توفي الكاتب الإسباني كارلوس زافون بعد معاناته مع مرض السرطان، حيث رحل عن دنيانا تاركاً العديد من الكتب المؤثرة من خلال سلسلة «مقبرة الكتب المنسية» والتي جعلته يكرهها رغم أنه كرّس حياته كلها لتأليفها وإخراجها إلى الوجود. بل ما يثير المرء هو كرهه الكبير لحياته ولكل لحظة ونفَسٍ يبعده عن الموت والرحيل عن هذه الدنيا المزعجة والمثيرة للغثيان. هذه الحياة التي كان يراها مجرد خِدع وأكاذيب ومكر لا تستحق الاهتمام والتعب من أجل جعلها أفضل وأجمل. فروايات «متاهة الأرواح»، و»ظل الريح»، و»لعبة الملاك»، و»سجين السماء» تمثل بما لا يدع مجالاً للشك أن تجربته الروائية التي ترتكز على رؤيته النقدية للمجتمع وللحياة عموماً وكيفية التعاطي معها وفهمها فهماً منطقياً بعيداً عن العاطفة وعن التشبث بها والرغبة في البقاء بتطرف. من خلال عنوان السلسلة (مقبرة الكتب المنسية) يبرز لنا منهج كارلوس زافون وفكره المؤسس على تحدي الموت وما يمثله من عناوين وعناصر الإقبار والدفن، لكن هذا كله مرتبط بالمجاز عنده، المجاز الذي يدل على أن الكاتب الإسباني يؤمن بقدرة القراءة والكتابة على خلق نوع من الوعي بأهميتهما في بعث الحياة من جديد واستمرارها في إطار منطق فكري وثقافي يبني الوعي الإنساني بناءً إيجابياً. هذه السلسلة كانت بالنسبة إليه أسئلة عن جدوى الحياة التي لم يجدْ لها جواباً فترك الفرصة لقارئ كتبه أن يبحث عن تلك الأجوبة المقلقة المثيرة للنفس والذات الفانية، حيث يظل القارئ يجري وراء هذه الأجوبة دون الوصول إلى شيء مقنع. إن كتابة زافون كتابة رمزية إيحائية تبحث عن قارئ يستطيع حلّ شيفراتها بامتياز ويصل في النهاية إلى الغاية التي يريد الوصول إليها من كتاباته الروائية. فبرشلونة الحاضرة بقوة في رواياته هي مدينة الحرب والسلام والأحلام والفانتازيا والموت والحياة والهامش والجمال والقبح في الوقت نفسه. المدينة التي ينطلق منها الإنسان ليصل إلى إنسانيته وحقيقته الخفية. في رواية «ظل الريح» يحكي عن رجل مسن يصطحب ابنه إلى مكان مقبرة الكتب الذي يقع أسفل المدينة ولا يعرف بأمره إلا القليل من الناس، حيث كانت تُرمى فيه الكتب التي تمَّ تأليفها ولم تُقرَأْ وعلى من يؤمّ هذه المكتبة/ المقبرة أن يأخذ معه كتاباً ويأتمنه على بقائه إذا خرج منها. أما في رواية «لعبة الملاك» فأحداثها تدور في مدينة برشلونة أيضاً وذلك قبل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية بعقدين من الزمن في أربعينيات القرن العشرين حيث تحكي عن تفاصيل وظروف الحرب والأسباب التي أشعلتها فخلفت نتائج كارثية وضحايا بمئات الآلاف. في حين نجد رواية «سجين السماء» أن زافون يرى أن الصدفة لا محل لها من الإعراب في حياة الناس، وأن كل شيء يقع هو نتيجة لتخطيط مسبق وفكرة معلنة أو غير معلنة من قبل. ومن خلال هذه الرواية نصل معه إلى روايته الأخيرة في مقبرة الكتب المنسية وهي رواية «متاهة الأرواح» التي تحمل العديد من الأفكار المثيرة عن المتاهة، متاهة صعوبة الوصول إلى نتيجة كقارئ رغم قراءتك للأجزاء الثلاثة الأولى من السلسة. إن هذه القدرة الكبيرة على الكتابة الروائية لدى كارلوس زافون والنفَس الطويل فيها، يعكس لدى القارئ والناقد مدى قدرة هذا المبدع الإسباني على جمع الأفكار وترتيبها سردياً ، وبنائها بأسلوب حكائي جميل وقدرة بليغة في الكتابة الروائية الحديثة والمعاصرة. ما يمكن استحضاره في هذه المقالة عن كارلوس زافون هو تلك الأصالة الإبداعية التي عبر فيها عن برشلونة وعن تاريخها وتاريخ إسبانيا عموماً، مازجاً في ذلك بين الكتابة الأدبية الجميلة وبين التاريخ الوطني والمحلي المعبر عن الذاكرة الجمعية والفردية في آنٍ. كل ذلك من خلال إتقانه للرمزية في الكتابة الروائية وقدرته على البوح عن مكنون الذات وعن معاناة شعب خلال فترة تاريخية صعبة تعتبر مرجعية عالمية في الصراع السياسي والعرقي والحروب الأهلية المدمرة للحرث والنسل. إن قارئ روايات كارلوس زافون الممثلة لسلسلة «مقبرة الكتب المنسية» وإنْ وجد نفسه أمام حكايات بسيطة أو حكايات تغلب عليها الهامشية والفردية في الفكرة والموضوع، فإنه سيكتشف مع تطور القراءة وتقدمها بعد قراءة الروايات جميعها أنه أمام روائي يشيّد فكراً إنسانياً مبني على النقد الاجتماعي والسياسي للواقع وللسلطة ومحاكمة للتاريخ، تاريخ مجتمع عرف العديد من الهزات والهزائم والصراعات الحول السلطة والتحكم في رقاب الناس. إنه كاتب يعبر عن روح الإنسان الإسباني، عن روح الإنسان عامة وعن عزلته وصراعه الداخلي على بناء عالم هش وعلى تكريس ذاتٍ مهزوزة في أغلب الأوقات، وفي كل تجربة يمكنه أن يدخل فيها. ورغم معاناة كارلوس زافون في بلاده مع النقد ومع الصحافة الثقافية التي تجاهلته واعتبرت أدبه لا يقدم الكثير للثقافة الإسبانية، ولم تهتم بما كتبه وأبدعه من نصوص متميزة استطاعت أن تترك الأثر الكبير في الوطن العربي وفي العالم كله، حيث ترجمت رواياته إلى عشرات اللغات العالمية، وهذا دليل على أنه كاتب مؤثر في الأدب العالمي استطاع أن يخلق لنفسه قراء من كل أنحاء العالم. المهم هو موهبته الأدبية التي استطاع من خلالها أن يصبح كاتباً عالمياً بدون منازع. وهذا ما جعله يتبوأ المكانة المرموقة في الوطن العربي، بل زادت شهرته بعد ترجمة رواياته الأربعة المكونة لسلسلة «مقبرة الكتب المنسية» بقلم المترجم عبدالمجيد معاوية التي صدرت عن دار الجمل. لقد صنع زافون لبرشلونة مجداً من خلال الكتابة عن أحيائها ومكتباتها وفضاءاتها التاريخية والثقافية وآثارها السياحية بكل تفاصيلها وعناصرها الجذابة للسائح من كل بلدان العالم، السائح الذي يبحث عن الفانتازي والغرائبي والأسطوري. كل هذا وهو بعيد عن موطنه الأصلي، حيث استقر بلوس أنجلوس الأمريكية وعاش فيها حوالي نصف عمره وبها أبدع رواياته وكتبه المتعددة الأفكار والقضايا ونال الجوائز الأدبية الكبرى. ورغم أنه كان يزور إسبانيا ومدينته برشلونة كل عام لكنه كان لا يهتم بالأوساط الثقافية والأدبية في إسبانيا ويتجاهل كل ما يمت بصلة إلى ذلك، باحثاً عن المتعة والسياحة لا غير. وما يثير في أمر كارلوس زافون وعلاقاته بأدباء إسبانياً بالتحديد هو موقفه من المثقفين والكتاب عامة حيث يعتبر أن الوسط الأدبي مبني على النفاق والمصلحة الشخصية والصراعات الأدبية المدمرة للثقافة الوطنية ومصلحة الوطن. فأغلب العلاقات الأدبية لا تثمر إلا الصراع حول المكاسب الشخصية، وهذا الأمر يكاد ينطبق، حسب رأينا، على جميع الأوساط الأدبية في العالم، وليس الأمر متعلقاً بالوسط الأدبي في إسبانيا فحسب. يذكر أن كارلوس زافون وُلد في مدينة برشلونة بإسبانيا عام 1964، وبدأ عمله لكسب المال عن طريق العمل في التسويق، والتي تعتبر مرحلة مهمة من حياته كلها، سواء على المستوى الأدبي أم على المستوى الاجتماعي؛ ففي هذه الفترة الزمنية تمكّن من التعرف على إمكانياته اللا-محدودة في بيع الأشياء وتسويقها بطريقة مربحة، بل استطاع بنجاح أن يعرف أسرار البيع وطرق إقناع المشتري بمدى صلاحية ما يبيعه إياه. بعد ذلك كان له موعد مع الانتقال إلى لوس أنجلوس الأمريكية التي استقر فيها مدة طويلة من حياته منذ 1994، والتي استطاع فيها أن يبدع سيناريوهات لأفلام عديدة مما جعله يدخل عالم السينما من باب الكتابة باللغة الإنجليزية (التي كان يتقنها جيداً) دون حاجته إلى الترجمة من اللغة الإسبانية. لكنه وكروائي خالص، فقد بدأ زافون مشواره الأدبي من خلال الكتابة الروائية في إسبانيا وذلك بكتابته لأول رواية له «أمير الضباب» عام 1993 والتي حققت شهرةً عالمية فى إسبانيا وكسرت حاجز المليون نسخة فى المملكة المتحدة وحدها، ثم استمر زافون فى الكتابة للشباب واليافعين، فكتب «قصر منتصف الليل» عام 1994، و»أضواء سبتمبر» عام 1995، و»مارينا» عام 1996.