السينما هي نتاج للحداثة التي ترمز بدورها إلى «الحاضرة-المدينة»، وكل ما تفترضه عمرانيا من تنظيم هندسي يميزها عن «القرية-البادية». وهذا التنظيم الهندسي الخاص يحدد مجال الصورة الفيلمية وفق التأطير الذي أراده صاحب الفيلم، والتأطير كما نعلم هو أحد أركان التعبير السينمائي، الذي أعطته السينما شكلا ومضمونا جعلا منها نافدة على العالم.فالهدف من هذه المقالة هو استجلاء أهم الملامح التي استقيتها، بالدرجة الأولى، من ذاكرتي البصرية لبعض الأفلام التي تناولت مدينة الدارالبيضاء كتيمة مركزية في بنية الحكي، ولعلني لست في حاجة إلى التنصيص على أن قراءتي لبعض الأفلام دون غيرها انتقائية بمعنى أنني تركت جانبا عددا من تلك التي تعذرت عليمشاهدتها! صور المدينة في السينما لقد تباينت اختيارات المبدعين السينمائيين بين من جعل من فضاء المدينة مجرد ديكور لتأثيث المشاهد واللقطات، وبين من أحلها لأسباب جمالية أو ذاتية مركزا محوريا في صلب العملية الاخراجية: «فريديريكو فلليني» وروما، «جان لوك كودار» وباريس، «ريدلي سكوت» ولوس أنجلس، «جيم جرموش» وطنجة… وفي كل الحالات، ليست المدينة في جميع أصناف الأفلام «واقعية» بمعنى أنها رصد لأمكنة وفضاءات طبيعية تلتقطها الكاميرا دونما تدخل خارجي، لأنها في النهاية تخضع لزاوية نظر المخرج حسب رؤيته الذاتية ونوعية الفيلم: حركي أو رومانسي أو من صنف الخيال العلمي… ف»نيويورك» عند «وودي الن» ليست هي نفسها عند «مارتن سكورسيزي» أو «فرنسيس كوبولا»، نفس الأمر بالنسبة للقاهرة أو الإسكندرية لدى الرواد كصلاح أبو سيف ويوسف شاهين أو لدى الحيل الجديد. فهذا يوسف كمال يعطينا في فيلمه «كارمة» صورتين متناقضتين للقاهرة: الأولى تبدو فيها على شاكلة أرقى المدن المتحضرة، والثانية ترسمها بشكل سوداوي، وذلك تماشيا مع التمزق الذي يعيشه بطل القصة بين اليقظة والحلم، أي بين العالم الطوباوي الذي ينشده والواقع المرير الذي يعيشه. ولكي نتبين مدى بلاغة التأطير في انتاج المعنى، أعرج سريعا على عدة أمثلة لدى بعض كبار المخرجين الدين اشتغلوا على تيمة المدينة: ففي فيلم «تاكسي درايفر»ل»مارتن سكورسيزي»نتابع تفاصيل الحياة اليومية في نيويورك عبر الزجاجة الأمامية للسيارة التي نري من خلالها مختلف أصناف الساكنة،وبذلك تحل محل عيون سائقها الغريب الأطوار والرافض لكل مظاهر الحياة التي لا يرى فيها سوى الوجه المظلم. ولقد كانت فكرة سائق التاكسي طريقة ذكية في كتابة السيناريو لإشراكنا معه كمتفرجين في المسك بالواقع المأساوي لساكنة أصبحت ضحية التمدن اللامتناهي، حيث سيطرة مختلف أنماط السلوك الاجرامي كالدعارة والخيانة الزوجية والشذوذ الجنسي، والمخدرات والجريمة… والتي تنتهي بإقحامنا لا شعوريا في نفس الرغبة في القتل التي دفعته لتنصيب نفسه كمصلح جاء لتطهير المدينة من ساكنتها المنحرفة والفاقدة لقيم الكرامة الإنسانية. في هذا السياق، يصبح من الطبيعي إن يرتبط تطور السينما بتطور المدينة حيث ان حجم التأثيرات الحداثية في جل ميادين العلم والمعرفة أدى إلى التزايد الديمغرافي الذي تمخض عنه ظهور المدينة العملاقة أو «المتروبول»، وهو الأمر الذي وسع إشكالات كيفية تناول تيمة المدينة في السينما. هكذا ففي فيلم «الطيور» الذي أخرجه»ألفريد هتشكوك» سنة 1962، تتنقل بنا الكاميرا بين مدينة «سان فرنسيسكو» وضاحيتها الساحلية «بودي كابي»، ومن خلال هذا التنقل نصادف عدة مقاطع يلعب فيها التأطير دورا رئيسيا في خلق التشويق الذي يعتبر الوصمة الإبداعية المميزة لأعمال هذا المخرج العبقري. ففي خضم الهجوم الكاسح لهذه المخلوقات، وعلى غير طبيعتها، على هذه الضاحية، تتوقف الكاميرا لبرهة في إحدى مرتفعاتها لتؤطر مجموع الفضاء، قبل أن تشرع الطيور في الهبوط بالتدريج،في لقطات مكبرة ومن موقع يجعل المشاهد ينظر بأعينها، كطائرات حرب تتهيأ للهجوم في ميدان الحر بشعارها تدمير كل مظاهر الحياة: البيت والحديقة ومحطة البنزين والإنسان، كما لو أنها تسعى لإفناء عنصر استمرارية الحياة (الاطفال الأبرياء) ومعقل العلم والمعرفة (المدرسة). وقد زودنا «هتشكوك»كما هي عادته مند بداية الفيلم ببعض العناصر والمؤشرات الدالة على ماهية الموضوع حتى يزيد من درجة تشويقنا. فمع انطلاق الفيلم تظهر الطيور الهدامة في حالة هيجان وهي تقوم بتكسير أحرف الجنريك. لحظات بعد ذلك، نشاهد بطلة الفيلم «تيبي هيدرن» ابنة المدينة تسير مزهوة برشاقتها مما يجلب عليها صفير جماعة من الشبان المعجبين، وجميعهم لا ينتبهون إلى الخطر المحلق في السماء حتى ولو بدت «هيدرن» مستغربة لعدد الطيور غير المعتاد. هنا يضعنا «هتشكوك» في حالة من الترقب الذي ينقشع تدريجيا ونحن نتابع في لقطات مؤطرة بحرفية هائلة، الهجمة الأولي عليها وهي تتجه صوب المدينة على مثن قارب صغير ثم بعد ذلك في مشهد سينمائي رائع،نزول الطيور بشكل ترادفي على سياج حديدي في غفلة من البطلة، عن الفاجعة التي تتهيأ خلف ظهرها وهي تجلس على أريكة في انتظار نهاية الدرس… في عشرينيات القرن الماضي أخرج «فريتز لانك» تحفته «مترو بوليس»، مستوحيا نظرته المستقبلية للمدينة والعالم من الانبهار الذي خلفته في نفسيته رحلته الأولى لنيويورك أمام عماراتها الشاهقة «البو يلدينك». وقد اجمع العديد من المحللين على أن الفيلم، يبدو بحكم فراسة صاحبه، كما لو كان حديث الإخراج. ودون أدنى شك فهو من أوائل السينمائيين الذين انتبهوا إلى الآثار السلبية للعمران المفرط في تفاحش التمايز الطبقي، والذي ترجمه في الفيلم عبر تواجد مدينتين: عليا حيث يعيش أصحاب المال والنفوذ، وسفلى تقطنها الأغلبية الفقيرة والمحكومة بخدمة الأولى. على هذا التناقض يؤسس «فريتز لانك»الحبكة الدرامية للفيلم والتي تستند على إيقاع التقابل والتضاد شكلا ومضمونا.بالموازاة يضع لنا خيطا رابطا بين هذين العالمين هو الفتاة «ماريا» ابنة أحد العمال الفقراء التي يقع في حبها «فريدر» ابن أحد ارباب العمل الطغاة الذي لا يتوانى عن محاولة سلبها آدميتها بعد اختطافها وصنع نسخة ألية منها تعمل على شحن العمال ليتمردوا، فيتم تعويضهم بعمال آليين. ولكن عاطفة الحب الإنسانية تنتصر في النهاية على الآلة حين تضع الحبيبين في مواجهة مباشرة مع والد ‘فريدر» الذي يجد نفسه مرغما بدافع العاطفة الأبوية للرضوخ لرغبة ابنه و»ماريا» في عودة العمال وتحسين ظروف اشتغالهم. وقد شكلت هذه النهاية «السعيدة» محط انتقادات شديدة من طرف الشيوعيين الذين رأوا فيها نفيا لحتمية الصراع الطبقي، فيما اعتبرها مؤرخو السينما تمجيدا للفكر النازي الذي يدعو إلى التصالح مع البورجوازية لمصلحة الدولة. طبعا ليس في هذا الطرح ما يثبت توجها ماركسيا لدي «فريتز لانك»ولو أنه عزا الأمر إلى القيمين على الرقابة النازية التي بترت الفيلم أكثر من مرة. ومهما يكن واقع الأمر، فقوة الفيلم ليست في مضمون القصة بقدر ماهي في فرادة كتابته السينمائية التي تمزج بين أسلوب «الباوهاوسالفني» واللغة التعبيرية للمدرسة الألمانية، التي مكنته من تجسيد الصراع بين الخير والشر، بين الغنى والفقر وبين النور والظلام… باستعمال الألوان والديكور والمؤثرات الخاصة بطريقة تعبيرية غير مسبوقة. والحقيقة أن فكرة «الألينة» سبق ل «شارلي شابلن» أن تناولها بأسلوبه الساخر في فيلم «الأزمنة الحديثة» بكثير من الجرأة، مما تسبب في طرده من أمريكا معقل الرأسمال، في حين جاءت معالجتها من طرف «فريتز لانك» غامضة وملتوية لكنها لم تحل دون فراره، قسرا أو خيارا، من ألمانيا نحو أوربا قبل الاستقرار بالولايات المتحدةالأمريكية. يبقى أن بصمة «فريتز لانك» جعلت منه رائدا لسينما الخيال لعلمي لا زالت تطبع الكثير من الأفلام إلى حدود اليوم. هكذا يمكن القول إن سينما الخيال العلمي، تجد جذورها في ضخامة المدينة التي تعجز الطاقة الإدراكية لدى البشر عن احتوائها، نظرا لاستحالة تحقق الوقائع والأحداث التي تدور فيها حكاية الفيلم، على الأقل إلى حدود زمن إنجازه. هناك تجربة فريدة أثبتها أحد أفراد مجموعة « المونتئ بيتون» الشهيرة وهو «تيري جيليام» في فيلمه «برازيل» من إنتاج 1983.فيلم تتوزع فيه حبال السرد بين النهج الرومانسي والواقعي وبين السريالي-العجائبي والتاريخي، ومن ثمة كان الفيلم عبارة عن بوتقة في شكل ايحاءات لعباقرة الأدب والسينما، من كافكا إلى أورويل، من ايزنشتاين إلى فلليني ومن ويلز إلى كبيريك. يحكي الفيلم قصة موظف بسيط يقضي أياما رتيبة ما بين البيت والإدارة في قسم الأرشيف بوزارة الإعلام، إلى أن يجد نفسه، بحكم الصدفة، يتعقب خطى فتاة جميلة كانت تتراءى له في الأحلام. بعد تلقيها تهمة من رجال المباحث، يقرر الموظف تخليصها فيصبح بدوره مطاردا وضحية للتعذيب الذي سيفقده رشده. بهذه الصورة لن تكون المدينة غير سياج كبير ليس للفرد فيه مكان. هكذا يشعرنا «تيري جيليام» كلما تقدمنا في مشاهدة الفيلم أنه يشكل في العمق صرخة إدانة في وجه المجتمعات والأنظمة الشمولية، التي انهارت فيها معاني العلاقات الإنسانية وأفناها الاغتراب والرعب بفعل التمدن العشوائي الذي صير الأفراد أرقاما وعلامات. فالفيلم يحكي عن اليأس المطلق والأفق المسدود لدى أناس أصيبوا في أدنى مقومات الوجود: الحب والحرية. أناس يحق فيهم قول»ألبير كامو»أنهم «لم يفقدوا الأمل بل لا أمل لهم البتة» الدارالبيضاء في السينما المغربية إن ما طبع الدارالبيضاء كاسم صار على لسان كل متفرجي العالم، لا تربطه أية صلة بالمدينة المغربية الحقيقية،وهو فيلم»كازابلانكا» للمخرج الأمريكي»مايكل كورتيز»الذي تم إنتاجه في مستهل الأربعينيات (سنة 1942)والذي قام ببطولته نجمان ساطعان في سماء هوليود آنذاك:»همفري بوكارد» و»انغريد بيركمان». فالفيلم أنتج داخل استديوهات هوليوود نظرا لظروف الحرب، والأدهىهو أن الصورة المقدمة فيه عن المدينة هي أقرب إلى الكليشيهات السائدة لدى المشاهد الغربي حول العالم غير المتحضر، حتى مع افتراض أن في الأمر جوانب عدة من الصواب.وهو نفس الأمر الذي سوف يتكرر أربع سنوات من بعد مع فيلم «ليلة في الدارالبيضاء» أو على الأرجح « ليلة في فندق الدارالبيضاء» للمخرج «أرشي مايو». ولكن ماذا عن الأفلام المنجزة من طرف مخرجين مغاربة؟ وهل صورة الدارالبيضاء التي نراها في أعمالهم تعبر عن ارتباط وجداني بها لسبب من الأسباب أم لأنها ترمز إلى زحف العصرنة في بنية المجتمع التقليدية أم فقط لأنها تحتوي على كل اللوازم اللوجستيكية لصناعة الفيلم؟أنبه هنا أنني لست بصدد السؤال «الأبدي» حول مدى توفر الأشرطة المغربية، القديمة منها والحديثة، على المقومات الصناعية والفنية التي تسمح باعتمادها كأفلام لا كأشرطة مصورة، لكن بالرغم من كل المعيقات التي طالما ندد بها النقاد في حينها، فإن الظرفية السياسية والثقافية العامة للبلاد أفرزت سينمائيين آمنوا عن حق بنبل رسالتهم في النهوض بالذوق الفني للجمهور المغربي. من بين هؤلاء لن أتحدت إلا عن الذين اشتغلوا على الدارالبيضاء كموضوع مباشر أو غير مباشر. وهنا تجب الإشارة إلى أن السينمائي المغربي كان أمينا للوضعية الاجتماعية للبلاد، وبما أن الصورة الطاغية في ذهنية المغربي الفقير حول المدينة هي المستقبل الأفضل، فقد صارت المدينة هي موطن الهجرة لتحقيق هذا الهدف. وهكذا أضحت التيمة الرئيسية في جل أفلام هذه الحقبة هي الهجرة القروية نحو المدينة. وطبعا فكل تعديل في نمط العيش الاجتماعي تتمخض عنه شروخات معنوية وثقافية في نفسية الفرد من أبرز سيماتها الاغتراب والعزلة. وقد كان أول فيلم طرح قضية التصادم بين بيئتين متناقضتين هو «شمس الربيع» للطيف لحلو لسنة 1968 المأخوذ عن قصة للكاتب عبد الكريم غلاب،والذي أدى فيه الدور الرئيسي المرحوم حميدو بنمسعود.يرصد الفيلم يوميات موظف، من أصل قروي، لم يتمكن من التأقلم مع الحياة في الدارالبيضاء،فيغرق في رتابة اليومي لحد الاغتراب لتتحطم آماله فيتحسن عيشه فينتهي به المطاف إلى العودة لقريته.يليهسنة 1977«رماد الزريبة» وهو من إخراج جماعي. وقد كان في رأيي أقوى مشهد فيهيلخص بدقة هذا التصادم حين وصول البدوي (محمد الحبشي) لأول مرة إلى الدارالبيضاءوالذي يجد نفسه،مباشرة بعد نزوله في محطة الحافلات، منبطحا على الأرض بسبب ضربة عدوانية لا يجد لها تفسيرا تلقاها على أيدي ابن المدينة المنتشي بتمدنه (شفيق السحيمي).هكذا يخرج من بساطة القرية إلى قسوة ووحشية الدارالبيضاءالمدينة الغول، بوحشيتها وقساوتها. من البديهي أن يسيطر على جل أفلام هذه الحقبة هاجس الهجرة القروية التي كانت موضوع الساعة.وكانت تحمل في ثناياها علاوة على محاولتها رصد الواقع أطروحات سياسية ولو بنوع من الاحتشام اعتبارا لما كان عليه الوضع في ظل سنوات الجمر والرصاص. وفي هذا السياق يأتي فيلم أحمد المعنوني «آليام اآليام» ليبرزبأسلوب أكثر واقعية التناقض الصارخ بين ثقافتين: قروية ممثلة في ضاحية أولاد زيان، وفرنسية-هولندية مجسدة في الدارالبيضاء التي لم يستطع عبد الواحد (الشخصية الرئيسية في الفيلم) تجاوزها بعد فشل مشروعه في الهجرة خارج البلاد. وتكمن أهمية الفيلم في أنه لم يتوقف عند رصد مظاهر العنف الاجتماعي في تجلياته الظاهرة في اللغة الخشنة والطبيعية بين ذوي الأسرة (العتلة، «الحزقة»…) وفي الطقوس العقديةالمتوارثةكالطريقة البدائية لذبح الأضحية… بل لأنه يربط هذه السلبيات بالمعتقدات التي أسست قيم المغربي عبر التاريخ والمطبوعة بالقسوة والعنف، الاسطورية منها(الجنريك هو عبارة عن لقطات لصور أبطال أغلبهم خرافيين: علي بن أبي طالب، رأس الغول، سيدنا سليمان، عبد القادر الجيلالي …)والدينية (المؤذن يردد «الله أكبر»وما تختزله من شحنة رمزية عن الهيمنة والجبروت…)والكل في تناغم بين مضمون مقطوعة «ناس الغيوان» التي يحمل عنوانها الفيلم، ولقطات المجزرة حيث تنتهي الحياة.في المشهدالأخير نرى زحفا جماعيا يوحي بالتمرد لكل أبناء القرية نحو الكاميرا،أي المدينة، وهو مشهد يحمل أكثر من دلالة ويؤشر على بعد نظر صاحبه إذا ما اعتبرنا ما أضحت عليه الأمور حاليا. لكن المنعطف الأساسي في التعاطي مع المدنية وآثارها على حياة الناس العادية، سيكون مع فيلم «حلاق درب الفقراء» لمحمد الركاب سنة 1982. لقد أسال الكثير من المداد بسبب قدرته على كشف دقائق التفاصيل والمتناقضات في شخصية المغربي، الغارق في سباته غافلا عن عيوبه وراضيا بنمطية عيشه. وقد عمل المخرج على أن يكون أمينا في وصف الحياة بواقعية في هذا الحي الفقير والهامشي، الذي لا يشير بالضرورة إلى الحي البيضاوي المعروف، وهو اختيار أسلوبي في الكتابة السينمائية لم يكن معهودا بعد في ذلك الوقت. مع انطلاق الانفتاح السياسي في بداية التسعينيات ظهرت موجة أفلام ذات جرأة في الطرح، تروم التخلص من معيقات التطور وتشكل ضمنها الدارالبيضاء نموذجا للتحرر والحداثة. وفي هذا الصنف اختار عدد من المخرجين خلخلة بعض مظاهر الجمود،بل والتراجع الفكري والاجتماعي، من خلال أفلام صودرت شعبيا من طرف أقطاب التطرف الديني نسرد من بين مخرجيها، على الأخص، عبد القادر لقطع في «حب في الدارالبيضاء» و»الباب المسدود»و»بيضاوة»، وسعد الشرايبي في «نساء ونساء» واحمد بولان في «ملائكة الشيطان» ونور الدين لخماريفي «كازا نيكرا» ونبيل عيوش في «علي زاوا» وعزيز السالمي في «حجاب الحب» وعبد الحي العراقي في «جناح الهوى»… لكن تجربة مصطفى الدرقاوي تبقى نموذجا خاصا في مسار هذا المخرج الذي ظل يسائل السينما ككتابة ولغة، كفن وأداة. قد يطول بنا استعراض كل أفلامه، والتي قسمها النقاد، عن صواب أو خطأ إلى صنفين: ما قبل «غراميات الحاج الصولدي» التي تميزت فيها أفلامه بانخراطها أساسا في موجة «الفن والتجريب» مثل «أحداث بلا دلالة» و»ليالي شهرزاد الجميلة» و»عنوان مؤقت…» وما بعد هذه المرحلة التي اعتمدت أفلامها السرد الخطي والسلاسة في التعبير، وبالأخص تلك التي كرست علاقته الحميمية والمتشنجة مع الدارالبيضاء. وفي هذا الإطار أتوقف برهة عند فيلم « الدارالبيضاء باي نايت «. إن الكيفية التي تم بها توظيف المدينة من طرف الدرقاوي تقربنا أكثر من عوالم «تاكسي درايفر»، حيث خلف ستار الظلمة والجدران تستباح الدعارة والاتجار في البشر. فالفيلم يتأسس هكذا على قصة كلثوم، الفتاة القاصر التي تضطرها الحاجة (الرغبة في إيجاد المقابل المادي للعملية لجراحية التي يخضع لها أخوها المريض). فتكون رحلتها إلى المدينة بداية انحدار إلى الجحيم تكتشف فيه أن العملة الوحيدة التي تنتظم بها العلاقات الإنسانية وسط مجتمع فقد كل شيء، ماديا ومعنويا هي المال والجسد.لكن بالرغم من الصورة القاتمة التي يرسمها مصطفى الدرقاوي عن الدارالبيضاء، فانه لا ينجرف نحو العدمية أو يفقد الأمل في الجيل الحاضر، فكلثوم تخرج من محنتها طاهرة (لحظة الاغتسال في النافورة) بل وتتخلى عن (المال الحرام) الذي جنته خلال الليلة المشؤومة التي سرقت فيها كرامتها. من ناحية أخرى، لا يمكن ذكر الدارالبيضاء دون أن يطفو على السطح اسم عبد القادرلقطع كأكثر السينمائيين ارتباطا بها.فهو من تماهى معها لحد جعلها، بذاتها ولذاتها، عنوانا للحداثةولذلك لم يتوانى في كسر الطابوهات الجاثمة، بحكم التقاليد المجتمعية البائدة، على علاقات الحب والغرام بين الأفراد. فلم يكن غريبا ان يقابل عرض فيلمه «حب في الدار البيضاْء» سنة 1992 بهجوم هستيري محموم، من قبل من اعتقدوا أنهم القيمون على النظام الأخلاقي في البلاد. فاذا كانت الأفلام المؤسسة لسينما وطنية لم تر في المدينة -وهو أمر طبيعي إلى حد ما-سوى موطن هجرة للقروي الباحث عن عمل، فان لقطع هو أول من تبصر بحمولة التغييرات الاجتماعية القادمة حتما، لأنه بكل بساطة ابن عصره. فعلى نقيض غيره، لم يتعامل أخلاقيا مع المدينة كفضاء بدون قيود تلزم بدونته، بل كمرحلة في تطورحتمي للمجتمع يقتضي تمدين القرية. لقد ظل اهتمام لقطع في جل أفلامه، وخاصة تلاتيه: «حب في الدارالبيضاء» و»بيضاوة» و»الباب المسدود»، منصبا على التنديد بكل أشكال السلطة القمعية الظاهرة منها والمستبطنة التي تكبح كل جنوح نحو التحرر والعصرنة كحرية المرأة وحرية المعتقد والحق في الاختلاف، والتسامح … والتي ركزها ميكروسكوبيا في الجانب العاطفي للعلاقات الإنسانية كتعبير عن الحرية الفردية. وبحكم ثقافته في ميدان العلوم الإنسانية،فقد عمل على طرح هذه القضايا دون الارتكان للطرق المباشرة والمستفزة التي تثير الغرائز الفطرية لدى المشاهد كما نجدها في أفلام مثل «لحظة ظلام» و»الزين اللي فيك»، ومع ذلك فإنه لم يسلم من الانفعال المبالغ فيه من قبل أصحاب الحسابات السياسية الضيقة. في «حب في الدارالبيضاء» تتأسس الحكاية على علاقة حميمية تجمع سلوى التلميذة التي لاتزال في مقتبل العمر «بجليل»، الرجل الخمسيني، فيما تكتمل الحلقة الثلاثية بدخول ابنه الشاب «نجيب»، الرسام الذي اتخذ سلوى كنموذج لرسومه، وما سوف يتولد عن هذا الدخول من تصادمات ظاهرة ودفينة، يكون مآلها بتر العلاقة الغرامية من طرف سلوى بعدما تيقنت من عجز «جليل» عن التغلب على رواسب ثقافته المحافظة. إن التعارض القائم طوال الفيلم بين القرية والمدينة، يتمثله لقطع هنا في «حي الأحباس» عبر تقابل البناء المعماري في شكليه:القديم والعصري. في «الباب المسدود» يحيلنا لقطع على نفس فكرة التعارض بين التراث والحداثة، من خلال التحاق المعلم «سعيد»بالقسم الذي تم تعيينه فيه في منطقة صحراوية جنوب المغرب، هناك حيث تشكل الأمازيغية اللغة الأم للساكنة، والتي لا يتقنها سعيد، فتنشأ لديه أول صدمة وهي الإحساس بالعزلة والغربة داخل بيئة اجتماعية يجهل جزءا كبيرا من مكوناتها. بعد هذا المسح المقتضب لأهم التمثلات السينمائية للمدينة يعاودنا السؤال البديهي التالي: هل لدينا فعلا مدينة بالمعني الأنثروبولوجي والسوسيولوجي أم أننا فقط أمام تجمعات سكنية تنتفي فيها مواصفات المواطنة، أي أننا نعيش في ظل قبيلة كبرى نسميها خطأ أو اعتباطا المدينة؟