ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ كانت مصادفةً أَن أكونْ ذَكَراً … ومصادفةً أَن أَرى قمراً شاحباً مثلَ ليمونة يَتحرَّشُ بالساهرات ولم أَجتهدْ كي أَجدْ شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ سِرِّيةً ! (محمود درويش) كان مصادفة أن ولدنا في أجسادنا. الجسد غلافنا الذي يقدمنا إلى العالم بهويات يحددها المجتمع. كيف يتعامل الكاتب/ة مع هذا المجسم الإجباري الذي وُجد فيه؟ هل ساءل يوما علاقته به؟ هل يمكنه أن يختار التدخل فيه لتجميله أو تحويله؟ ثم إن الكاتب/ة، له قدرة اختيار الجسد الذي يكتبه، فيتحول الأمر إلى نوع من المساكنة داخل هويات جنسية أخرى. هل يتدخل الكاتب/ة في هذا الاختيار؟ وهل يسمح للذات وهي تكتب أن تنزاح لستستقر داخل جسد مختلف عن جنسه؟
مفهوم الجسد للإنسان له حضوره والتباساته وإشكالاته على أصعدة الحياة كافة، فكيف إن كان الموضوع المطروح يتعلق بالذّات الكاتبة، الذّات المأزومة التي تترجم جسدها وكيانها، وكل ما حولها منذ عنوان عملها أو نصها باسم يبرز أنوثتها أو ذكورتها، تلك الذّات التي تخلق عوالم جسدية في نص سردي أو شعري؟! كون الجسد يركز ركيزة أساسية فاعلة في أعمال أي كاتب. ولكن بداية دعنا نسأل؟ ما الجسد الذي نعني؟ فللجسد في عوالم الإنسان وإرهاصاته وتبعاته حضور تفاعلي ومؤثر، وسنقتصر حديثنا –هنا- عن الجسد لدى الكاتب، أو كما ينظر إليه الكاتب من خلال أعماله. ويتمثل مفهوم الجسد لدى الكاتب في مسارين: الأول: مفهوم الجسد كإنسان حاله حال البقية المحيطة به، جاء ذكرا أو أنثى دون اختيار منه، بمعنى يجد الإنسان نفسه خلق بيولوجيا بالهيئة الذكورية أو الأنثوية التي رأى نفسه فيها وشبّ عليها، وعليه أن ينسجم معها بفطرته. وهنا تظهر قضية أخرى؛ أن الجسد ليس معني به الجنس، بل هو كائن إنساني يعي ذاته، يعي جنسه، يعي جسده، وهو في هذا يواجه نفسه كإنسان، كائن متفرد بذاته، مستقل بروحه. ويبرز حديثنا هنا عن وعيه بأنه إنسان ينتمي للعالم، ويعيش في مجتمع له وضعية خاصة، وثقافة خاصة. وجسده هذا منزه عن الخطيئة أو منقاد لها، كون الجسد يحمل صفة الطهر والبراءة، لذلك عليه إلا يشوهه فجسده (قلبه وقالبه) وعليه أن يعي أي (الإنسان) أن جسده هو أصل كينونته، التي تتطور وتتنامى مع مسار الزمن، فجسده طفلا، صبيا، شابا، كهلا، وهرما. وكل هذه المراحل تؤثر على تجربته ومراسه في الحياة. الثاني: مفهوم الجسد للكاتب، ونعني هنا، تشكل الجسد بين فكر الكاتب وحبره على الورق. ويتطلب ذلك منه، رسم الشخصيات من خلال الأحداث في قلب الزمان والمكان، فتحضر مجموعة نقاط علينا التوقف عندها، لعل أبرزها: علاقة الكاتب بجسده إن المفهوم المادي للجسد يعني الحركة في الزمان والمكان، أو حضورا ديناميا قائما بالعلاقة بين ذكر وأنثى، ما يعني أن جسدي كامرأة أولا، وككاتبة ثانيا يجعل مني شخصية مختلفة عن شخصية المرأة التي أكتبها؛ وأعني في ذلك أن مفهوم جسدي كامرأة يختلف عن مفهوم جسدي ككاتبة حتى لا يترك ذلك المفهوم أثرا على بنية شخصية المرأة التي أكتب عنها، والتي أريد أن أعالج قضاياها في نصوصي. فالجسد داخل العمل الإبداعي هو العلاقة المادية للحب، والحب عندي أبعد من الجنس، إنه عبور إلى الحرية والحياة؛ وما تحوّل الجسد إلى مجرد جنس سوى تشويه مصدره قادم من سلطة المجتمع القمعية في تجلياتها مع الذكورة. تصوير الجسد في شخصيات الكاتب تتفاوت عند الكاتب ظاهرة الجسد في أعماله، حسب الحدث وثيمة الموضوع وما يتطلبه مسار السرد في ذاك العمل؛ لذلك أرى أن الكاتب الحذق هو الذي يستطيع أن يشكل أجساد شخصياته بناء على أدوارها في العمل الواحد. والكاتب الواعي هو الذي يستطيع تجديد متطلبات الجسد حسب أدوار الشخصية أو الشخصيات في أعمال متنوعة تسبر واقع المجتمع وثقافته؛ ليبتكر أنواعا من متطلبات الجسد بين العفة والرذيلة، بين البراءة والطهر، بين النزاهة والفضيلة، بين السليمة والمشوهة ليدخل في عمق الهامش المجتمعي. لتظهر صفات مختلطة يستمدها من عمق المجتمع كل حسب منظوره الفكري ومستواه الاجتماعي. فنراها تنبثق بعضا من أجساد الشخصيات متمثلة في الخطيئة والندم، وندخل في نزاع الإنسان بين المحرمات والقيود المجتمعية بكل ما يتقبله جسد الإنسان من بساطة وتعقيد بين الجسد والروح في تشابكه مع الاجتماعي والنفسي والثقافي. الجسد بين الكاتب/ الذكر، والكاتبة/أنثى لا شك أن مفهوم جسد المرأة قد ترك أثره الإشكالي لدى أغلب الكتاب. فالجسد يتنوع، وثقافته تتوزع: بالنسبة للكاتب أمامه (أم، زوجة، ابنة، حبيبة، معشوقة) تسير العلاقة بين الذكورة والنوثة من خلال اندماج هذه الأنواع بشكل مرتبك، خاصة إن قاربت الحلال والمحرم المتمثل في: زوجة أو معشوقة أو حبيبة. وكذا الحال بالنسبة للكاتبة هناك (أب، زوج، ابن، حبيب، معشوق) ولكن يبدو الساطور هنا أقوى وأحد فعلا وقولا، من خلال أشجان الذات الكاتبة وخذلانها مجتمعيا وإنسانيا فتبوح في الورق ما لا تستطيع قوله في الحقيقة. تتأسس على قاعدة هذه المعادلة بين السلطوي والجنسي المنطوية على منظومة القمع المزدوج أو القمع المضاد، فتبرز أهمية تحرر الجسد في البحث عن الحب المتمثل عند أغلب الكتاب في ثيمات ما يكتبون من قصص أو روايات أو أشعار أو نصوص مفتوحة، وما يجتهدون فيه عند بناء ثشخصياتهم، وتأجج مشاعرهم. وأخيرا، علينا أن نكون ككتاب متصالحين مع أجسادنا لا ناقمين، حتى يكون خطابنا تنويريا مختلفا، أو حداثيا سابرا. فمسألة تحرير الجسد وتبعاته هامة جدا تتجاوز مستوى المتعة. فالجسد لا جنسا، بل مكونا جذريا في علاقة تحررية بين كائنين متكاملين هما: رجل وامرأة/ ذكر وأنثى علاقة أساسها اليقظة والحلم. * كاتبة من سلطنة عمان