قال عنه مرة، صديقه الكبير، المناضل والمسؤول الجزائري، المبعوث الأممي الأسبق إلى سورية، الأستاذ الأخضر الإبراهيمي: «إن اليوسفي، يلوي لسانه سبع مرات في فمه قبل الكلام. وهو أشبه ببوذي، ومن الرجال الذي تتمنى النساء أن تضعن رؤوسهن على كتفه». هنا، بشكل بليغ، يكاد يلخص الأخضر الإبراهيمي، حقيقة الزعيم الإتحادي، الوطني والمقاوم المغربي الكبير عبد الرحمن اليوسفي. فالرجل، سلوكيا، لا يمكن التردد في تصنيفه ضمن خانة فلسفة كونفوشيوس، المتأسسة على مبدأ «الزن» الهادئة، العالية الوقار. ولعل ما يعزز مقولة تلك الشخصية الوطنية الجزائرية، أنك حين تزور شقة اليوسفي بحي بوركون بالدارالبيضاء، تكتشف أن أغلب ديكوراتها وتفاصيلها آسيوية صينية ويابانية وكورية. الحقيقة، إن السر كامن في الفضاء الذي تشرب فيه دروس الحياة البكر، مدينته طنجة. إذ هناك، تشرب الرجل باكرا، معنى ثقافة الإنفتاح على العالم وعلى الآخرين، بتعدد أجناسهم وثقافاتهم ودياناتهم. هو الذي رأى النور فيها، يوم 8 مارس 1924، بحي الدرادب، من أبوين ينحدران من ذات القرية جنوب مدينة البوغاز. هذا يعني أن اليوسفي، قد فتح عينيه في مغرب، بدأ يعيش أهله وأبناؤه تحولات هائلة، دفعهم إليها اصطخاب المصالح الدولية، التي شاء القدر، وشاء الموقع الجيو- ستراتيجي للمغرب، أن تكون البلاد فضاء لتدافع وتنافس عالمي، بين كل القوى الكبرى في عالم نهاية القرن 19 وبداية القرن 20، حيث كل كان يريد له فيه موقع قدم ونصيبا من المصالح والفوائد. بالتالي، هناك، في أقصى نقطة من شمال المغرب، وفي أقصى نقطة للقارة الإفريقية، وهي تطل على قارة أوربا، في مفترق طرق بين بحرين (المحيط الأطلسي والأبيض المتوسط)، تشكلت الملامح البكر لشخصية اليوسفي، التي ستطبع حياته إلى الأبد، وستنحث فيه معنى سلوكيا أطر وجوده كمناضل وكرجل سياسة وكمقاوم. هذا كله، جعل بطلنا، يقتنع باكرا، أن كل حقائق العالم نسبية، وأن الأحكام الإطلاقية لا تقود سوى إلى الخطل والتيه. فكبر على مكرمة اليقين، أن على المرء أن لا يصدر الأحكام سوى بعد أن يقلبها من أوجهها المتعددة، حتى يقلل من أسباب الإساءة إلى الحقيقة كما هي. ها هنا، يكمن السر، في تلك الطبيعة التي ميزت اليوسفي، دوما، وهي مكرمة الإنصات، بالساعات، وهو يكتفي وأنت تستعرض أمامه الوقائع والأحداث، وتحاول بناء ترسانة صلبة، لإقناعه بوجهة نظرك، بأن يمسد بأصابع يده اليسرى الجزء اللين من أسفل أذنه، مكتفيا مرة تلو والأخرى، لابتسامة أن تغادر فمه، دون أن تتيقن هل هو راض أم إنه على العكس من ذلك منزعج. مثلما أنه في الكثير من الحالات، يضع يده اليمنى على يده اليسرى فوق بطنه، مثل جالس في حضرة صوفية ويترك لك كل المساحات لتقول كلمتك، قبل أن يختار جملة قفل من كل ترسانة خطابك، ويبدأ من خلالها تفكيك بنية مداخلتك أمامه. ومما أكده مرة مسؤول كبير بوزارة الداخلية المغربية، سنة 1996، زمن الإجتماعات الماراطونية للإعداد للمثياق الأخلاقي لتنظيم الإنتخابات، وتعديل القوانين المنظمة لها، كيف أنهم وهم الشباب لم يستطيعوا أبدا مجاراة الرجل في صبره وجلوسه بالساعات الطوال، يناقش أدق التفاصيل، ويتوقف عند هذه الجملة أو تلك، وعند هذا المعنى القانوني أو ذاك، إلى ساعات متأخرة من الليل. كانوا كلهم يتعبون ويضجرون ويملون، إلا اليوسفي، فهو الصلب الوحيد فيهم، والأكثر حيوية وشبابا، حتى وهو قد جاوز السبعين من عمره المديد، حينها. لقد ولد عبد الرحمن اليوسفي، من أبوين ينحدران من قرية صغيرة من قرى منطقة الفحص، غير البعيدة عن طنجة سوى ب 25 كلمترا. كان والده، مثل السائد في الثقافة السلوكية لأغلب العائلات المغربية، حينها رجلا مزواجا، هو الذي غادر باكرا بيت عائلته، للهجرة إلى طنجة، التي تمكن فيها من اكتساب معارف لغوية متعددة، مكنته بفضل ذكائه، في أن يهاجر إلى جبل طارق ويعمل ترجمانا بإحدى السفارات الأجنبية هناك. قبل أن يعود إلى مدينة البوغاز، ويعين من قبل نائب السلطان مولاي يوسف، الفقيه محمد بن عبد الكريم التازي، مقدما بالمدينة، مما مكنه من أن يحوز سلطة ومكانة محترمة بين ساكنتها، هو الذي أصبح مكتبه مزارا للعديد من المواطنين المغاربة والأجانب لقضاء أغراض إدارية أو للفصل في العديد من المنازعات الطارئة اليومية. كما يقول دوما سي عبد الرحمن: «والدي يعتبر عمليا من أول المهاجرين المغاربة إلى الخارج في بداية القرن 20، مثلما أنه يمكن تصنيفه بعد ذلك ضمن خانة البورجوازية الطنجية». بفضل ما كان لذلك المنصب حينها من مكانة اجتماعية ودور إداري مؤثر وكبير ضمن شبكة التنظيم الإداري للمغرب في صيغته القديمة. سيدفع وعي والده المديني هذا، به إلى الحرص على تسجيل أبنائه للدراسة في المدارس العصرية، مما مكن سي عبد الرحمن من ولوج المدرسة الإبتدائية بطنجة، وتدرجه في أقسامها ومستوياتها حتى حصوله على الشهادة الإبتدائية سنة 1936. أي ذات السنة التي اندلعت فيها الحرب الأهلية الإسبانية بين الجمهوريين والملكيين، والتي كانت طنجة فضاء للتفاعل يوميا مع تبعات وتطورات وتجاذبات القضية الإسبانية. دون إغفال أثر ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، التي تم القضاء عليها باستعمال الأسلحة الكيماوية لأول مرة في تاريخ البشرية، عشر سنوات قبل ذلك. ولأن طنجة، كانت هي عاصمة المغرب الديبلوماسية لقرون، حيث هناك كان يقيم كل سفراء الدول الأجنبية، وكان لمنصب نائب السلطان مكانة معتبرة عالية، ترقى إلى مستوى وزير الخارجية، لأنه المفاوض المؤهل من قبل السلطة المركزية لمناقشة كل القضايا الديبلوماسية مع تلك السفارات، فإن طنجة، كانت بوابة المغرب الأكبر على العالم. وإذا أضيف إلى ذلك، أنها أهم وأول مدينة مغربية صدرت فيها صحف مغربية بكل اللغات (عربية، إنجليزية، فرنسية، إسبانية وألمانية)، ندرك بيسر حجم الأثر النافذ الذي كان للفضاء الذي فتح فيه الطفل عبد الرحمان اليوسفي عينيه، وكيف شحذت شخصيته سلوكيا بالإنفتاح على كل الثقافات والأجناس والقيم. وهذا مما يغني شخصية أي فرد في فضاء تواصلي تفاعلي غني مماثل. عائليا، دائما، يحكي اليوسفي دوما، في لقاءات خاصة معه ببيته، قصة شقيقه الأكبر عبد السلام اليوسفي، المجهول المصير إلى اليوم (تفاصيل واقعة شقيقه الأكبر هي التي دفعته في مكان ما إلى أن ينتصر دوما لحقوق الإنسان في معناها العالمي والقانوني). إذ، مما يورده سي عبد الرحمان، أن شقيقه ذاك، كان شابا منطلقا، قوي الشكيمة، جريئا، له وعي سياسي ونقابي، عازفا موسيقيا على إحدى الآلات الوترية، وأنه لم يكن يتردد في الإفصاح عن مواقفه الوطنية والسياسية. وشاء القدر أن يعبر دوما عن مناصرته للحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، في أماكن عامة بطنجة، وأنه ضد كل الديكتاتوريات العسكرية وضمنها ديكتاتورية الجنرال فرانكو بإسبانيا، فالتقطته أعين البوليس السياسي الإسباني في بداية الأربعينات، حين أصبحت مدريد هي المتحكمة الأكبر في طنجة حينها، بسبب تراجع نفوذ باقي القوى العالمية الكبرى، مثل فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وتلقيها دعما كبيرا من ألمانيا النازية. وكانت النتيجة هي اختطافه واعتقاله ونقله إلى مكان مجهول. سنوات بعد اختطافه، أكد لي مرة الأستاذ اليوسفي، سيصادف أحد الأقارب المتعاملين مع الإسبان شقيقه عبد السلام وهو في وضعية صعبة، ضمن مجموعة من السجناء ينجزون أعمالا شاقة بإحدى الجزر الجعفرية. فتأكدت العائلة لأول مرة أن ابنها معتقل عند الإسبان، لكنه كان آخر خبر لهم عنه وهو حي. إلى أين انتهى مصيره، كيف توفي وأين دفن؟. لا أحد يملك الجواب إلى اليوم. مما يجعل عائلة سي عبد الرحمان واحدة من العائلات المغربية، التي لها ابن مجهول المصير لأسباب سياسية ووطنية، منذ الأربعينات. ولعل المثير، في قصة شقيقه عبد السلام اليوسفي، أن سي عبد الرحمن لم يزايد بها أبدا، على مدى مساره النضالي والحقوقي والوطني والسياسي. شقيق آخر لسي عبد الرحمن، سيكون له أثر آخر على شخصيته، وعلى انفتاحه على مجال الصحافة، هو شقيقه مصطفى اليوسفي، الذي اشتغل في مجال التدريس وكان قبل عاملا في إحدى الجرائد والمطابع بطنجة. إذ، بفضل ما كان يحمله معه يوميا من جرائد مختلفة بلغات متعددة، عربية وفرنسية وإسبانية وإنجليزية، سيجد الطفل عبد الرحمن أمامه دوما مائدة دسمة وغنية من الصحف، التي كان يطل على بعض مقالاتها، قبل أن تقع له حادثة طريفة كانت السبب في تحدي إدمانه قراءة الجرائد والصحافة عموما (إلى اليوم، اليوسفي قارئ نهم للجرائد والمجلات ومستمع دؤوب للإذاعات ويفاجئني دوما بحجم معلوماته واطلاعه على مختلف المواقع الإخبارية الإلكترونية). تفاصيل الحادثة، تلك، التي رواها بتفصيل للزميل حميد برادة، تفيد أن والده مرة في بيتهم بطنجة سنة 1936، بعد حصول اليوسفي على الشهادة الإبتدائية، مر بالصدفة قربه وهو يقرأ إحدى الجرائد الأجنبية، فطلب منه أن يقرأ له بصوت مسموع المقالة التي يتصفحها، فشرع سي عبد الرحمن يتهجأ العنوان، فأخطأ في إسم الجنرال فرانكو، حيث التبس عليه الأمر بين الإسم وفرنسا. فضحك منه والده، وقال له «هل هذا ما تعلمته لتحصل على تلك الشهادة الإبتدائية». ذلك الجواب سيؤثر في الطفل عبد الحمن اليوسفي حينها، وقرر أن يركب التحدي ليطوع كل معلومات الصحف. وبرع في ذلك عاليا، قبل أن يصبح واحدا من المسؤولين المسيرين لكبريات الصحف المغربية منذ 1959. بعد حصوله على الشهادة الإبتدائية، شرع والده في البحث له عن منحة لإتمام دراسته الإعدادية بالمنطقة الفرنسية. وهي المنحة التي لم يحصل عليها سوى سنة بعد ذلك. وأيضا حصوله على جواز سفر يسمح له بالتنقل بين مختلف مناطق المغرب الثلاث، التي توزعها الإستعمار، وهي طنجة ذات التسيير المشترك دوليا، ثم المنطقة الإسبانية بالشمال والجنوب، والمنطقة الفرنسية بالوسط. وكانت الوجهة هي مدينة مراكش سنة 1937، وهو بالكاد قد أكمل ربيعه 13، حيث سجل بداخلية إعدادية سيدي محمد، والتي قضى بها أربع سنوات حتى سنة 1942. ومما يحكيه سي عبد الرحمن عن تلك المرحلة من عمره، أنها كانت فترة تفتق وعيه الوطني، بسبب الصدمة التي واجهته بمراكش بسبب العنصرية الطافحة للإستعمار الفرنسي، والتمييز المشين الممارس من قبله، بين المعمرين والمغاربة. كان الأمر صدمة له، هو القادم من فضاء مغربي آخر، منفتح، وأسباب الحياة فيه أكثر سلاسة، مثل طنجة. مما دفعه لأن يصبح واحدا من تلامذة إعدادية سيدي محمد المتوثبين سياسيا ووطنيا وشارك في العديد من الإضرابات داخلها، وأصبح من قادة الخلايا التلاميذية بداخليتها. وفي تلك الإعدادية سيكون من أصدقائه ورفاقه، المقربين، تلميذ مراكشي إسمه امحمد بوستة، الذي يصغره بسنة واحدة، وقليلون هم الذين يعرفون السر في قوة العلاقة بين الرجلين، فهي علاقة وطنية ممتدة، منذ الزمن التلاميذي البكر في نهاية الثلاثينات من القرن الماضي. سنة 1942، سيغادر اليوسفي مراكش، بعد أن قاد إضرابا ضد إدارة المؤسسة، انتهى بمواجهة عنيفة مع مديرها، ليلتحق بثانوية مولاي يوسف بالرباط. وهناك ستقتنصه عين زعيم سياسي وطني شاب، إسمه المهدي بنبركة، الذي قرر جعله تحت رعايته السياسية والتنظيمية، وهو من سيستقطبه إلى «الحزب الوطني» الذي أصبح ابتداء من يناير 1944 «حزب الإستقلال». وأمامه سيؤدي اليوسفي القسم على القرآن للإلتحاق بصفوف الحزب، ويصبح مسؤولا عن إحدى الخلايا الحزبية التلاميذية بثلك الثانوية، التي تتلقى المناشير السياسية، تناقشها وتعيد نسخها وتوزيعها على نطاق واسع بين مختلف التلاميذ. بل إنهم سينجحون في ربط الصلة مع المدرسة المولوية داخل القصر الملكي المجاور لثانويتهم، عبر باب السفراء، وشرعوا في تزويد التلاميذ داخلها بنسخ من تلك المناشير، وكان من ضمن أولئك التلاميذ ولي العهد الأمير مولاي الحسن. مباشرة، بعد تقديم وثيقة المطالبة بالإستقلال يوم 11 يناير 1944، وما تلاها من اعتقال لقيادة الحركة الوطنية، سيكون اليوسفي في مقدمة مؤطري تلاميذ ثانوية مولاي يوسف بالرباط، للمشاركة في مظاهرات يوم 29 يناير 1944، التي تم التنسيق سريا لتنفيذها في كامل التراب الوطني. وكانت النتيجة أحداث مدينة سلا التي سقط فيه قتلى كثر، بسبب قوة المظاهرة التي تزعمها حينها شاب آخر، رجل تعليم، إسمه عبد الرحيم بوعبيد، بتأطير مباشر من المسؤول الحزبي والوطني الكبير أبوبكر القادري. ستتطور المواجهة بالرباط، تلاميذيا، انتهت بمواجهة عنيفة مع مدير المؤسسة، انتهت بإصابته بكسر في ذراعه، ما جعل التلميذ عبد الرحمان اليوسفي يغادر الثانوية، ويصدر قرار بفصله نهائيا من الدراسة. حينها، كما حكى لي أكثر من مرة سي عبد الرحمن، سيدخل ما أسماه «مرحلة تشرد» (يقولها دوما ضاحكا)، جعلته يتنقل للإقامة عند عدد من زملائه في الدراسة ممن كانوا معه في مراكش أو الرباط، والتي قادته إلى مدن آسفيوالجديدة وأبي الجعد، حتى مطلع سنة 1945، حيث سيقرر التوجه إلى المدينة العمالية الجديدة، الدارالبيضاء. في إحدى لقاءاتي الخاصة معه، بشقته بالدارالبيضاء، على هامش تطورات ارتبطت بفريق «الإتحاد البيضاوي» (الطاس) الذي هو من أسسه، سنة 2012، ليس هنا مجال التفصيل فيها، سيحكي لي سي عبد الرحمان في سياق استعادته لقصة تأسيس ذلك الفريق الرياضي، ضمن خطة وطنية حزبية حينها لمواجهة الإستعمار، تتأسس على خيار الإعتماد على واجهات متعددة لتأطير المغاربة لتسليحهم بالوعي الوطني لمواجهة المستعمر وتجاوز أسباب التخلف أيضا (وهي واجهات العمل التنظيمي الحزبي ومحاربة الأمية والتخييم والعمل الجمعوي والإعلام والرياضة)، أكد لي قائلا: «الحقيقة أنه أسسنا فريقين وليس فريقا واحدا فقط. هما فريق كوزيمار العمالي بحي كوزيمار، وفريق الإتحاد بالحي المحمدي. كنت قد طردت مع عدد من التلاميذ الداخليين من ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وأنا أهيئ للباكالوريا، بعد خروجنا في مظاهرة مؤيدة لوثيقة 11 يناير 1944، يوم 29 يناير 1944، وحاول مدير الثانوية روكس، منعنا، فدفعنا الباب بقوة، وسقط هو أرضا وأصيب بكسر في يده. كانت تلك المظاهرة قد تمت بالتنسيق مع مدن أخرى مغربية في نفس اليوم، منها المظاهرة الشهيرة بسلا التي تزعمها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، والتي كانت بسبب اعتقال قيادة الحزب في اللجنة التنفيذية ومن نتائجها اتساع حجم الإعتقالات. بالنسبة لنا نحن في ثانوية مولاي يوسف، كان الشهيد المهدي بنبركة هو المسؤول عن تأطيرنا وبفضله التحقنا ب «الحزب الوطني» قبل أن يصبح اسمه «حزب الإستقلال». المهم بعد عودتنا إلى الثانوية أغلقت دوننا الأبواب وقيل لنا بالحرف: «اخترتم أن تخرجوا، فابقوا في الخارج». اتجهنا بداية، وكان بيننا تلاميذ من مختلف المستويات، حتى من صغار التلاميذ، إلى مسجد السنة المجاور، قبل أن تتدخل قيادة الحزب بالرباطوسلا لتوزيع أغلب التلاميذ على عائلات وطنية عدة بالرباطوسلا. بالنسبة لي، لم يكن ممكنا العودة إلى مدينتي طنجة، لأنني لا أتوفر على الفيزا. فكان أن بقيت أتنقل بين بيوت عدد من زملائي الذين كانوا معي في داخلية مولاي يوسف، أقيم عند هذا وذاك، أياما تطول وتقصر، حسب الظروف. كنت عمليا شبه مشرد (يضحك الأستاذ اليوسفي)، ولقد تجولت بين مدن أبي الجعد والجديدةوآسفي. حين وصلت إلى الدارالبيضاء، بقيت على نفس الحال، حتى اتصل بي ذات يوم الوطني بوشتى الجامعي، وبنجيلالي بناني، والحاج محمد الباعمراني (كان موزع أفلام) والفقيه الحمداوي وبناصر حركات، فدبروا لي مسكنا عند المقاوم حميدو الوطني بدرب مارتيني بدرب ليهودي. فاكتشفت أن عائلته تسكن في السطح، بينما وسط الدار الذي كنت أنزل به مخصص للإجتماعات الحزبية. نفس الأمر اكتشفته أيضا في بيت الشهيد إبراهيم الروداني، حيث أفراد العائلة يسكنون في السطح في حر الشمس وبرد الشتاء، ووسط الدار للنضال الحزبي والوطني. المهم كلفت بمهمة الإشراف على خلايا عدة بدرب السلطان، وكان يسكن جار حميدو الوطني، المربي ورجل التعليم بوزيان، الذي ربطت به علاقة قوية. مثلما كلفت بالذهاب إلى معمل السكر كوزيمار بالحي الصناعي لتأطير العمال من خلال محاربة الأمية. اقترح العمال الأمر على مدير المصنع، فقبل. فابتدأت العمل في أواخر يوليوز 1944. وشكلنا أول خلية هناك وتفرعت عنها في ما بعد خلايا متعددة. المهم كنت أدرس أولئك العمال وكذا أبنائهم، بعد أن طلبوا مني ذلك، اللغة الفرنسية والحساب. وقبل نهاية السنة اجتزت الباكالوريا الحرة في الدورة الأولى، أما الدورة الثانية فقد اجتزتها بليسي ليوطي الذي تمكنت من التسجيل فيه ونجحت، فعينت للتدريس بمدرسة حرة وطنية لا تزال قائمة إلى اليوم قرب جامع ولد الحمرا قبالة ميناء الدارالبيضاء ومقر الإقامة العامة الفرنسية (المدرسة هي اليوم مدرسة فاطمة الفهرية. والبناية هي مقر نقابة الإتحاد المغربي للشغل). لكن، لابد من أن أشير لأمر بخصوص الخلية الأولى تلك، بمعمل كوزيمار، لقد قررنا أن نجعل عددا من أعضائها مخبرين لدى المراقب المدني الفرنسي الذي تم تعيينه بسوق الجملة للخضر، «مارشي كريو» (ضحك اليوسفي طويلا). كان السبب هو أن السلطات الإستعمارية، فطنت أن الحركة الوطنية بدأت التغلغل في الحي العمالي والصناعي بعين السبع والحي المحمدي، فقررت تخصيص مراقب مدني خاص بالحي الصناعي مهمته تتبع بدقة ما يجري هناك يوميا. كان هو في حاجة لمخبرين لتسهيل مهمته، فقلنا مع أنفسنا أنه أفضل أن نعطيه نحن المخبرين لكي نتحكم بالتالي في جزء من شبكته (ضحك مرة ثانية عميقا). فأصبحنا نحن من يتحكم فيه لأربع سنوات كاملة. لكن، بعد مدة شك العمال أن فقيه حي كوزيمار مخبر عند ذات المقيم العام، فطلبوا مقابلة المدير وأخبروه أنهم لم يعودوا في حاجة لذلك الفقيه، لأنهم اكتشفوا أن صلاتهم وراءه، من قبل، كلها باطلة لأنه أعزب، وأنه في الشرع الإسلامي واجب أن يكون الإمام متزوجا. فقبل المدير دفعهم الشرعي ذاك، وأكد لهم أنه سيبحث عن فقيه متزوج. اتصل ذلك المدير بالفقيه الزموري، وهو قاض أيضا بالأحباس بدرب السلطان، وطلب منه البحث له عن فقيه متزوج لإمامة الصلاة بحي كوزيمار. فسارعنا نحن بدورنا للإتصال بالفقيه الزموري ووضعناه في الصورة، فقبل. المهم بالتوازي مع ذلك، ذهب بناصر حركات، يبحث عن فقيه وطني سوسي بالمدينة القديمة يعرفه ويثق فيه إسمه محمد السوسي. لكن المشكلة أنه اكتشف أنه غير متزوج، فزوجناه بسرعة بعد أن وجدنا له بنت الناس وسارعنا بتقديمه للفقيه الزموري، الذي امتحنه وتأكد من سلامة عقد زواجه، فاتصل بمدير شركة كوزيمار وقبله في مهمته الجديدة تلك، وبقي هناك حتى بعد الإستقلال. المهم، في موسم 1945 / 1946، أسسنا مدرسة الإتحاد بسبب أنه لم تكن في كل الحي الصناعي ولا مدرسة واحدة للأطفال، وبحثنا لها عن المعلمين، وكانت البداية هي التعاون مع فريق من معلمي مدرسة درب غلف. مثلما أسسنا فريق كوزيمار لكرة القدم وأخدنا ساحة مجاورة للمصنع بعد موافقة المدير، وبنينا فيها ملعبا لكرة القدم. وأسسنا في الوقت ذاته فريق الإتحاد البيضاوي لكرة القدم، واخترنا أرضا خلاء بدرب مولاي الشريف، ربما كانت في ملك السكك الحديدية، ورسمنا خريطة الملعب وقمنا بتسطيرها على الأرض، وصارت تلك الأرض ملعبا لفريق «الإتحاد» يلعب فيها مبارياته الأسبوعية. وتم تكليف العامل المغربي امحمد العبدي، برئاسة الفريق، هو الذي كان يعمل بشركة الإسمنت القريبة «لافارج» (وهو غير العبدي، المقاوم الشهير، الذي أسسنا معه مدرسة الإتحاد). كان يساعده في تسيير فريق كرة القدم السيد إبراهيم أوليازيد، الذي هو من المهاجرين المغاربة ببلجيكا وزوجته بلجيكية وأنجب منها بنتا. فانطلقت رحلة فريق «الطاس» وفريق «كوزيمار العمالي» الرياضية والوطنية، لأن الرياضة كانت واجهة للتأطير الوطني وشحد همم الشباب لجعلهم ينخرطون في المعركة من أجل الإستقلال. علما أنني كنت عضوا بالعصبة المغربية لكرة القدم التي أسسناها ضدا على العصبة الفرنسية للمستعمر. كان الرئيس هو الوطني عبد السلام بناني وكنت أنا الكاتب العام. ونحن الذين أسسنا مسابقة كأس العرش واخترنا مباراة النهاية أن تكون يوم 18 نونبر من كل عام، الذي كان يصادف ذكرى عيد العرش. وابتدأنا ذلك في موسم 1946/ 1947. كانت البداية بفرق الأحياء بالدارالبيضاء، ثم توسعت لتشمل فرقا وطنية أخرى من مختلف المدن المغربية. أسست بالتوازي مع هذه المبادرات الرياضية، بتلك الأحياء العمالية، بعد أن لمست شكل التضامن المتأصل بين العائلات العمالية، أول إطار تعاضدي بينهم، بما يقتضيه ذلك من إطار قانوني. حيث أسسنا مكتبا تعاونيا تعاضديا برئيس ونائبه وأمين المال وحساب بنكي. واتصلنا بطبيب معمل كوزيمار ليحدد لنا نوع الأمراض التي تجوز تغطيتها والتعويض عنها. وأعتقد أن هذه التعاضدية، كما أخبرت لاحقا، لا تزال قائمة إلى اليوم في معمل كوزيمار. وما أذكره في هذا الباب (ضحك الأستاذ اليوسفي قبل أن يتمم كلامه) أن خليتنا الأولى التي حكيت لك عنها في كوزيمار والتي اخترنا أن تلعب دور المخبرين عند المراقب المدني الفرنسي بمارشي كريو، نصحناها بتقديم أول شيك مالي إلى المراقب المدني ذاك من باب التضامن العمالي مع فرنسا المنهكة بالحرب العالمية الثانية، لطمأنته أكثر. وكانت قيمة الشيك تصل إلى حوالي 10 آلاف فرنك. حين توصل منهم بذلك الشيك وشرحوا له كيف أنهم أسسوا مكتبا تعاضديا بمعملهم، سألهم من علمكم هذه الأشياء؟. فقالوا له إنه فقيه شاب يعلمنا محو الأمية. فبحث عني عن طريق إدارة معمل السكر كوزيمار وجمع معلومات عن طريق شبكة مخابراته، فقال لهم: «هذا رجل خطير على فرنسا». فقرروا طردي، فطردت سنة 1949. لكن دهاء ذلك المراقب المدني، دفعه إلى أن لا يمنع تلك التعاضدية، بل احتضنها ودعمها وجعلها تابعة له. كنا في الحقيقة قد عممنا تلك التجربة التعاضدية على معامل أخرى، مثل معمل التبغ بدرب السلطان. وللتاريخ، فإننا بعد الإنفصال عن حزب الإستقلال كحركة اتحادية سنة 1959، لم يتحمس الراحل المحجوب بن الصديق كمسؤول عن نقابة الإتحاد المغربي للشغل لاحتواء ذلك الرصيد الذي بني بصبر في الحي الصناعي بعين السبع والحي المحمدي، على المستوى التعاضدي، فأخده الإخوة في حزب الإستقلال وهو النواة المركزية لتأسيسهم نقابة الإتحاد العام للشغالين بالمغرب». (انتهى كلام اليوسفي). كان سي عبد الرحمن، يتنقل بين المدينة القديمة وحي كوزيمار على دراجة هوائية متهالكة متعبة جدا في سياقتها، بسبب نوعية عجلاتها المصنوعة من الكاواتشوك، التي تخلق ردودا مؤلمة بسبب حركة الإهتزاز الدائمة وهي تعبر في طرقات مرصوفة أنذاك بمربعات حجرية صلبة وغير معبدة بالإسفلت، بجلبابه البلدي وطربوشه المغربي. وذات يوم بسبب عبور سيارة عسكرية أمريكية، بها جنود أمريكيون تابعون للقاعدة العسكرية الأمريكية بالنواصر، قربه بطريق الرباط في طريقه إلى حي كوزيمار، سيعمل أحد أولئك الجنود على خطف طربوشه من فوق رأسه، وسيارتهم الجيب مسرعة، وهم ضاحكون، فأسقط بيده، كيف سيلج إلى ذلك الحي العمالي بدون طربوشه المغربي المعتاد. فكان قراره هو إزالة الجلباب والطربوش نهائيا، ولم يعد إلى لباس الجلباب سوى بعد أن أصبحت مسؤولياته الحكومية سنة 1998، تفرض عليه برتوكوليا ذلك. بعد طرده من شركة كوزيمار، ومع حصوله على الباكالوريا بالدارالبيضاء من ثانوية ليوطي، ولأنه أصبح موضوع متابعة ورصد ومراقبة، قرر اليوسفي السفر إلى باريس سنة 1949، لإتمام دراساته العليا في مجال القانون. هناك، سيقع تحول آخر في حياة الرجل، من خلال انفتاحه على شبكة الطلبة المغاربة المؤطرة ضمن جمعية اتحاد طلبة شمال إفريقيا، التي تأسست سنة 1927، وكان مقرها في ملكية الدولة المغربية (بقي شبه مهجور منذ الثمانينات، حتى تم مؤخرا تدشينه من قبل العاهل المغربي محمد السادس، كي يصبح متحفا مغربيا بباريس). وأيضا انفتاحه على شبكة العمال المغاربة المهاجرين، التي ظلت سندا كبيرا للحركة الوطنية وللمقاومة ضد الإستعمار. حيث انخرط اليوسفي، بالتوازي مع دراسته للحقوق بالعاصمة الفرنسية، في تأطير العمال مجددا وكذا تأطير الطلبة. إلى أن تم اعتقاله في فرنسا سنة 1950، بمناسبة زيارة الملك الوطني محمد الخامس لمدينة بوردو، التي قررت جامعتها منحه دكتوراه فخرية، ضمن سياق محاولة باريس إبعاد ذلك الملك الوطني عن تنسيقه الراسخ مع نخبة الحركة الوطنية، والتي تبلورت بعض نتائجها الهامة في خطاب طنجة التاريخي ليوم 7 أبريل 1947. كان اليوسفي، إلى جانب مسؤول عمالي مغربي آخر مكلف بتأطير العمال بالجنوب الفرنسي وممثلا لحزب الإستقلال به، وبخاصة مدينة سانتيتيان التي بها كثافة عمالية مغربية ومغاربية كبيرة بمناجم الفحم الحجري، هو المقاوم والوطني مولاي العربي الشابي الشتوكي. أقول كان اليوسفي مسؤولا عن تنظيم مظاهرة احتفائية بنزول الملك الوطني محمد الخامس بميناء لاروشيل. لكن السلطات الفرنسية ستتدخل لمنع تلك المظاهرة بالقوة واعتقلت عددا من الطلبة والعمال المغاربة، ضمنهم عبد الرحمن اليوسفي ومولاي العربي الشابي الشتوكي. وبعد أن بلغ إلى علم محمد الخامس ذلك، رفض قبول تلك الدكتوراه الفخرية قبل إطلاق سراح أولئك المعتقلين، وهو ما كان، مع الإحتفاظ فقط بكل من اليوسفي والشتوكي رهن الإعتقال، مما دفع الملك مرة أخرى للضغط من أجل إطلاق سراحهما، بل إنه حرص على استقبالهما، فكان ذلك أول لقاء مباشر بين اليوسفي ومحمد الخامس. كانت من نتائج ذلك الإعتقال، وأيضا بسبب التقارير المنجزة أمنيا حول دوره في تأطير الطلبة والعمال، سببا في قرار طرده من باريس ومن جامعتها، مما دفعه لإتمام دراسته بجامعة أخرى خارج العاصمة الفرنسية. بعد حصوله على الإجازة في الحقوق وفي العلوم السياسية، سيقرر العودة إلى المغرب، حيث استقر بمدينة طنجة سنة 1952، وبها فتح مكتب محاماة، بقي مفتوحا حتى سنة 1960، وانتخب نقيبا لهيئة المحامين بها. خلال هذه المرحلة من حياته سيصبح واحدا من أهم منسقي حركة المقاومة وجيش التحرير المغربي، خاصة حين سيصبح عنصرا فاعلا ضمن قيادة حركة المقاومة بمدريد، في بعدها المغربي والمغاربي، بفضل التساهل الإسباني مع تلك الحركة الوطنية المغربية، بعد القرار الخاطئ لباريس بنفي الملك الوطني محمد الخامس يوم 20 غشت 1953، والذي لم تشرك فيه الجنرال فرانكو ولا وضعته في الصورة قبل تنفيذ قرارها ذاك. في طنجة وتطوان ومدريد، ولد عمليا عبد الرحمن اليوسفي آخر، هو المقاوم المحارب الشرس والذكي. أصبح الرجل غرفة عمليات متنقلة بكل معاني الكلمة، تكمن قوته في أنه رجل فعل ميداني مسنود بمعرفة أكاديمية عالية ورفيعة، وبمعرفة قانونية جد أصيلة ودقيقة، ومتمكن من عدد من اللغات، هي الفرنسية والإسبانية والإنجليزية. وهذا بروفايل ناذر وقليل ضمن جسم حركة المقاومة المسلحة المغربية وجيش التحرير المغربي، الذي أغلب عناصره وقياداته من العمال والحرفيين، وليس من النخبة المتعلمة حاملة الشواهد الجامعية العليا. ورغم ظروفه الصحية الصعبة حينها، حيث كان قد أصيب بمرض السل، مما تطلب إجراء عملية جراحية له بمدريد، تمت فيها إزالة جزء كامل من رئته، ليعيش باقي حياته بنصف رئة، فإن الرجل بقي رقما أساسيا ومركزيا في كل العمل الوطني للمقاومة وجيش التحرير. هو الذي (كما ظل يؤكد مرارا في لقاءات خاصة) قد بدأ عمليا يبتعد بوعي سياسي وتنظيمي، في تلك الفترة عن التوجه السياسي لحزب الإستقلال. فاليوسفي، بوعيه الأكاديمي الرفيع، بوعيه الحقوقي الرصين، باحتكاكه الميداني بشرائح العمال والطلبة، كان له توجه ثوري في مواجهة الإستعمار. وهو على كل حال، الإبتعاد الذي سيتواصل حتى في السنوات الأولى للإستقلال، حيث لا نكاد نجد أي أثر لليوسفي في المشهد العام لحزب الإستقلال، ولم يصبح اسمه متداولا وصوره في مقدمة المشهد سوى مع تأسيس الحركة الإتحادية سنة 1959. مع تسجيل معطى تاريخي مهم، هو أن اليوسفي لم يصدر قط قرار بطرده من حزب الإستقلال بعد تأسيس حزب الإتحاد الوطني للقوات الشعبية، ونفس الأمر نسجله مع عبد الرحيم بوعبيد. ذلك أن قرارات الطرد التي كان يوقعها الزعيم علال الفاسي لم يحدث أبدا أن صدرت في حق اليوسفي وبوعبيد (أكثر من ذلك، سيخبرني الدكتور فتح الله ولعلو، ضمن سياق نقاش تاريخي خاص معه، أن المقر المركزي لحزب الإستقلال بباب الأحد بالرباط، لا يزال إلى اليوم في إسم الشهيد المهدي بنبركة). مرة سيسأل عبد الرحيم بوعبيد صديقه اليوسفي، أثناء محادثات إيكس ليبان وما بعدها، كما أكد لي الدكتور ولعلو، في مناسبة أخرى، إن كان يمكن فعليا التعويل على جسم حركة المقاومة بذات الشكل التأطيري الذي تحقق في ثورة الفيتنام أو ثورة ماو الصينية، فكان جواب اليوسفي القطعي أن لا. وقال له جملة بليغة: «المقاومون لهم استعداد وحيد، هو الموت من أجل عودة محمد الخامس». وفي مدريد، سيلعب اليوسفي دورا محوريا في تنسيق العمل مع حركة المقاومة الجزائرية وجزء من نسيج العمل الوطني والنقابي التونسي، بل ستتوطد علاقته القوية مع كل من أحمد بنبلة ومحمد بوضياف وبن مهيدي من الجزائر، وسيكون صلة وصل حاسمة في كل العمليات المتعلقة بنقل السلاح وتجميعه وتوزيعه بين جيش التحرير المغربي وجيش التحرير الجزائري. ولعل من الأدلة على مكانته ضمن تلك الشبكة الوازنة والهامة، هو دوره في اقتراح وتنفيذ إحياء يوم 20 غشت 1955، ببعد مغاربي، انتهى إلى ما عرفته أحداث مدينة سكيكدة الجزائرية من مجازر وكذا ما عاشه المغاربة من أحداث في وادي زم وأبي الجعد وخريبكة (الذي هو فضاء عمالي بامتياز). بل، أكثر من ذلك، إن صاحب فكرة إحياء ذكرى 20 غشت وإعطائها صفة «ثورة الملك والشعب» هو اليوسفي في لقاء حاسم لقيادة المقاومة وجيش التحرير بمدريد. لقد أكد لي سي عبد الرحمن، مرة، أن مقترح الزعيم علال الفاسي كان جعل ذلك اليوم يوما وطنيا للمقاومة بالمغرب، لكن اليوسفي سيقدم أطروحة أخرى ذكية، اعتبر فيها أن القدر قد منح للمغاربة هدية من السماء بفضل الإستشهاد البطولي للشهيد محمد الزرقطوني يوم 18 يونيو 1954، الذي قدريا يلتقي مع احتفاء فرنسا بنداء الجنرال دوغول التحرري من العاصمة البريطانية لندن يوم 18 يونيو 1940، بعد احتلال النازية الألمانية لباريس وفرنسا. بالتالي، بالنسبة له، علينا مغربيا جعل يوم استشهاد الزرقطوني يوما وطنيا للمقاومة (وهو الأمر الذي لا يزال قائما إلى اليوم، بعد أن رسمه الملك الوطني محمد الخامس سنة 1956، أمام قبر الشهيد الزرقطوني بمقبرة الشهداء بالدارالبيضاء)، فيما أطلق على يوم نفي محمد الخامس يوم «ثورة الملك والشعب» ببعد مغاربي. سيلعب اليوسفي أيضا دورا محوريا في تنسيق العمل بتطوان، ضمن قيادة جيش التحرير المغربي، بدليل أنه يوم عودة محمد الخامس من المنفى في 16 نونبر 1955، كان هو بتطوان ينسق ويباشر أمور تحرك جيش التحرير بشمال المغرب دعما للتوجه التحرري الجديد الذي دشن سياسيا، ودعما للتفاوض المغربي من أجل الإستقلال الذي انطلق بباريس وتواصل حتى يوم 2 مارس 1956. مثلما أنه سيتدخل من مدريد، قبل ذلك لمنع تنفيذ قصاص في ممثل تلك القيادة لجيش التحرير بتطوان، المرحوم أحمد زياد. وأقنع العناصر الوطنية التي توجهت إلى العاصمة الإسبانية للحصول على الإذن بتنفيذ ذلك القصاص في ذلك الرجل الوطني، القلم الجيد الذي اشتهر بعد ذلك على أعمدة جريدة العلم، رفقة الزعيم الجزائري أحمد بنبلة، أنه ليس من مصلحة جيش التحرير أن يتخد ذلك الإجراء ضد أحمد زياد. فتم الإتفاق على أن يأخده معه أحمد بنبلة إلى القاهرة وهناك ستتم محاسبته. وذلك ما كان، حيث بقي تحت مراقبة المصريين، حتى توجه اليوسفي بنفسه في بداية الإستقلال لإعادته إلى المغرب سالما. بعد اختطاف الطائرة المغربية الحاملة للقادة الجزائريين الخمسة فوق سماء الجزائر، خلال شهر أكتوبر 1956، وهم في طريقهم إلى تونس لحضور قمة مغاربية كان مفروض أن يحضرها محمد الخامس والحبيب بورقيبة. فإن اليوسفي، قد نصح بنبلة أن لا يتوجهوا مباشرة إلى تونس عبر سماء الجزائر، بل ألح عليهم بالتوجه من مدريد صوب روما ومنها في رحلة أخرى إلى تونس. بعد ذلك الإختطاف سيصبح اليوسفي محامي أولئك القادة الجزائريين بفرنسا، وسيسمح له بزيارتهم بشكل دوري في سجنهم هناك، مما مكنه من لعب دور تنسيقي حاسم ومؤثر بين تلك القيادة وباقي عناصر الثورة الجزائرية في الخارج، وهنا يكمن سر قوة نفاذ علاقاته بكل نسيج القيادة الجزائرية وعلى كافة المستويات إلى اليوم. وحدث مرة، أن قررت المخابرات المصرية تنفيذ عملية اختطاف لأولئك القادة الجزائريين، من داخل سجنهم بالجنوب الفرنسي، وحين بلغ إلى علم قادة المقاومة المغربية ذلك الأمر، قرروا ربط الإتصال بالقاهرة وأقنعوهم أن الأمر لا يمكن أن يتم إلا عبر الحركة الوطنية المغربية، فتكفل اليوسفي شخصيا بالعملية. كان القرار الأول هو الحصول بداية على موافقة المعنيين بالأمر، أي القادة الجزائريين المعتقلين. فكان أن توجه اليوسفي إلى فرنسا وزارهم في السجن ونقل إليهم الفكرة، فرفضوها مطلقا. وبذلك وضعت نقطة النهاية للعملية كلها. وكانت نتيجة تلك الزيارات التي قام بها، وهو محام عنهم، أن طردته السلطات الفرنسية من فرنسا، بعد أن اعتقلته في القطار على الحدود بين فرنسا وإسبانيا سنة 1958 لثلاثة أيام حققت معه فيها مطولا. واستندت في قرارها على قرار طرد سابق، لم ينفذ، يعود إلى سنة 1951 وهو لا يزال طالبا بباريس، بعد دوره ضمن جمعية الطلبة المغاربة والمغاربيين بمناسبة زيارة محمد الخامس لبوردو سنة 1950. كان القرار حينها بدل طرده من كامل التراب الفرنسي، الإكتفاء فقط بطرده من باريس وعدم السماح له بإكمال دراسته بكلياتها وانتقل، بالتالي، إلى بواتيي حيث أكمل بجامعتها دراسة الحقوق. فاستندت السلطات الفرنسية على قرار الطرد القديم ذاك وطردته إلى إسبانيا، بغاية قطع صلته القوية مع قادة المقاومة الجزائرية المعتقلين عندها. علما أن اللحظة تلك صادفت في باريس أزمة ماي 1958 السياسية وعودة الجنرال دوغول إلى الحكم. سنوات بعد ذلك، بعد الإنقلاب على بنبلة من قبل هواري بومدين، سيعمل اليوسفي على الدفع نحو تخصيص عدد من مجلة «جون أفريك» لحدث الإنقلاب والمطالبة بإطلاق سراح رفيقه في المقاومة والنضال المغاربي أحمد بنبلة، ونقل ذلك العدد من المجلة، عبر آلية خاصة، بأعداد كبيرة جدا إلى داخل الجزائر، عبر مدينة وجدة المغربية. وأن نفاذ الدفعة الأولى بسرعة قد جعل رفاقه الجزائريين يطلبون دفعة جديدة حملت إليهم بذات الطريقة. علما أن اليوسفي، سيكون حاضرا بقوة في لحظة عودتهم إلى بلادهم الجزائر، بعد إطلاق سراحهم، عبر التراب المغربي، وتمة صورة شهيرة تجمعه بهم في الرباط. بل إنه هو من سيكلف الصحفي المغربي محمد باهي لمرافقة أحمد بنبلة والقيادة الجزائرية في رحلة عودتهم المظفرة إلى الجزائر المحررة، عبر وجدة، وأن يرسل من هناك تغطيات تفصيلية عن ذلك النصر الجزائري، التي نشرت بجريدة «التحرير» التي كان اليوسفي يتحمل مسؤولية رئاسة تحريرها، فيما مديرها العام هو رفيقه محمد الفقيه البصري. الفقيه البصري الذي سيعتقل معه سنة 1959، بسبب مقالة كتبها اليوسفي عن عدم استقبال قادة من المقاومين بالرباط، مع صورة مرفوقة بالمقال. وكانت التهمة التي فبركها المسؤول الأمني أوفقير حينها، هي التخطيط لمحاولة اغتيال ولي العهد الأمير مولاي الحسن. وهي التهمة التي أظهر التحقيق القضائي أنها غير مسنودة ومفبركة، خاصة بعد إنكار الشاهد الرئيسي فيها علاقة الأشخاص الذين قدموا أمامه أمام قاضي التحقيق بأي عملية مماثلة. فتدخل شيخ الإسلام محمد بلعربي العربي العلوي، لدى الملك الوطني محمد الخامس، مما كانت نتيجته إسقاط المتابعة وإطلاق سراح الفقيه البصري واليوسفي وباقي المقاومين. لم يكن ذلك، آخر اعتقال لليوسفي في مغرب الإستقلال. بل إنه سيتعرض لاعتقال آخر صيف سنة 1963، ضمن ما عرف ب «مؤامرة 16 يوليوز»، بالدارالبيضاء، من داخل مقر الكتابة العامة للإتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى جانب كل أعضاء اللجنة الإدارية للحزب. وقبل نقله معهم، إلى المعتقل السري «دار المقري» بالرباط، حيث تعرض لتعذيب وحشي، يحكي دوما اليوسفي عن بعض تفاصيله المقززة والسادية والعبثية، والتي كان يشرف عليها شخصيا أوفقير. أقول قبل نقله إلى «دار المقري» سيتم وضعه بزنزانة بمقر ولاية الأمن بشارع الروداني بالدارالبيضاء، رفقة صحفي شاب إسمه أندري أزولاي (الذي سيصبح مستشارا للملك الحسن الثاني ولا يزال إلى اليوم مستشارا للملك محمد السادس)، كان قد حضر ذلك الإجتماع الحزبي إلى جانب مراسل وكالة الأنباء الفرنسية. ومما أكده لي أكثر من مرة، الأستاذ أندري أزولاي، أن المرحوم عبد الرحيم بوعبيد نبهه قبل دخول الإجتماع، أن أمر اعتقاله معهم وارد جدا وخيره بين المغادرة أو البقاء، فقرر البقاء، مما كانت نتيجته اعتقاله ووضعه في زنزانة واحدة مع اليوسفي ليومين كاملين. مثلما أكد لي سي عبد الرحمن مرة، أن الدكتور عبد الكريم الخطيب، الذي عبره تم إفشاء مخطط الفقيه البصري لصيف 1963، قد تدخل شخصيا عند الملك الحسن الثاني من أجل عدم تعذيب اليوسفي وأيضا من أجل عدم اعتقال المقاوم مولاي العربي الشابي الشتوكي، ووعده الملك خيرا، لكن أوفقير عذب اليوسفي بوحشية واعتقل المقاوم مولاي العربي الشتوكي بمراكش. بعد المحاكمة الشهيرة، التي طالت الآلاف من مناضلي الحركة الإتحادية سنة 1963 (يحدد عددهم في ما يقارب 5 آلاف معتقل)، سيحكم على سي عبد الرحمن بحكم موقوف التنفيذ، وأطلق سراحه، فيما حكم على الفقيه البصري وعمر بنجلون بالإعدام، وحكم بذات الحكم، لكن غيابيا، على كل من المهدي بنبركة وحميد برادة. وستبرز شخصيته السياسية مجددا أثناء تقديم ملتمس الرقابة بالبرلمان، لإسقاط الحكومة سنة 1964، حيث نجده يداوم على الحضور بمقر البرلمان ضمن صف الضيوف، ومن هناك كان ينسق ويوجه تدخلات كل النواب الإتحاديين. وبعد أحداث 23 مارس 1965 بالدارالبيضاء، سينطلق مسلسل سياسي جديد كان مأمولا أن ينتهي، بفضل فتح الملك الحسن الثاني لقنوات التواصل مع المعارضة، إلى تشكيل حكومة تناوب سياسية، حدد لها أفق شهر أكتوبر من نفس السنة. وكان يدير تلك المفاوضات من جهة الحركة الإتحادية كل من عبد الرحيم بوعبيد في الداخل والمهدي بنبركة في الخارج. لكن ما سيقع بباريس يوم 29 أكتوبر 1965، حيث سيتم اختطاف المهدي بنبركة وتصفيته، سيضع نقطة النهاية لذلك المشروع السياسي، ودفع اليوسفي أسابيع قليلة بعد ذلك إلى مغادرة المغرب ليبقى بالمنفى حتى سنة 1980. حيث أصبح حينها هو محامي عائلة بنبركة ومنسق فريق المحامين طيلة شهور المحاكمة التي امتدت حتى سنة 1967. مثلما أنه، بوعيه لأهمية ودور الإعلام، سيلعب دورا محوريا في جعل القضية، تصبح المادة الأولى في كل الإعلام الفرنسي والعربي والعالمي. حين تسأل اليوسفي عن حقيقة ملف بنبركة، دائما يجزم على أن الحقيقة كلها عند شخص وحيد، لا يزال على قيد الحياة، هو العميل الفرنسي أنطوان لوبيز. لكن لوبيز بالنسبة له يكذب ويتلاعب بالجميع ولا يريد الكشف عن كامل الحقيقة. وخلال سنوات المنفى ستتوطد أكثر علاقة اليوسفي مع صديقه الفقيه البصري، لكنه ابتداء من بداية السبعينات سيبتعد عن التوجه البلانكي الذي اختاره البصري، وستتوطد علاقاته أكثر مع عبد الرحيم بوعبيد، بدليل بعثه رسالة صوتية داعمة للتوجه السياسي الجديد للحركة الإتحادية أثناء المؤتمر الإسثتنائي للإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية يوم 11 يناير 1975. كانت سنوات المنفى قد قادت اليوسفي إلى العديد من العواصم العربية والأروبية (الجزائر، طرابلس، بغداد، دمشق، باريس، جنيف، روما)، فيها تطور لمواقفه السياسية من التوجه المسلح العنيف إلى المجال الحقوقي، حيث انخرط اليوسفي أكثر في تأسيس اتحاد المحامين العرب وكذا المنظمة العربية لحقوق الإنسان، إلى جانب أدواره ضمن منظمة أمنستي الدولية لحقوق الإنسان وهيئة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان، ما جعله يصبح مرجعا عالميا في مجال منظمات حقوق الإنسان. مما مكنه من ربط علاقات دولية وازنة بمختلف قارات العالم، سواء ضمن الأممية الإشتراكية أو ضمن الأحزاب التقدمية والمركزيات النقابية العمالية الوازنة والمؤثرة عبر العالم. وهي الشبكة التي سيكون له دور مؤثر حاسم في كل زياراته إلى عدد من عواصم العالم (خاصة بأمريكا اللاتينية وبالهند وآسيا وإفريقيا)، بصفته وزيرا أول يقود حكومة التناوب ما بين 1998 و 2002. مما كانت نتيجته سحب أكثر من 34 دولة اعترافها بالبوليزاريو. حين عاد من منفاه سنة 1980، بعد صدور عفو ملكي أول على مجموعة من المنفيين، التزم اليوسفي بالإشتغال حزبيا تحت قيادة صديقه ورفيقه عبد الرحيم بوعبيد ولم يسجل عليه أبدا أي نزوع للتشويش على القيادة السياسية التي مثلها بوعبيد، حتى حين وجد نفسه في الواجهة الحزبية، بعد اعتقال سي عبد الرحيم وعدد من أعضاء المكتب السياسي والحكم عليهم بالسجن. وهذا واحد من عناوين شخصية اليوسفي، التي تتأسس على مبدأ الإلتزام وعلى أخلاق الوفاء. فالرجل بقي دوما وفيا لصداقاته الرفاقية، حتى وإن أساء الكثير من رفاقه له. باقي تفاصيل مرحلة ما بعد عودته من المنفى، حتى تقديمه استقالته من قيادة الإتحاد ومن ممارسة السياسة سنة 2003، تستوجب كتابة تفصيلية أخرى. فقط، تمة معطى مهم لا يعرفه سوى القلة عن شخصية اليوسفي، وعن معنى تمثله للإلتزام السياسي والنضالي، والذي يقدم عنوانا فارقا عن طينة الرجل، ما سيؤكده لي، مرة، مصدر جد مقرب من اليوسفي (وهذا أمر لم أجرؤ قط على طرحه معه وسؤاله عنه)، أنه حين تزوج من رفيقة حياته السيدة هيلين، اليونانية الأصل، قرر عدم الإنجاب. لأنه قطع على نفسه وعدا، أن خياراته الحياتية قد جعلت منه مناضلا سياسيا معرضا دوما للخطر، وأنه لا يريد أبدا أن يكون سببا في جعل أطفاله المحتملين ضحايا وضعية اجتماعية غير مأمونة العواقب. لقد ضحى في النهاية بحقه في الأبوة، من أجل القضايا التحررية والتقدمية والوطنية التي آمن بها وانخرط في النضال من أجلها.