلسفية الهامّة، التي رسمت أمامه الطريق حول الاتجاه الذي سيدرسه، ويتوسّع فيه». وفي سنة 1979، حصل وقيدي على د. د. ع. في الفلسفة من كلية آداب الرباط. وقد أشرف وأطّر وناقش، خلال فترة عمله بهذه الكلية، العشرات من الرسائل والأطاريح، فضلا عن عدد أكبر من بحوث اللّيسانس. وتتلمذ له المئات من طلاب العلم، الذين صار كثيرون منهم أطُراً في قطاعات عدة، منها التعليم العالي. فهُمْ، عِلاوةً على ما تلقوه على يديْ أستاذهم من معارف في الفلسفة وتاريخ العلوم، ومن تقنيات بحْثٍ في المجال الفكري والعلمي، وعلاوة على ما استفادوه منه من خِبْرات وتجارب، مَدِينون له في مسائلَ منهاجيةٍ كان يُلِحّ عليها، ويَحْرص على غرسها في طلابه .. مسائلَ لا تخلو من جَراءَة؛ لأنها طُرحت في سياق مبكّر بعضَ الشيء، لم يكن المشهد الفكري بالمغرب قد اعتاد عليها، وألِفَها بَعْدُ. فلْنَسْتمِعْ إلى شهادة أحد طلابه، خلال الثمانينيات، في هذا الإطار: «تمرّسْنا معه على الشكّ المنهجي الديكارتي والمُساءلة الابستمولوجية للمعرفة العلمية، وهو ما عملنا على نهْجه بالنسبة للمجالات السيكولوجية التي نشتغل فيها؛ بحيث لا نتبنّى المُسلّمات والحقائق كما وجدت أو أخذت كما أتتْ من هنا أو هناك، ونحرص على ضبط المُنطلقات النظرية والمفاهيم والمسلمات وحيثيات إنتاج المعرفة في هذا المجال. وبطبيعة الحال، فقد كان هذا النهج في النظر والبحث المعرفي يُزْعِج بعض أساتذة علم النفس». ومما تُفصح به هذه الشهادة أنّ ما كان يعلمه وقيدي لطلبته، بخصوص منهج التناول والدراسة في مجالي الفلسفة والابستمولوجيا، قابلٌ لأنْ يطبّق في علوم إنسانية أخرى؛ وهذا واضحٌ جدّا من كلام صاحب الشهادة، وهو د. عبد الكريم بلحاج؛ أستاذ علم النفس بجامعة الرباط. كما لا يخفى علينا مدى الارتباط الوثيق بين الابستمولوجيا والسيكولوجيا، وبينهما وبين الفلسفة إلى حدود القرن التاسع عشر على الأقلّ. وكانت لوقيدي مشاركاتٌ عديدة في ندوات ومُلتقيات علمية وفكرية داخل المغرب وخارجه. والرجل، كذلك، عضوٌ في «الجمعية الفلسفية العربية»، و»الجمعية الفلسفية المغربية»، وفي جمعيات ثقافية وعلمية أخرى. كما أدْرِجت ترجمته ضمن الموسوعة الفلسفية الألمانية… تأثر محمد وقيدي، خلال مسيرته العلمية، بعددٍ من المفكرين الغربيين والعرب، ولعل من أبرزهم الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار (G. Bachelard)، الذي أعدّ عن فلسفته في المعرفة كتابا خاصّا يعدّ أول الكتب التي صدرت للباحث، ومُواطِنَه جان بياجيه (J. Piaget)، الذي اشتغل على اجتهاداته في الابستمولوجيا التكوينية في إطار بحْثٍ أكاديمي لنيل شهادة جامعية عُليا؛ استجابةً – كما يقول د. بلحاج – «لهموم معرفية لديه، ولاسيما من حيث إبرازُه لهذا الوجه لدى بياجي، والذي كان مغيّباً في الدراسة في علم النفس. ذلك أن بياجي كان يُعتَبر من مؤسّسي علم النفس الحديث، وهو الذي كان يُقدَّم على أنه صاحب الأرضية النظرية لعلم نفس النمو وعلم النفس الارتقائي وعلم نفس الطفل. بيد أن وقيدي عمل على تقديم بياجي بكونه فيلسوفاً وصاحبَ مشروع ابستمولوجيا لتنظيم العلوم. وما نظرية النمو المعرفي إلا صيغة لمنظوره في تطور العلوم، وهو ما عَمَد إلى التعبير عنه في مؤلَّفه الأول في هذا السياق «النمو العقلي والتطور المعرفي: وجهة النظر التكوينية»؛ بحيث اشتغل وقيدي على تقديم مسعى بياجي للمهتمّ العربي، طالبا وباحثاً، في كونه يتمثل في تنظيم المعرفة على أسس جديدة، من حيث كونُها تستند إلى مطابقة الواقع. ومن ثمّ، يقود هذا المسعى إلى البحث عن أفضل أشكال التفسير العلمي، إلى جانب أنه، ومن خلال أعماله المتنوعة الرائدة، فهي كانت معبِّرة جدّا عن مسعى انخراط علم النفس في صفّ العلوم». كما تأثر وقيدي بالمفكر الجزائري المعروف محمد أرگون، الذي دعا، في كثير من كتاباته، إلى إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي بمَناظير منهاجية وإواليات جديدة تبلورت مع تطور العلم في الغرب بخاصّة، ويذكر وقيدي أن هذا المفكّر كان قد أجاز له بألاّ يشتغل بإعداد بحثٍ لنيل د. د. ع، ووقّع له – بالمقابل – إقراراً بالانتقال مباشرةً إلى إعداد بحث الدكتوراه، ولكنّ الباحث لم يَمْضِ – لأسباب محدّدة – في هذه الطريق. وتأثر، كذلك، بالفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي، المعروف بمذهبه في الشخصانية والغَدِيّة… وللأستاذ وقيدي دراسات ومؤلَّفاتٌ عديدة أغنى بها المكتبة الفكرية العربية على امتداد مساحة زمنية طويلة، وقد تيسّر لي الوقوف، أو التعرّف إلى خمسة عشر كتابا منشورا منها، صدر أولها – في طبعته الأولى – عامَ 1980، بعنوان «فلسفة المعرفة عند غاستون باشلار»، عن دار الطليعة ببيروت، وصدرت طبعته الثانية عام 1984 في الرباط عن مكتبة المعارف، في أزيد من 220 صفحة من القِطْع المتوسّط. وقد تناول فيه وقيدي فلسفة العلوم لدى الفيلسوف الفرنسي المعاصر باشلار، مبيّناً أساسَها الموضوعي الذي استندت إليه، وهو الثورة العلمية المعاصرة، وحدودَها الفلسفية، وكذا فعّاليتَها الإجرائية، علاوة على تفاصيل أخرى عن الابستمولوجيا الباشلارية. وظهر للأستاذ وقيدي، عامَ 1983، كتابان اثنان، صدرا معاً ببيروت؛ أحدهما عن دار الطليعة، بعنوان «العلوم الإنسانية والإيديولوجيا»، في 195 صفحة، والآخَر عن دار الحداثة، بعنوان استفهاميّ نَصُّهُ «ما هي الابستمولوجيا؟»، في 221 صفحة. وأعيد طبْع الكتابين في الرباط؛ بحيث صدرت للأول طبعة ثانية عن منشورات عُكاظ، عام 1988 (251 ص)، كما صدرت له طبعة ثالثة، في ما بعْد، عن دار الكتب العلمية ببيروت. وصدر الثاني في طبعة ثانية عن مكتبة المعارف، عام 1987. يندرج الكتاب الأولُ، بامتياز، ضمن خانة فلسفة المعرفة، ويتطرّق إلى إبراز علاقة العلوم الإنسانية بالمعطى الإيديولوجي، انطلاقاً من جملة محاور، منها تعريفُ هذه العلوم، وفي مقدمتها على الاجتماع المعاصر، وتسليطُ الضّياء على تاريخها نشأةً وتطوراً، وتِبيان صلة الاستشراق بالإيديولوجيا… وأفرد الكتاب الثاني؛ كما يتضح من عنوانه مباشرة، للحديث عن الابستمولوجيا مفهوماً ومصطلحاً وعلماً وتاريخاً وتفريعاً وغير ذلك من العناصر المتمحِّضة لفلسفة العلوم من الناحية النظرية. وجمع في كتابه الرابع، الصادر عامَ 1985، بالدار البيضاء (المغرب)، عن دار توبقال، ضمن «السلسلة الفلسفية»، في 196 صفحة من القِطْع المتوسّط، بعنوان «حوار فلسفي: قراءة نقدية في الفلسفة العربية المعاصرة»، دراساتٍ وأبحاثاً سبق أنْ كتبها وقيدي، في فترات زمنية متباينة، عن واقع الفلسفة في الوطن العربي خلال القرن العشرين، بشتى مشاربها وتلاوينها، وعن تدريسها في الجامعات العربية، مؤكّداً أنها، عموماً، تعيش أزمة متعددة المستويات، وأنها في حاجةٍ إلى مزيدِ احتفالٍ بها لتتبوّأ المكانة اللائقة التي تستحقها فعلا. وما دام الأمر كذلك، فمن الصعب الإبداع فيها دون المرور بمحطة تسبقه، ويتعلق الأمر بالترجمة عن الفلسفات الغربية والعالمية الكبرى. كما تضمّن الكتاب مقاربات نقدية وقراءات معمّقة أنجزها صاحبُها في كتب فلسفية عربية، توخّى من ورائها – كما قال – «خلْق حوار فلسفي جِدّي» وحقيقي بين الفلاسفة العرب بمختلِف توجهاتهم ومرجعياتهم، وبين شتى اتجاهات الفلسفة العربية المعاصرة. ويعدّ هذا الحوار، إلى جانب الحرية، شرطاً لازماً لقيام فعل فلسفي حقيقي؛ إذ يقول في موضع آخر: «إن وجود الفلسفة مرتبط بالحوار الفكري الشامل، وإنّ الفلسفة لا يمكن أن توجَدُ في مجتمع خالٍ من الحرية الفكرية». والواقع أنّ كتاب وقيدي عن الحوار الفلسفي قد «نجح، إلى حدّ بعيد، في نقد ومساءلة الواقع الفلسفي العربي، من حيث هو واقع مركّب لم يتفاعل بالشكل المطلوب مع مسألة الحوار كمنهج وثقافة وسبيل حياة»؛ على حدّ تعبير الباحث المغربي محمد بقوح في مقالٍ له عن الكتاب المشار إليه، نشره في العدد 3784 من مجلة «الحوار المتمدّن» الإلكترونية المعروفة، بتاريخ 10 يوليوز 2012. ونشر محمد وقيدي، في عام 1990، كتابين؛ أحدهما بعنوان «كتابة التاريخ الوطني» (دار الأمان بالرباط، 125 ص)، والثاني ضَمَّنَهُ عدداً من الدراسات والمقالات التي كتبها، في فترات سابقة، عن الفلسفة العربية في الوقت المعاصر، راصداً جملةً من تمظهراتها وقضاياها وإشكالاتها، وباحثاً في الشروط المطلوبة لبناء صَرْح النظرية الفلسفية، على الصعيد العربي خاصة، ولتطويرها باستحضار الواقع العربي المَعيش، والانفتاح على التيارات الفلسفية العالمية المعاصرة، سواء أكانت هذه الشروط منهجية أم نظرية أم إيديولوجية. وقد حمل كتابُه هذا عنوانَ «بناء النظرية الفلسفية: دراسات في الفلسفة العربية المعاصرة» (دار الطليعة ببيروت، 207 ص). وصدر له في أواخر التسعينيات أربعة كتب في مجالات مختلفة؛ أوّلها بعنوان «البُعْد الديمقراطي» (1997)، نشرته له دار الطليعة، في ما لا يتجاوز مائة صفحة، وهو بحْثٌ في الشروط الموضوعية لقيام المجتمعات المعاصرة على الديمقراطية، بوصفها خيارا لا حيدة عنه في عالم اليوم، ومحاولةٌ للإجابة عن بعض الأسئلة الجوهرية في هذا الصدد؛ مِنْ مِثل: هل الديمقراطية وسيلة أم غاية؟ وكيف تكون التعددية مظهرا للديمقراطية؟ وكيف تصبح عائقاً لها؟ وحدّد وقيدي في كتابه هذا، الذي هو – في الأصل – مجموعُ أبحاثٍ ومقالاتٍ، البُعْد الديمقراطي، من بين ما حدّده به، بأنه «ترسيمة معمارية للبناء الديمقراطي للمجتمع المعاصر»، وبأنه «بُعْد إنساني يجعل الحياة ممكنة، وقابلة للاندماج في العصر، والتفتح الدائم». وثانيها يحمل عنوان «أبعاد المغرب وآفاقه» (1998)، وهو من منشورات «سلسلة شراع» بطنجة، يقع في 111 صفحة. وثالثُها وَسَمَه وقيدي ب»التعليم بين الثوابت والمتغيِّرات» وقد صدر عن نداكوم للطباعة والنشر بالرباط، عام 1999. على حين تمحور الكتاب الرابع حول «جرأة الموقف الفلسفي» (1999)، وهو صادرٌ عن دار إفريقيا الشرق بالبيضاء، وتَعْداد صفحاته أزيد من 190 صفحة من الحجم المتوسط، ويشمل دراسات وبحوثاً فكرية دبّجها وقيدي، في فترات متباينة، في مواضيع عدة، منها: الفلسفة والحوار، وشروط الحوار الفلسفي بالمغرب، ومن شروط الفلسفة إلى الفلسفة، وجرأة الموقف الفلسفي (وبعنوان هذا المقال سمّى كتابه ككلّ)، ومهامّ الابستمولوجيا، ونحْوَ ابستمولوجيا جهوية، والمفاهيم الباشلارية بين إجرائيتها وحدودها، ومحمد عزيز الحبابي من الشخصيات إلى الغدية. وأتْحَفنا وقيدي، منذ بداية الألفية الحالية، بخمسة كتب شخصية في السياسة والابستمولوجيا؛ الأول بعنوان «التوازن المختلّ: تأملات في نظام العالم»، صدر عام 2000، عن دار نشر المعرفة بالرباط، في 170 صفحة، وتطرّق فيه كاتبُه إلى موضوع الاختلال الذي يعيشه عالم اليوم؛ بسبب عوامل محدّدة، يأتي في طليعتها سياسات الهيمنة التي تنهجها قُوى الاستكبار العالمي، والتي تكرّس طغيان القَويّ، واستمرار تفقير الدول والشعوب المُسْتضعَفة، واستغلالها واستنزاف ثرواتها وخيراتها المختلفة. ويدعو الكاتب إلى إقامة عالم على أسس أخرى جديدة، تشيع الاحترام والعدالة، وتنبذ قيم العنف والعدوان والتسلط… والثاني بعنوان «مكوّنات المغرب وسياساته»، صدر عامَ 2001 عن مطبعة النجاح الجديدةبالبيضاء، والكتابُ – في أصله – دراساتٌ وأبحاثٌ نشرها وقيدي، من ذي قبْلُ، عبر حلَقات، في الصِّحافة العربية، وأبرزت – في مجموعها – مكوّنات المملكة المغربية؛ كالمكوّن المتوسطي، وسياساتها المختلفة… والثالث بعنوان «النمو العقلي والتطور المعرفي: وجهة النظر التكوينية» (2005)، صدر عن الشركة العالمية للكتاب ببيروت، في حوالي 210 صفحة من القِطْع المتوسط، وقد استكمل به جهوده المتقدّمة في مجال الابستمولوجيا التكوينية عامّة، بوصفها ميداناً بَحْثيّا يستند إلى علم النفس، ويستهدف إدراك كيفية تكوُّن المعرفة العلمية، ودراسة شروط هذا التكوُّن دراسةً علمية. وقد كان لصيقا بالفلسفة، مرتبطاً بها نشأة وتطورا، قبل أنْ يستقلّ عنها بكِيانه الخاصّ، على غرار سائر العلوم الإنسانية. لقد رام وقيدي، من خلال كتابه هذا، تبيان العلاقة بين النمو العقلي والتطور المعرفي من وجهة النظر البنائية التكوينية التي تبنّاها جان بياجيه، كما تبنّاها رفاقه في المركز الدَّوْلي للابستمولوجيا التكوينية، وحاولوا جميعا تطبيقها في أبحاثهم في مجالي السيكولوجيا وفلسفة العلوم… أما الكتاب الرابعُ فاختار له عنواناً «الابستمولوجيا التكوينية عند جان بياجي» (2007)، وهو من منشورات دار أفريقيا الشرق بالمغرب، ويقع في 375 صفحة من الحجم المتوسط، ويتابع فيه وقيدي إيضاح المسعى الابستمولوجي لدى بياجيه وزملائه في المركز الدولي المُومَإ إليه، الذي أرسى ركائزه، ودعا إلى الإسهام فيه تنظيراً وتطبيقاً، في فرنسا وخارجها. وأبرز فيه وقيدي، كذلك، مجهوداتِ بياجيه لتطوير الابستمولوجيا التكوينية في اتجاه استقلاليتها عن باقي العلوم الإنسانية، والمنهجَ الفعّال لدراستها، ونحْو ذلك من النقط المهمّة ذات الصلة بهذه الابستمولوجيا. ويحمل الكتاب الخامس للرجل، وهو في تاريخ العلوم وفلسفتها كذلك، عنوان «الابستمولوجيا التكوينية للعلوم» (2010)، وقد واصل فيه صاحبه التفكير والبحث في شروط تكوّن المعرفة العلمية وتطوّرها من وجهة نظر بياجيه، ورصد المشكلات الابستمولوجية للعلوم، سواء أكانت عامة أم خاصة بكل علم على حدة. وألمَّ المؤلِّفُ، أيضاً، بتحديد الابستمولوجيا التكوينية تحديداً لم يختلف عمّا عرّفها به في دراسات ومقالات سابقة، وإبراز علاقتها بعلم النفس، فضلا عن تبيان موضوعها ومناهجها واتجاهاتها وغير ذلك من الأمور. تلكم، إذاً، لمحة إلى مؤلفات الأستاذ محمد وقيدي التي تتوزّع – كما رأيْنا – بين مجالات أساسية هي: الابستمولوجيا والفلسفة والسياسة والاجتماع، مع تسجيلِ أنّ أغلبها يندرج في خانة المجال المعرفي الأول؛ ذلك بأن الباحث عُرف أكثر بكونه مفكرا وابستمولوجيا، أسهم في إرساء الدرس الابستمولوجي وترسيخه بالجامعة المغربية، بعدما كانت آخذةً في الاستئناس بالسؤال الفلسفي، إلى جانب ثلّةٍ من الأساتذة المرموقين في هذا الإطار؛ مِنْ مِثل المرحوم سالم يفوت، ومحمد عابد الجابري، وجمال الدين العلوي، ومحمد المصباحي، وعبد السلام بنعبد العالي، وبنّاصر البُعَزّاتي، ومحمد أبَطُّويْ. وقد كانت مجهودات وقيدي في مجال الابستمولوجيا التكوينية مائزة، وإنْ لم تجد الصدى الذي كان حَريّاً بها. وهذا ما أكّده عبد الكريم بلحاج في مقالٍ كتبه عن أستاذه وقيدي ومشروعه الفكري في المجال المذكور، ونشره في «المجلة العربية للعلوم النفسية». يقول في خاتمته: «لا مندوحة من القول بأنّ الجهود التي بذلها الأستاذ وقيدي في مجال ابستمولوجيا العلوم الإنسانية عامّة، وعلم النفس بشكل خاصّ، تبقى ذات أهمية كبيرة على مستوى التعاطي مع هذه العلوم، سواء على المستوى الجامعي والتعليمي أو على المستوى الثقافي العام. وبالتالي، تبدو من خلال أشكال هذا التعاطي بأنها لم تجدْ تجاوُباً معها، وذلك في سياق ما قدّمته من قيمة مُضافة بالنسبة لهذه العلوم، ولاسيما من خلال استيعاب الغايات المعرفية من الابستمولوجيا، كما لو أنّ هذه الأخيرة تبقى شاناً فلسفيا ليس إلاّ. هذا مع تسجيلنا أن الأستاذ وقيدي، من خلال تنشيطه حقلَ الابستمولوجيا، وبخاصّة الابستمولوجيا التكوينية، يكون قد ساهم في خدمة علم النفس معرفيا حتى يجد مكانته ضمن العلوم الإنسانية في المغرب كما في الوطن العربي». وبالنظر إلى قيمة أبحاث الأستاذ وقيدي، فقد تُرْجم بعضُها إلى لغات أخرى (الفرنسية والإنجليزية والألمانية). وله إسهاماتٌ في تآليفَ مشتركةٍ، منها مشاركته في الكتاب الجماعيّ الذي أهديت أبحاثه إلى روح الراحل الجابري، أشرف عليه، ونسّق موادَّه د. محمد الداهي، الذي قدّم له بكلمة عَنْوَنَها بعبارة «قطوف دانية»، وعنوانُه «التراث والحداثة في المشروع الفكري لمحمد عابد الجابري»، وقد صدر، قبل أربع سنوات، عن دار التوحيدي للنشر والتوزيع بالرباط، في 216 صفحة من القِطْع المتوسط، موزّعة على ثلاثة أبواب كبرى، ينطوي كلّ واحد منها على خمسة فصول متكاملة. وكانت مشاركة وقيدي فيه حول «التراث في فكر الجابري: الإشكال والمنهج». ويُضاف إلى ما تقدَّمَ من إنتاج علمي وفكري العشراتُ من الدراسات والمقالات التي كتبها وقيدي ونشرها في صحف ومجلات وطنية وعربية، محكّمة وغير محكّمة، ورقية وإلكترونية (موقع «الأوان» مثلا). وهي موادّ ذات مواضيع متنوعة ومتعددة، بعضُها أعاد نشْره في كتبه، وبعضها نشره ثانيةً على محامل رقمية، أو في صفحته الفايسبوكية، رغبةً في إتاحتها للقراء على نطاق أوْسَع… فمن دراساته ومقالاته في مجال الفكر والابستمولوجيا نذكر على سبيل التمثيل لا الحَصْر: «النقد الابستمولوجي: ضرورته ومستوياته» (مجلة «دراسات عربية»، بيروت، ع.10، س.19، أغسطس 1983)، و»الأصل والتكوّن»؛ بحيث قامت هذه المقالة – كما يقول وقيدي – على «دراسة مفهومين متعارضين… ولكنْ عبر دراسة كلٍّ منهما ضمن نَسَقه المَفاهيميّ، وضمن النظر إليهما من حيث هما مؤثران في النظر والعمل الإنسانييْن في وقت واحد. وقد أبرزنا كيف يكون الاختلاف في انطلاق التحليل من هذا المفهوم أو ذاك منعكساً على تصور المجتمع، وعلى الاختلاف في الفهم والعمل المجتمعي معاً .. طريقتان في التحليل النظري، ولكن أيضاً طريقتان في تأسيس العمل داخل المجتمع». ومن مقالاته الفكرية كذلك «التاريخ الذي لم يَنْتهِ بعد»، وقد ناقش فيه أطروحة فرانسيس فوكوياما (F. Fukuyama) التي دافع عنها في كتابه «نهاية التاريخ» (صدرت ترجمته العربية ببيروت، عام 1993، عن مركز الإنماء العربي)، ووقف فيه عند ثلاثة تصورات أو أشكال من التاريخ: التاريخ الذي انتهى، والتاريخ الذي لم ينته بعد، والتاريخ الذي لم يبدأ بعد. وعبّر عن موقفه من قضية هذا المقال، في آخِرِه، قائلاً: «إن نظرية نهاية التاريخ موقف متشائم بالنسبة إلينا، على الأقلّ لأننا لم نكن مساهمين فاعلين في هذه النهاية. ولهذا اسْتَعَضْنا عنها بتاريخٍ لم ينتهِ بعد يمكن أن نساهم في إنهائه، وبتاريخ لم يبدأ بعد يمكن أن نساهم على صعيد الفكر والعمل في بدايته». ومنها أيضاً مقالُه «الفلسفة في يومها العالمي»، الذي أكّد في خِتامه أنّ «للحرية ارتباطاً بالفكر الفلسفي، إذا غابت لا يكون، وإذا لم يوجِّه ذلك الفكر العقل نحوها لا يكون قد أدّى مهمّته في صيغتها المُثلى»… ومقالُه «المغامرة الفكرية للفيلسوف»، الذي أوْضَح فيه وقيدي أن سمة المغامرة ميّزت التفكير الفلسفي على مرّ التاريخ، وأنه لم يكن ديدنه إطلاقاً الانطلاق من مسلّمات ويقينيات، مثلما لم يكن وَكْده الوصول إلى يقينيات لا مجال للشكّ فيها… ومقالُه «الفلسفة واستراتيجية التكوين»، ومقالُه «هل يمكن استعادة السؤال السُّقراطي؟»، الذي نشره أكثر من مرة، ومقالُه «نقد المفاهيم عند العروي: مهمة ابستمولوجية»، الذي خَصَّه بالبحث في النقد الابستمولوجي وضرورته ومستوياته لدى د. عبد الله العروي، الذي ألّف كُتباً عن مفاهيم كبرى؛ من مثل كتابيه القيّميْن «مفهوم التاريخ»، و»مفهوم الدولة»، وهما المفهومان اللذان اكتفى بدراستهما في مقاله هذا. ونسجّل، ها هنا، الوفاء والصداقة الخالصة التي كانت تربط محمد وقيدي بأساتذته وزملائه في العمل أو في البحث الفلسفي والعلمي، والتي تعكسها، بوضوحٍ، المقالاتُ التي كتبها عنهم بمجرّد رحيلهم عن دنيا الناس، وبلوغ خبر نَعْيهم إليه. فقد كتب عن أرگون بعد مماته مقالاً بعنوان «محمد أركون: مشروع نقدي كبير»، استعرض فيه علاقته بالراحل، وخِصاله، ومكانته، ومشروعه الفكري المتميّز. وكتب عن الجابري، بعد رحيله مباشرة، مقالاً بعُنوان «محمد عابد الجابري والفكر النقدي» أو «قيم من حياة الجابري وفِكْره»، تطرّق فيه إلى محطاتٍ من سيرة الراحل، وخصاله، وعلمه، وطروحاته الفلسفية… وكتب عن جسّوس؛ المناضل السياسي اليِساريّ والسوسيولوجي المغربي المعروف، بعد وفاته، مقالَه «درس محمد جسوس: القيم المتجسّدة». وقبل هؤلاء جميعاً، أعَدَّ أكثر من مادّة مكتوبة عن المفكّر المغربي محمد عزيز الحبابي، الذي قال عنه، في خاتمة مقاله «الشخص والحرية والديمقراطية»: «إذا كان الحبابي هو الفيلسوف الذي استأنف الفكر الفلسفي في المغرب، فإنه فعل ذلك بدَفْع التفكير الفلسفي نحو الانتباه إلى مفاهيم الشخص والحرية والديمقراطية. ونرى أن هذه البداية القوية لم تَلْقَ الصّدى الذي تستحقه، وهو ما يجعلنا في محاولةٍ لاحقةٍ نبحث في الشروط التي لم تسمح بوجود ذلك الصدى القويّ». ومن أحدث مقالات وقيدي ذاك الذي كتبه عن الحبابي، ونشَره في العدد الخامس من مجلة «أفكار» المغربية الشهرية (أبريل 2016)، بعنوان «محمد عزيز الحبابي: الفيلسوف والإنسان». ولِوَقيدي في المجال السياسي أبحاثٌ ومقالاتٌ عديدة منشورة ورقيا ورقميا، منها كَمّية مهمّة عن حقوق الإنسان، تصلح وَحْدَها لأنْ يُكوَّن منها كتابٌ مستقلّ غنيّ موضوعاً ومنهجاً. ونكتفي بسرد عناوين مقالاته الحقوقية الآتية: حقوق الشعوب والأمم – منطق حقوق الإنسان – هل مجتمع حقوق الإنسان ممكن؟ – حق الإنسان في الحرية – حقوق الإنسان بين الوضع الدولي والمسؤولية الدولية – حقوق الإنسان بين الشخص والمجتمع والدولة – حقوق الإنسان .. الفجوات بين النصوص والواقع – ما لا يجوز في حق الإنسان، وما يجب في حقه (الدراسة مقسّمة إلى جزأين، تتبَّع فيها وقيدي بنود وثيقة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» (1948)، واستخلص ما فيها من حقوق مميِّزاً بين ما ورد منها بصيغة النهي، وهو ما أسْماه «ما لا يجوز في حق الإنسان»، وبين ما ورد بصيغة الإيجاب، وهو ما سمّاه «ما يجب في حق الإنسان») – نحو تاريخ تراجُعيّ لحقوق الإنسان. وتطرّق عددٌ من مقالاته السياسية إلى موضوع الديمقراطية، من زوايا وجوانب متعددة؛ مثل مقالاته: قيم ديمقراطية (دراسة مطوّلة استشفّ فيها جملة من القيم الديمقراطية من تجربتين سياسيتين عَدَّهُما أنموذجين للممارسة الديمقراطية في الوقت الراهن؛ إحداهما تتمثل في الرئاسيات الفرنسية التي قادت مترشِّحاً، من غير أهل البلد، إلى الفوز برئاسة الجمهورية الفرنسية سنةَ 2007، وهو نيكولا ساركوزي. والثانيةُ تجربةُ الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي قادت مترشحا، ذا أصول إفريقية، إلى حُكم أقوى قوة عالمية، وهو باراكْ أوباما) – أولوية الديمقراطية (يقول وقيدي إن غاية هذه الدراسة تنحصر في «إبراز التعارض الذي عاشته، أو تعيشه، مجتمعات تنبت قيماً سامية ذات طابع إنساني، لكنها بإهمالها للبناء الديمقراطي، أو تأجيلها له بدعوى وجود أولويات أخرى، وضعت موضع السؤال حتى تلك القيم ذاتها. وقد ركّزنا على نموذجين: البناء الاشتراكي للمجتمع، ثم تحقيق غايات قومية. لكننا نعلم أن تحليل هذين النموذجين من المجتمع غير كافٍ، وأنه يمكن النظر في نماذج أخرى للخروج بخُلاصات أوسع وأكثر مصداقية») – إشكالات ديمقراطية (مقالٌ دافع فيه وقيدي عن فكرة رئيسةٍ مفادُها أن المجتمعات الديمقراطية لا تخلو، هي الأخرى، من مشاكل خاصة بطبيعة صيرورتها. ومع ذلك، يظل الخيار الديمقراطي أفضل المُمْكِنات) – الديمقراطية وضرورة الدولة – الديمقراطية، الجهة، والتوازن المجتمعي – ديمقراطية المؤسسات والمؤسسات الديمقراطية… ومن مقالات وقيدي السياسية الأخرى نضيف: تحليل الظاهرة السياسية – حول التعدد السياسي – مفاهيم إيديولوجيا الهيمنة في العالم العربي. وكتب الأستاذ وقيدي مقالات كثيرة في غير المجالين المذكورين .. في الاجتماع والإعلام ونحوهما، ولعل من أبرز الموضوعات التي نالت حظّا مهمّاً من اهتمامه ظاهرة العنف، بأبعادها المختلفة؛ فحَرَّر عنها سلسلة مقالات ودراسات؛ منها: التحليل النفسي لظاهرة العنف (تناول الموضوع من خلال الوقوف عند ثلاث نقط رئيسة هي: العنف والعُدْوانية، والعنف والإحباط، والعنف والاضطرابات السلوكية) – العنف من حيث هو ظاهرة سياسية – العنف في سياقه المجتمعي والسياسي – العنف والإنسان (جريدة «الأيام» المغربية، ع.15، دجنبر 2001. ومما خَلَصَ إليه الكاتب، من بعْدِ تحليل موضوع المقال، المُتَجَلّي في محاولة الإجابة عن سؤال محوريّ استهلّ به مقاله، هو: «ما علاقة العنف بالإنسان؟»، أنّ «الإنسانية لم تطوّر، بفضل العلم والتقنية، ما يوسّع من مجال تحقيق الإنسان لذاته فحَسْبُ، بل طوّرت ما يعمل على تدمير الحياة الإنسانية ذاتها، والتقليل من فُرَص تحصيل الغاية منها») – العنف والإيديولوجيا (جريدة «الأيام»، ع.20، يناير 2002) – الهجرة والعنف (جريدة «الأيام»، ع.24، فبراير 2002) – العنف الإرهابي وحقوق الإنسان – عناصر استراتيجية لمُكافحة العنف الإرهابي. ومن مقالاته الأخرى في النطاق الذي نحن بصدد ذِكْر بعض ما ألّفه فيه وقيدي من مقالات نورد: «جدل الحوار المجتمعي»، و»التنمية البشرية وهدر الطاقات البشرية»، و»الممارسة الإعلامية بين الخبر وتحليله»، و»وسائل الإعلام وثقافة الجُموع». مما سلف يتبيّن أننا، فعْلاً، أمام واحد من أقطاب الدرس الفلسفي والابستمولوجي بالمغرب، اجتهد على أكثر من واجهة فكرية، وخاض غمار مجموعة من المجالات المعرفية؛ فترك فيها رصيدا مهمّا من الدراسات والأبحاث. وبذلك أسهم، بمعية آخرين، في تَبْويء الفكر المغربي المعاصر مكاناً سَنيّا على الصعيد العربي؛ فصار له صدى أقوى في الداخل كما في الخارج، تغيّرت معه نظرة إخواننا المشارقة إلى الحياة الثقافية بالمغرب عامةً في اتجاه الإقرار بتميّز ذلك الفكر في كثير من جوانبه. وقد صرّح بذلك وقيدي أيضاً – في حوارٍ أجري معه قبل أزيد من خمس وعشرين سنة، ونُشر نصُّه في «العلم الثقافي» – قائلاً: «هناك صدى لنَتاجِنا الفلسفي في المشرق العربي، الذي كانت علاقتنا به علاقةَ التلقي فقط».