في تصريح غير مسبوق، لمسؤول أممي كبير، قال المفوض السامي لحقوق الإنسان، زيد بن رعد، إن قيمة الحياء في تراجع في كل العالم. جاء هذا التصريح، قبل أيام، في "خطاب الوداع" الذي ألقاه الأمير الأردني الذي يعتبر أول عربي ومسلم يتولى هذا المنصب الرفيع، أمام مجلس حقوق الإنسان، بمناسبة نهاية ولايته. وما دفع زيد بن رعد إلى هذه القناعة هو تزايد القمع في العالم، وتغوّل الدولة البوليسية التي قال إنها عادت لتحكم أكثر من بلد. لكن أكثر ما استفز هذا الأمير الهادئ هو صمت الغرب ولا مبالاته، وأحيانا تواطؤه، وهو يسكت عن انتهاكات فظيعة لحقوق الإنسان، وجرائم بشعة ترتكبها أنظمة مستبدة في حق شعوبها ومواطنيها. ومن أعلى منصبه الذي يعتبر أرقى منصة للترافع عن حقوق الإنسان في العالم، اعترف زيد بن رعد بتراجع الحقوق الأساسية للإنسان في كل العالم، وتزايد انتهاك القيم الأساسية التي لم يعد مرتكبوها يشعرون بالحياء أو الخجل من فعلها، لأنهم يعلمون مسبقا أنهم سيفلتون من كل عقاب. هذا المنحى العام لتراجع الأخلاق والقيم ذات العلاقة بحقوق الإنسان في تصاعد يوما عن يوم في أكثر من دولة تشهد صعود اليمين المتطرّف، وتنامي الخطابات الشعبوية والشوفينية، وفي دول الاستبداد التي أصبح عددها يتكاثر، وتجد لها في النظام الروسي، في عهد قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، وفي الصين تحت حكم الرئيس شي جين بينغ، الذي يسعى إلى تكريس نفسه رئيسا مدى الحياة لأكبر قوة اقتصادية في العالم، نموذجا سيئا يشجع أنظمة مستبدة ومجرمة على المبالغة في الاستهتار بكل قيم حقوق الإنسان ومبادئها المعترف بها كونيا. ونماذج مثل هذه الأنظمة المستهترة بكل القيم الإنسانية كثيرة في منطقتنا العربية، من سوريا التي استباح سفاحها بشار الأسد كل القيم والأخلاق، وهو يتفنن بسادية نادرة، لم يملكها حتى نيرون روما، في قتل شعبه والتنكيل به، إلى مصر تحت حكم دكتاتورها ومستبدها الجديد عبدالفتاح السيسي، الذي لا يتوانى في احتقار كل ما له علاقة بالحقوق والحريات، وهو ينكل بمعارضيه، ويزجّهم في غياهب السجون، حتى يفسح المجال لتنصيب نفسه فرعونا جديدا على مصر، وانتهاء بحكام الإمارات والسعودية المنتشين بقوتهم المالية التي تجعلهم قادرين على شراء صمت العالم، وإخراس كل الأصوات، بما فيها صوت الأممالمتحدة، لينفذوا أكبر جريمة إبادة في عالم اليوم ضد دولة اليمن وشعبه المغلوب على أمره. من دون أن ننسى طبعا مأساة العصر في فلسطينالمحتلة، حيث دولة الاحتلال العنصري الإسرائيلي لم تعد تخجل في تنفيذ سياساتها العنصرية المقيتة، وانتهاك أبسط الحقوق، بما فيها حقوق الأطفال والمقعدين، وهي تنكل بهم وتعتقلهم وتقتلهم على الهواء مباشرة، وبدم بارد وعلى مرأى ومسمع من العالم الصامت. تكاد الفترة التي يمر بها العالم اليوم تكون الأسوأ في تاريخ الحقوق والحريات في العالم، لأن الانتهاكات التي كانت ترتكب في هذا المجال في الماضي لم يكن أغلبها معروفا في حينه، ولم تكن توجد الآليات الدولية الكفيلة بمواجهتها كما هو الأمر اليوم. ويتحمل الغرب بالدرجة الأولى المسؤولية عن هذا التردّي في أخلاق حقوق الإنسان وقيمها، لأنه سبق أن عاش حقبا سوداء من الانتهاكات في مجال حقوق الإنسان، وصعود الدكتاتوريات التي أدت إلى قيام حربين عالميتين طاحنتين، خلفت ملايين الضحايا الأبرياء. وفي مقدمة الغرب تأتي مسؤولية الولاياتالمتحدة الأميركية التي تنصب نفسها رائدة للعالم الحر، فصمت الإدارات الأمريكية المتعاقبة وتواطؤها، وخصوصا في عهد الرئيس الحالي، دونالد ترامب، شجع دكتاتوريات وأنظمة مستبدة كثيرة في العالم في التمادي في انتهاكاتها لحقوق شعوبها والشعوب الأخرى التي تطاولها جرائمها. عادت سياسة الرئيس ترامب بأميركا إلى عهد السياسات التي كانت تنهجها الإدارات الأمريكية منذ خمسينات القرن الماضي وحتى نهاية ثمانيناته، عندما كانت تدعم دكتاتوريات أمريكا الجنوبية. كان ساسة أميركا، آنذاك، ينظرون إلى أمريكا الجنوبية أنها حديقتهم الخلفية، ويعتبرون بلدانها على أنها "جمهوريات موز"، نصبوا عليها أنظمة دكتاتورية تقوم على القمع، ارتكبت جرائم فظيعة في حق شعوبها من قتل واختطافات واختفاء قسري وتصفية خارج القانون واغتيالات وقمع للصحافة وحرية الرأي والتعبير وتقييد للحريات.. وطوال تلك الفترة، عاشت بلدان أمريكا الجنوبية عقودا سوداء، ارتكبت فيها أبشع الجرائم، وأكثر الأعمال البشعة قذارة، وذلك كله بتواطؤ بل وبحماية من الإدارات الأميركية التي لم يكن يهمها سوى مصالحها (..). أمام الإدارة الأمريكية اليوم، خياران لدعمهما في المنطقة العربية، خيار دعم خط الدكتاتوريات، وقد أثبتت هذه السياسة عدم صوابها وعدم جدواها. وهي عندما تختار دعم الدكتاتوريات وحمايتها لا تفعل سوى إعادة إنتاج سياساتها القديمة والفاشلة التي تؤلب ضدها حقد الشعوب وغضبها. والخيار الثاني أن تعيد أمريكا، ومعها الغرب، النظر في سياساتهم تجاه الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة العربية وفي العالم، لأن عدوى الانتهاكات وتآكل الأخلاق والقيم في مجال حقوق الإنسان ستنتقل يوما إلى بلدانها، ليس فقط بسبب تنامي التيارات اليمينية والشعبوية داخلها، وإنما بسبب القتل المنهجي لحاسة الأخلاق عند الأجيال التي تتلقى اليوم إشارات سلبية من حكومات بلدانها، عندما تراها تصمت، بل وتشجع أو تدعم أنظمة تنتهك المبادئ نفسها التي يطلب منهم حمايتها ورعايتها واحترامها في بلدانهم. علي أنوزلا