عدنان الصايغ تجربة أدبية وازنة ، و نقطة مضيئة في الخارطة الشعرية العربية الراهنة ، تتسم كتاباته بتلك القدرة الهائلة على التحكم في اللغة و جعلها تتحرك وفق ما برصده لها مبدعها ، يوقن الصايغ أن العالم يمضي إلى قدره المحتوم ، لذلك تجده صافنا «كنسر يخفق في مواجهة العاصفة/بينما ريشه يتناثر في السهوب». عاش الصايغ في أكثر من وطن و تحدث أكثر من لغة، نهل من المعارف الكبرى ، و شهد تجارب الخلق و التأسيس الثقافي و الايديولوجي في العالم العربي ، لذلك اتسم شعره بالعمق و الحكمة والرزانة :رزانة الرجل و رزانة النص.عبر هذا الحوار الذي أجريناه معه نفتح بابا للاقتراب من الصايغ و من عالمه الشعري الشاسع.
– إذا طلبنا منك أن تضع يدك على النقط المضيئة في خارطة الشعرية العربية الآن،هل تستطيع ذلك؟ بمعنى أن تحدد بعض الأسماء العربية في المشرق و المغرب و المهجر التي استطاعت فعلا أن تحرك بقوة عجلة هذا الدولاب الضخم الذي يسمونه الشعر. الكواكب المضيئة في عالمنا الشعري كثيرة، شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً، وهي تظل تدور وتدور في سماواتنا، تضيء ليالينا الكابية باشعاعاتها، لا يوقفها أو يطفئها أحد.. وقد يضيف أحدها للآخر ألقاً وتوهجاً عكس مما يظن البعض ممن لا يعرف قوانين الضوء والابداع.. يستوقفني من الغرب: توماس ترانسترمر، من السويد، هذا الشاعر المدهش، المرشح لنوبل منذ زمن والذي وصفه الشاعر جوزيف برودسكي الحائز على نوبل (1987) بأنه شاعر من الطراز الأول. وقد جمعتني معه قبل ثلاث سنوات أمسية شعرية احتفاءً بشفائه من مرضه، في قاعة المرايا في مدينة مالمو جنوبالسويد. وتلمست فيه قدرة الشعر الهائلة على تطويع الحياة. ورغم أنه مترجم إلى أكثر من 50 لغة في العالم إلاّ أنه للأسف غير مترجم بشكل جيد للغة العربية، وقد اطلعت على ترجمة قام بها الصديق الشاعر علي ناصر كنانة إلا أنها لم تصدر بعد… وخذ أيضاً: غلليفيك وسوران وشيماس هيني ودريك ولكوت، وبورخس، وكافافي وجوزف برودسكي وياروسلاف سيفرت وجيسلاف ميلوش واكتوفيو باث وإديث سودرجران.. والخ وخذ من العرب القدامى: المتنبي، بشار بن برد، أبا نؤاس، الشريف الرضي، الحلاج، المعري، أبا تمام، والخ والخ وخذ من العرب المعاصرين: أدونيس وسعدي يوسف وفاضل العزاوي وأنسي الحاج والجواهري ومحمد الماغوط والخ… الخ – سؤال مستهلك و لكنه ملح: لماذا تكتب؟ لا أراه مستهلكاً بل على العكس، أنه سؤال وجودي مهما استهلكناه يظل عصياً على الإشباع، تماماً كما تقول لماذا نتنفس؟ أو لماذا تعيش؟ أو لماذا تحب؟ والكتابة لا تخرج عن هذه الدائرة السحرية الأبدية.. هذه الأسئلة الأزلية – وإن كثرت الإجابات عليها – إلا أنها تظل دوماً مجال تساؤل جديد تبحث عن جواب جديد وهكذا دواليك.. كسؤال أبي الهول الذي كان يطرحه على العابر فإن لم يحله ألقاه من أعلى الصخرة. أو كجواب الراهب الغامض بودهي دراما الذي حيكت الأساطير عنه عندما سأله امبراطور الصين: من أنت؟ فأجابه: لا أعرف، ثم سافر لينزل في أحد الأديرة حيث قضى بقية حياته يتأمل في جدار أمامه.. وككل الأسئلة الوجودية الأخرى. بالنسبة لي – وباختصار جديد- أنا أكتب لكي أرسم شكل وجودي وحريتي وأصابعي.. أو أنا كابن الملوح قيس وهو يقول: فما أشرفُ الأيفاعَ إلا صبابةً ولا أنشدُ الأشعار إلا تداويا»
– في نظرك، مع الأجيال الجديدة هل ازداد الشعر جمالا أم غدا أكثر خفوتا؟ ازداد سطوعاً عند الشعراء المتجددين والحقيقيين، وازداد خفوتاً عند الكثرة الكاثرة من المقلدين والأدعياء.. فالتكرار والاستسهال أماتا سحر التلقي عند القراء وزادا من سعة الهوة بين المتلقي والشعر.. حتى أنك في بعض الأماسي لا تجد سوى الشاعر لوحده وبضعة أنفار من أصدقائه ومشجعيه، وتجد ديواناً شعرياً لايباع منه أكثر من عشر نسخ كما أخبرني أحد أصحاب دور النشر في عمان. لكن أمسية شعرية لمحمود درويش يحضرها أكثر من 3000 مستمع، وديواناً جديداً للماغوط أو سعدي يوسف أو أدونيس تجد له إقبالاً لافتاً. من هنا، من كل هذا، لك أن ترى في جماله ما شئت وأن تقلب جمراته كما شئت. ولك أن ترى في خفوته ما شئت وأن تنبش في طيات ركامه الآخذة في السمك كما شئت… وهذا هو حال الشعر والفنون قاطبة منذ أن فتح الإنسان الأول وعيه على الحرف والنغم واللون، وحتى يومنا هذا.. ولك أيضاً أن تضيف سبباً آخر للنكوص أو للوهج – على حد سواء – في هذا التنوع الجديد والعجيب والمعقد الذي ولجه الشعر اليوم تحت يافطة الحداثة، فترى في التجارب الجديدة التي ما فتئت الأجيال الجديدة تدشنها طرقاً تتفتق عن طرق للبحث عن الجديد والمبتكر، وتلك لعمري أجمل سمات الشعر اليوم، فما عادت الذائقة العصرية تستهضم المواضيع المباشرة والخطاب الثوري أو التكرار والتقليد مثل ذلك الذي ساد في فترات العصور المظلمة على سبيل المثال، كأن ينظم شاعر قصيدة مخمسة في مناجاة النرجيلة أو صف اللوزينج.. – لك يد في تداول الشعر عبر الأنترنيت ، كيف تنظرون إلى هاته المغامرة؟ – إنها مهمة جميلة وممتعة وخطرة في آن.. خطورتها تكمن في الاستسهال فقط.. وما عدا ذلك فكل ما فيها فاتن ومفيد.. أتمنى أن تتسع شبكة الانترنيت أمام القصيدة على مساحات الوطن العربي كله، وصولاً وتواصلاً مع العالم.. وهذه التجربة أو قل المغامرة أغرتني كثيراً بالضحك على رقيب المطبوعات، الذي لم يعد باستطاعته ملاحقة النص وملاحقتنا – نحن الشعراء المهووسين بمشاكسة العالم – لكن هذه الحرية الجميلة علينا أن نتعلم كيف نحافظ عليها وكيف نتعامل مها، كي لا نذبحها باسم الحرية أيضاً، وهذا هو المحك.. – ماذا تعني لك الكلمات التالية: * السويد: من الملك إلى أصغر شرطي يقفون احتراماً للإنسان. انهم يعملون ليل نهار في خدمة هذا الإنسان الذي يعيش العمر في بلدنا لخدمة الحاكم.. * الكتابة: شهوتي الأبدية التي أراها تزداد مع العمر والتجربة اتقاداً واستكشافاً ولذة * محمد الماغوط: ينسكب الشعر من أردانه الدمشقية أينما التفت. * مرام المصري: إنها مرام المصري. * قاسم حداد: جهات الشعر الأكثر قدرة على استيعاب الآخر.. التقيته لأول مرة في الدوحة قبل عام، كان شفافاً ووديعاً في زمن اصطخاب الشعراء الديوك. * عبد اللطيف اللعبي: في تجاعيد الأسد جلست منتصف التسعينات أحاوره عن الشعر والسجن والتجربة، لصحيفة آخر خبر حيث كنت أعمل في عمان، وأعيد نشره بصحيفة القدس العربي في لندن. * جماعة كركوك: أثرت في الشعر العراقي والعربي كثيراً. يكفي أن منهم سركون بولص وفاضل العزاوي وجان دمو.. وجليل القيسي ومؤيد الراوي، وصلاح فائق، وأنور الغساني، ويوسف الحيدري والأب يوسف سعيد،… . الغارة الشعرية: كم أحب تلك الغارات الشعرية، ولي فيها أصدقاء جميلون.. لكن أين هي الآن؟ هل توقفت عن نشاطاتها؟ وأين حطت مجلتهم رحالها؟..