ليس هذا الكتاب (الصحوة: النفوذ اليهودي في الولاياتالمتحدةالأمريكية) مجرد سيرة ذاتية ساحرة لشخص مثير للجدل جداً، بل هو كتاب يتجرأ على مواجهة أكثر القضايا تحدياً في العصر الحديث بأمانة فائقة. ليس كتاب ديفيد ديوك (الصحوة) لضعاف القلوب، أو لأولئك المعتدّين بنظم معتقداتهم، بل لأولئك الذين لا يخشون من أن تحفزهم الحقائق والأفكار التي ربما تضع المعتقدات الراسخة موضع تساؤل. إنه كتاب ثوري تطوري ربما (يهز الحضارة من الأعماق) كما يقول غليد ويتني (Glade Whitney) العالم البارز في علم الوراثة السلوكي. يكرس ديفيد ديوك معظم كتابه لوجهة نظره في الأعراق وتضميناتها المجتمعية والتطورية، ولكنه حكاية مثيرة لرجل عرف بوصفه صورة كاريكاتورية رسمتها له وسائل الإعلام المعادية.
الكتاب الذي بين أيدينا اليوم هو لمفكر فرنسي مشهور كان قد مات عام 1994 عن عمر يناهز الثانية والثمانين. ولكن كتابه بقي صفحات مخطوطة في أدراجه حتى نشر مؤخرا في باريس. وقد قدم له المؤرخ المعروف آلان بيزانسون وهو مدير بحوث في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا في باريس. ويعتبر إحدى الشخصيات اليمينية المرموقة في فرنسا. وأحيانا يوقع مقالاته في جريدة الفيغارو العريقة الواسعة الانتشار. وعموما فهو أكاديمي معروف وذو توجه مسيحي كاثوليكي. وسوف نركز هنا على أفكاره لأنها لا تختلف كثيرا عن جاك إيلّول، على الرغم من أن هذا الأخير بروتستانتي الأصل وعالم لاهوت وعالم اجتماع في آن معا. وكان قد نشر أكثر من ألف مقالة في حياته وثلاثة وخمسين كتابا. وترجمت كتبه إلى أكثر من عشر لغات. وكان أستاذا في جامعة «بوردو» طيلة حياته كلها. وقد اهتم أساسا بنقد الحضارة الحديثة المهتمة فقط بالتكنولوجيا والتي تهمل الأبعاد الإنسانية والروحية والأخلاقية ولا تنشغل إلا بالمردودية الاقتصادية وتراكم الثروة والغنى الى ما لا نهاية. وبالتالي فهيمنة التكنولوجيا على العالم الحديث أدت في رأيه إلى انحسار القيم الإنسانية والروحية العا لية دون أن يعني ذلك إنكار فائدة التقدم التكنولوجي والعلمي. ولكنه طغى وبغى أكثر مما يجب في رأيه. ولكن الشيء المثير للجدل والاستغراب في كتابه الجديد هذا هو أنه يأخذ موقفا مضادا لموقف المستشرق الكبير لويس ماسينيون الذي كان يدعو إلى التقارب مع الإسلام. ومعلوم أن ماسينيون طرح الشعارات الثلاثة التالية: نحن جميعا أبناء النبي إبراهيم الخليل عليه السلام. نحن جميعا من أتباع الديانة التوحيدية، نحن جميعا من أديان الكتاب. والمقصود بجميعا هنا: اليهود، والمسيحيون، والمسلمون. فكلهم ينتسب إلى إبراهيم، وكلهم يؤمن بالتوحيد، ولدى كل منهم كتاب يعتمد عليه: التوراة، أو الإنجيل، أو القرآن. وبالتالي فلماذا كل هذا الصراع والخلاف الدامي على مدار التاريخ؟ لماذا لا نتحاور ولا نتقارب؟ هذا ما كان يقوله ماسينيون باستمرار ويدعو المسيحيين الفرنسيين إليه. ولكن الطرف المتعصب والكاره للإسلام في فرنسا رفض دعوة ماسينيون هذه وركّز على نقاط الخلاف مع الإسلام لا نقاط التقارب واللقاء. وجاك إيلّول وألان بيزانسون ينتميان للأسف الشديد إلى التيار الأخير كما سيتضح من خلال هذا العرض. نقول ذلك على الرغم من أهمية الرجلين جامعيا وأكاديميا بل وأخلاقيا فيما يخص جاك إيلول على الأقل. ومعلوم أنه يوجد تيار مضاد للإسلام في الغرب منذ العصور الوسطى والحروب الصليبية. وهو تيار لم يمت حتى الآن، وإن كان قد ضعف بسبب انتشار العلمانية والحداثة والتنوير في كل أنحاء أوروبا. لنتحدث الآن عن مقدمة ألان بيزانسون الطويلة لهذا الكتاب. فهي لا تقل أهمية عن الكتاب نفسه إن لم تكن أكثر أهمية. فألان بيزانسون مؤرخ مشهور ويكتب من حين لآخر في جريدة «لوفيغارو» كما ذكرنا ويتدخل في الشؤون السياسية والمناقشات الكبرى. وبالتالي فله تأثير على الرأي العام في فرنسا. وهو يشبه إلى حد ما المحافظين الجدد في أميركا ولكن مع تلوين ديني هذه المرة. وقد اتخذ مؤخرا موقفا ضد تركيا أو ضد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي بحجة أنها ذات ثقافة إسلامية تتنافى مع الإرث الثقافي الأوروبي الذي هو مسيحي في جوهره أو يهودي- مسيحي كما يقولون الآن. نلاحظ أن الأوروبيين لم يضمّوا اليهود إليهم إلا مؤخرا، لأن المسيحيين كانوا في الماضي وطيلة قرون عديدة يتهمون اليهود بقتل المسيح. وبالتالي فموقفهم كان سلبيا جدا منهم. ولكن بعد قيام دولة إسرائيل وبعد محرقة اليهود على أيدي النازيين تضافرت عوامل عديدة لكي تقرب بين الطرفين. وهو تقارب تم على حساب الجهة الإسلامية كما يبدو. فقد تشكل تكتل لاهوتي بين اليمين اليهودي واليمين المسيحي من أجل نبذ الإسلام أو عدم الاعتراف به. وازداد هذا التكتل قوة بعد ضربة 11 سبتمبر الإجرامية. وهو ما سنراه للأسف من خلال استعراض محاور هذا الكتاب وأفكاره. يقول ألان بيزانسون في مقدمته لهذا الكتاب: في عام 622 ميلادية ولد رسميا في المدينة (المنوّرة) دين جديد مضاد مباشرة للعقائد الأساسية للمسيحية أي التثليث والتجسيد (تجسّد الله في المسيح)، وخلاص البشر على يد المسيح (أو الافتداء: أي افتداء البشرية من قبل المسيح وعذابه على الصليب ). واليوم قد يصبح أبناء هذا الدين، ولأول مرة في التاريخ، أكثر عددا من المسيحيين بكل طوائفهم ومذاهبهم. فمنذ خمسين سنة حصلت عدة أشياء غيّرت المعطيات والصورة. أوّلها استقلال البلدان الإسلامية من عربية أو غير عربية بعد أن كانت واقعة تحت نير استعمار الإمبراطوريات الانجليزية، والفرنسية، والهولندية، والروسية. لقد نالت كل الدول استقلالها ما عدا الضفة الغربيةالفلسطينية. (أفتح قوسا هنا وأقول لحسن الحظ انه يعترف بوجود شيء اسمه فلسطين..) ثم يقول بيزانسون بأن العامل الثاني الذي قلب المعطيات أو موازين القوى بين الإسلام و المسيحية يكمن في الشيء التالي: حتى بدايات القرن العشرين كانت هناك أقليات مسيحية لا تزال عديدة وضخمة في تركيا، ومصر والشرق الأوسط. ولكنها غيرت دينها واعتنقت الإسلام تحت ضغط الجو المحيط الذي هو إسلامي في غالبيته العظمى، أو أنها طردت كما حصل لليونانيين الأتراك، أو تعرضت للمجازر الضخمة والجماعية كما حصل للأرمن من قبل الأتراك أيضا. وعلى هذا النحو تقلص عدد المسيحيين في الشرق إلى حد كبير. وأما العامل الثالث المستجد فهو مجيء جاليات عربية عديدة واستقرارها في أوروبا. وقد كبرت هذه الجاليات الآن كثيرا وبخاصة في فرنسا، وألمانيا، وانجلترا، وهولندا، وبلجيكا، إلخ. وربما كانت الجالية الإسلامية تشكل الآن 10 % من العدد الإجمالي لسكان فرنسا. وسوف تشكل 20% خلال العشرين سنة القادمة. وهو رقم ضخم ولا يستهان به. وسوف تكون له أبعاد وانعكاسات مستقبلية كثيرة. صحيح أن النسبة أقل في ألمانيا، وانجلترا، والولاياتالمتحدة، ولكنها ذات أهمية أيضا. وهذه التطورات تثير القلق في الغرب حاليا من وجهة نظر ديمغرافية، ثم من جهة عدم القدرة على هضم وتمثل هذه الجاليات بالسرعة اللازمة. ولكن نادرا أن يتحدث أحد عن الجانب الديني من المسألة. في الواقع أن الكنائس المسيحية أي الكاثوليكية والبروتستانتية لا تشعر بالقلق من وجود الإسلام على أراضيها. على العكس فإنها تستقبله بكل ترحاب وتفتح له صدرها. وهذا موقف جديد أو مستجد قياسا إلى الماضي. و لكن أغلبية الشعب لا تشاطرها هذا الترحيب الذي ربما كان ينم عن تضامن بين الأديان ضد العلمانية. وهكذا لم يشعر الفرنسيون إلا وقد استقر الإسلام بينهم وأصبح جزءا كبيرا من مجتمعهم. ولم يشعروا بالقلق إلا مؤخرا بعد أن انفجرت مشكلة الحجاب في المدارس الفرنسية. عندئذ عرفوا أنه توجد مشكلة بالفعل مع الإسلام والمسلمين. في الواقع أن الفرنسيين كانوا يخشون أن يتهموا بالعنصرية أو بالتعصب ضد الأجانب ولذلك فلم يفعلوا شيئا ضد هذا التواجد الكبير للمسلمين على أراضيهم وتركوه ينمو ويزداد على مدار السنوات. فالتيار المسيحي في فرنسا يركّز على نقاط الالتقاء مع الإسلام لا نقاط الاختلاف. وفي صحافته نلاحظ الترحيب بالإسلام والمسلمين. وكثيرا ما تدافع الكنيسة الكاثوليكية عن العمال المغتربين وتهاجم جان ماري لوبن واليمين المتطرف كله الذي يكرههم.