يبقى السياسيون المحافظون في أمريكا أكثر قدرة على اللعب بمشاعر السكان من خلال استثمار العديد من الأخبار التي تتصدر عناوين الصحف وبرامج التلفزيون المشتغلة بنشر أخبار الجريمة . لقد اعتمد السياسيون المحافظون على «الهستيريا الجماعية «ضد الجريمة والمجرمين ، والتي تفنن الإعلام في إعدادها وتغذيتها . ولم تقف تلك الهستيريا عند التحامل على المجرمين بل طالت حتى المدافعين عنهم من السياسيين الليبراليين . على سبيل المثال ، تشير الإحصائيات إلى أن التغطية الإعلامية للجرائم ازدادت بشكل غير متناسب خلال التسعينات من القرن الماضي . فبينما انخفض عدد جرئم القتل في امريكا بنسبة 20% بين عامي 1990 و 1998 زادت تغطية جرائم القتل على نشر الأخبار الأخرى ب 60% دون احتساب تقارير الصحف المحلية التي تتجاوز أخبار الجرائم فيها الثلث ، مما غذى في النهاية خطاب المحافظين بين السكان ، ذلك الخطاب الذي يلخصه الشعار :» المجرمون لا يفهمون إلا الردع «. ولتحقيق الردع سيتم زيادة استخدام السجن ، والنظر إليه بأنه غاية في حد ذاته . وستكون العقوبة بالسجن أساس السياسات الإصلاحية للعديد من الدول ومن الحكومات الفيدرالية . لقد استخدمت النخب السياسية الأمريكية منذ الستينيات ، المسائل الجنائية بنفس « شعبوي « كأداة انتخابية في خدمة الخطاب السياسي المحافظ . وهكذا فإن «الشعبوية» أصبحت سمة دائمة للسياسة الجنائية الأمريكية منذ ذاك إلى اليوم . وطورت علاقة خاصة مع الرأي العام. (Pierre La lalande et Autres , La séviritépenale à l'heure du populisme, Québec 2006) يعتبر 1974عاما محوريا في السياسة الجنائيةبالولاياتالمتحدة ،بين ماض مثالي يراهن على إعادة تأهيل المجرمين، وبداية موجة عقابية لم يسبق لها مثيل في تاريخ علم العقاب الحديث. بلغت «الشعبوية» في السياسة الجنائية أوج صعودها بين 1974 و 1977 ، وكانت سماتهاتتجلى في : التخلي التدريجي عن سياسة «إعادة التأهيل» . ووضع حد للعقوبات غير المحددة ، بتحديدها وتشديدها . و إعادة النظر في الإفراج المشروط .و تقييد السلطة التقديرية للقاضي .والتراجع عن مبدأ تفريد العقاب.والحد من سلطات العفو.هكذا تم إدخال الحد الأدنى الإلزامي من العقاب في أكثر من 70% من الولاياتالأمريكية.وتشديد العقوبات بشكل غير مسبوق ( مثلا، قضى شخص11سنة في أحد سجون كاليفورنيا لسرقة سبعين دولارا،لأنه لم يظهر علامات على إعادة تأهيله، تطبيقا لما سمي بقانون»الفرصة الثالثة»).( (pierrelalande ; punir ou réabiliter?.و زاد عدد نزلاء السجون الأمريكية من حوالي 240 ألف سجين سنة 1975 إلى أقل من مليون عام 1994، ليصل عددهم إلى مليونين و مائة ألف في منتصف 2003 ، وهذا التشدد في العقاب هو المسؤول عن مضاعفة ساكنة السجون بنسبة تسعة أضعاف في أقل من ثلاثين عاما. ما اضطرت معها كاليفورنيا، مثلا،إلى إطلاق برنامج واسع لبناء السجون . شعبوية أم شعبويات؟ إن «الشعبوية « هي اتجاه يخلط بين كثير من التجارب المتنوعةلأطراف يعتبر بعضها نفسه على النقيض من الأطراف الأخرى، تصيب عدواها السياسيين من اليمين ومن اليسار . لذلك « فالشعبوية « شاهد على فشل الإيديولوجيات ، أو ربما هي ضرب من الفراغ أو من الاستقالة أو العزوف عن الايديولوجيا. هكذا نجد رئيسة الوزراء البريطانية « تيريزا ماي «تنتقد محامين يساريين ناشطين في مجال حقوق الإنسان ، تجرؤا على مواجهة القوات البريطانية بشأن التعذيب في العراق . كما اقتبس الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاندمن دليل» الجبهة الوطنية «اليمينية،حين جعل حرمان مزدوجي الجنسية المولودين في فرنسا من جنسياتهم جزءا رئيسا من سياسته ضد الإرهاب . وهي المبادرة التي تخلى عنها فيما بعد بأسف . ويدعم عدد من القادة الأوروبيين دعوة رئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان إلى إغلاق الحدود الأوروبية وترك اللاجئين في العراء لمصيرهم.ومنعت حكومة اليمين بايطاليا سفينة أنقذت مهاجرين في عرض البحر من الرسو بموانئها . بل وتم تقديم مسؤولي الجمعيات الحقوقية ،المستنفرة للدفاع عن حق المهاجرين، إلى القضاء . وكانت حملة دونالد ترامب الناجحة لنيل رئاسة الولاياتالمتحدة خير مثال على سياسة التعصب التي تجد في الشعبوية مرجعية لها . لقد أوقعت « الشعبوية « بريطانيا في مأزق « البريكسيت» . وفي إيطاليا وصل حزب الرابطة اليميني الشعبوي إلى الحكم . وعرفت المجر نفس الشيء ، وفي ألمانيا يحقق» حزب البديل « إختراقات كبيرة في إنتخابات المقاطعات ، وفي روسيا يستعيد فلاديمير بوتن السياسات القومية ، بما فيها التحالف مع الكنيسة الأرتدوكسية . وفي البرازيل وصل خافير بولسونارو إلى الرئاسة تحت شعار « البرازيل أولا» المنحوت عن شعار ترامب» أمريكا أولا « . فالشعبوية إذن تلوث السياسة يمينا ويسارا ، شمالا أو في دول الجنوب . « الشعبوية « و حقوق الإنسان . وجدت منظومة حقوق الإنسان في سياق النضال و العمل على حماية الناس من انتهاكات الحكومات و إهمالها . فالحقوق تقيد ما يمكن للحكومات أن تفعله ، و تفرض واجبات لضبط طريقة تصرفها . لكن ظهر جيل جديد من « الشعبويين « يقلبون هذه الحماية رأسا على عقب . يدعون بأنهم يتحدثون « باسم الشعب « لكنهم يرون في الحقوق عائقا أمام تحقيق إرادة الأغلبية ، وأنها عقبة لا داعي لها لحماية البلاد من» الأخطار و الشرور المحتملة «. وبدل تقبل الحقوق على أنها حماية للجميع ، يعطون الأفضلية لمصالح الأغلبية المعلنة، مشجعين الناس على تبني معتقد خطير: أنهم لن يحتاجوا أبدا إلى الدفاع عن حقوقهم ضد حكومة متسلطة تدعي العمل باسمهم . واليوم ، بفضل هذه « الشعبوية « أصبح عدد متزايد من الناس لا يرون في الحقوق حماية لهم من الدولة ، بل عقبة أمام جهود الحكومات للدفاع عنها .( في خضم النقاش الذي صاحب وضع قانون مناهضة التعذيب بالمغرب، ارتفعت العديد من الأصوات ، في الشارع ومن أوساط أكاديمية ومهنية وغيرها، تقول بان التهديد بمعاقبة من يمارس التعذيب من القوات النظامية لا يخدم إلا المجرمين والجريمة ). لم يخف ترامب في حملته الإنتخابية نيته في التراجع على المكتسبات في مجال حقوق الإنسان . إذ وعد بالتراجع عن حق النساء في التحكم في خصوبتهن . وهدد بشن حملة تهجير واسعة تشمل حتى الذين لهم أواصر متينة بالولاياتالمتحدة ، ومساهمة إيجابية في الاقتصاد لن تفيد في إعادة وظائف الصناعة التي فقدتها الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ زمن . كما طرح ترامب العودة إلى استخدام التعذيب، مثل الإيهام بالغرق . وبعد توليه الحكم أعرب عن استعداده للعودة إلى التعذيب « إذا كان ذلك مايريده الشعبالأمريكي « متناسيا القوانين و المعاهدات التي تمنع تلك الوحشية مهما كانت الظروف. وكما في الولاياتالمتحدة ، تحتل الهجرة في أوروبا صدارة لائحة التهديدات ، حيث تتقاطع المخاوف بشأن الهوية الثقافية و الفرص الاقتصادية والإرهاب.وصارت فئة واسعة من الناس ، بتحريض شعبوي ، تعتبر أن الحقوق تحمي فقط «هؤلاء الآخرين « و لا تحميهم هم . لذلك يمكن الاستغناء عنها . هذا التوجه الخطير يهدد بهدم إنجازات حركة حقوق الإنسان المعاصرة . تلك الحركة التي كانت منشغلة في بداياتها بفظاعات الحرب العالمية الثانية ، والاضطهاد الذي صاحب الحرب الباردة ، ونجحت في دفع الدول إلى تبني سلسلة من معاهدات حقوق الإنسان للحد من الانتهاكات وردعها . يهون البعض منهم على نفسه بافتراض خطير : بأنه يمكن تطبيق القانون بشكل انتقائي . وأنه يمكن انتهاك حقوق الآخرين بينما تبقى حقوقهم مصونة . لكن الحقوق بطبيعتها لا تقبل المقاربة الانتقائية . إن الشعبويون يقدمون دوما إجابات سطحية لمشاكل معقدة . تنفذ بسهولة إلى عقول الناس الذين يأنفون من قلق التفكير. فالفكرة الكامنة وراء نظرية الردع ، بسيطة ؛ إن تواتر الجرائم يتناسب تناسبا عكسيا مع شدة العقوبة . (Daniel élie et Maurice Cussos ; autoir de croissance et décroissace du crime , 1980( ختاما : الشعبوية الجزائية ، هي وصف لحقيقةالمشرع الذي يصدر قانونا قمعيا من أجل إرضاء قسم من الناخبين وزيادة رأس ماله السياسي ، دون النظر إلى الكفاءة و الجدوى والآثار المتوقعة لهذا القانون . والقوانين الشعبوية لا تنظر إلى تقييم التكاليف الناتجة عن السجن و العقاب المتشدد ،حتى ولو كانت الليبرالية الجديدة تجعل الكلفة أساس التفكير في أي شيء . في الواقع ، لا يوثق السياسيون التكاليف الاقتصادية لهذه الشعبوية الجزائية،أو يخفونها و يهملون تقدير آثارها الاجتماعية. "والشعبوية الجزائية" هي نتاج عمل مترابط ومتكامل بين ثلاثة فاعلين : وسائل إعلام؛تزرع الهواجس الأمنية لدى الجمهور، بتضخيم واقع الجريمة والاستفاضة في تقديم التقاريرعنها. جمهور؛ يستهلك ما تنتجه الصحافة عن الجريمة ، ترتفع لديه احتياجات الأمن، ويساند من يعدهبالصرامة مع الجريمة. سياسيون؛ يستثمرون انتظارات الجمهور ، ويطلبون سنده والتقرب إليه من خلال اقتراح المزيد من القوانين الجزائية الصارمة والمتشددة ،لاستمرار السند . وطبعا ، لأن ما يقوم به الإعلام من خلق البيئة الملائمة للخوف ، يخدم قبل كل شيء مصلحةهذا السياسي ، فإن السياسي لابد أن يقدم الدعم المادي أيضا للإعلام لتكتمل دائرة المنافع المتبادلة .