كنا على موعد في رواق فلسطين، بمعرض الكتاب بالدار البيضاء، في دورته الواحدة والعشرين، لنحضّر حوارنا المبرمج ضمن الفعاليات المصاحبة. حين لمحت «عبداللطيف اللعبي» رفقة «جوسلين»، يدلفان من المدخل الرئيس. إننا لم نلتق منذ ست سنوات، مذ كان لمناضلي ومثقفي البلدان العربية قضية مشتركة واحدة، عبر خيوطها المتشابكة تناقش مفاهيم: «الدولة الوطنية»، و«الحداثة»، و«العلمانية»، و«الديمقراطية»، و«الإسلام السياسي». لم يتبادر إلى ذهن أكثرنا تشاؤما أن تجليات مختلفة ل: «النكبة» و«التهجير» و«المخيمات»، و«المذابح الجماعية» ستنتقل تدريجيا إلى جل الأقطار العربية، وسيصير لكل شعب عربي «فلسطينه» الصغرى أو الكبرى، مع قيمة بربرية مضافة، وليدة العودة إلى الأنوية الطائفية والقبلية القديمة، القابعة في القرار المكين للعقل الجماعي للأغلبية الصامتة، المنبعثة كالعنقاء من تربة «الكبت» و«الجوع» و«المصادرة»، أنوية ما قبل مفاهيم الدولة والعروبة والحضارة. كان اللعبي كما عهدته دوما، شابا بمظهر شيخ، مع تفاؤل لا يذوي، فهو متأكد برغم كل ما جرى، أن الأفق لأحلامنا القديمة، التي من واجبنا أن نحرسها من النسيان. تدفقت المرارات واللوعات بيننا في كلمات مختصرة، إذ لا يحتاج الأمر إلى شرح طويل، فعبقرية اللغات أنها لا تعطيك المفردات الكاملة، فهي تترك هوامش للصمت والبياض، ويقينا مجددا بأن أي حوار بين المثقف والناس لا يحتاج اليوم إلى تنظير، ولا إلى مقدمات. هكذا تحدث عبداللطيف اللعبي بلغته الأم، التي لم يكتب بها يوما، ليقول الأصدق والأبهى، تحس وأنت تستمع إليه، وهو يختار مفرداته كحبات تين أو زيتون، أنه لم يغادر كنف العربية يوما، ولا كتب كل تراثه الشعري والروائي والمسرحي وسيره ومحكياته للأطفال بلغة أخرى، ضرة أو خليلة، لذا فإن أول سؤال يتبادر إلى الذهن وأنت تستمع إليه، هو: لماذا نفقد تدريجيا إحساسنا بالانتماء إلى «عروبة» تجعلنا نملك وطنا سرمديا، لن تنهكه الحروب ولا الطوائف ولا تقسيمات السياسة؟ أهو إحساس بالذنب، متأخر، بحق الأقليات، التي قمعتها الأطروحة القومية ظهيرة الاستبداد؟ أم هو انكفاء طفولي على الهويات الصغرى، بعد تغوّل الإجرام الديني؟ حين أستعيد اليوم هذا الهروب اللاإرادي من عروبة غاربة، أقرنه أساسا برغبة غير عقلانية في التملص من واقع منهار، وكأنما في ترك لغة الانتماء نجاة من جحيم الذاكرة السوداء للتسلط والاستبداد، وهروب من الظلام المتخايل في الأفق، فلغتنا الجميلة باتت مختطفة في رطانات الكلام الفصيح للنافرين إلى الجهاد في أرض الخلافة، لقد اغتصبت كما البشر والأوطان، وركبت لها لحية وعمامة، وامتشقت سيفا تسيل من حوافه الدماء، بعد أن أهديت كقارورات عطر في قصائد وملاحم ومحكيات خالدة.