في بداية السبعينيات صدر كتاب للمفكر Alain Perefitte، كتاب أحمر اللون تحت عنوان «Quand la chine se réveillera»، باللغة الفرنسية أو ما يمكن ترجمته ب» عندما ستستيقظ الصين»، وذلك سنة 1973. قرأنا الكتاب آنذاك ونحن طلبة بكلية الحقوق، كما قرأه كل المهتمين، وكان محور نقاشات في الجامعات وفي النقاش العام الوطني الذي كان يقوده مفكرون طبعوا تلك المرحلة، كما كان مادة للتفكير عندما كان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب يلعب دوره في التثقيف والتوعية والتنشئة على المواطنة وحب العلم والمعرفة والاهتمام بقضايا الفكر التنويري وتطور التقدم العلمي. ولايزال الكتاب بمكتبتي. تحركت دورة الزمن وتحرك معها العالم الغربي، منذ بداية السبعينيات، بخطوات حثيثة، لدحر كل الأنظمة الشيوعية، وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي أولا، وأتى رجل يحمل اسم ميخائيل كورباتشوف، ليدق آخر مسمار في نعش ذلك الاتحاد في 1991-12-26 وأنهى بذلك ما كان يعرف بالحرب الباردة بين الغرب الليبرالي والشرق الشيوعي، وخرج العالم من السياسة الدولية التي يتحكم فيها قطبان إلى سياسة دولية يتحكم فيها قطب واحد. فككت الجمهوريات والدول التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي بعد ذلك التاريخ، وتم توحيد ألمانيا عن طريق ضم شرقها إلى غربها، وحوالي سنة قبل ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي، أي في 1990-10-3، ودخلت هذه الفترة تاريخ البشرية كمحطة ودع فيها العالم، مبدئيا، أي تهديد بالحرب النووية بين كل من الشرق والغرب. انتصر الغرب وافتخر بنموذج عيشه الذي بناه على ركيزتين: الأولى لها بعد وغاية إنسانية لا خلاف حولها، وهي أن الدولة والمجتمع يجب أن يتم بناؤهما وتسييرهما على المبادئ الأصلية في الطبيعة البشرية، وهي مبادئ الديموقراطية المتمثلة في سيادة القانون، الذي يصوت عليه المواطن بواسطة ممثليه المختارين عن طريق الاقتراع المباشر. غير أن الغرب وباقي الدول التي اختارت الديموقراطية طريقة في الحكم، لم يستطيعوا خلق نموذج موحد لهذه الديموقراطية، فاختلفت تلك الدول في ما بينها في طريقة إعمالها لمبادئ تلك الديموقراطية، واحتفظت كل دولة بنموذجها الخاص بها وبمفهومها له وبنمط اقتراعها. لكن من المفاهيم الكبرى للديمقراطية الثانية، هي بناء الاقتصاد على الليبيرالية وعلى اقتصاد السوق، أي ترك باب المنافسة التجارية وبالتالي الاقتصادية والمالية مشرعا وحرا، والغلبة للأقوى علما وإنتاجا. تحركت الدول الأوروبية من أجل ملء الفراغ الذي أحدثه غياب قطب كبير مثل الاتحاد السوفياتي، وما ترتب عن انكماش دولة روسيا لمواجهة المشاكل التي نتجت عن ذلك التفكك، على الخصوص تزايد المطالبة باستقلال كل الجمهوريات والدول التي كان يتكون منها ذلك الاتحاد. بدأت الدول الأوروبية بخطوات صغيرة، تمثلت في حدود سوق أوروبية تتبادل فيها المنافع التجارية، غير أن خروج الاتحاد السوفياتي من دائرة الملعب الدولي حفز الدول الأوروبية على العمل بأن يكون لها موقع قدم في السياسة الدولية، حتى في مواجهة الحليف الأمريكي، بالرغم من أن صوت دباباته لاتزال ترن في آذان الأوربيين عندما نزلت في شواطئ نورماندي، في ما بات يعرف بعملية « Neptune «حينما حضر شباب أمريكا لإنقاذ أوروبا من قبضة النازية. تفكك الاتحاد السوفياتي لم يخلق فقط فراغا في الساحة الدولية، ولم يفتح أعين الأوربيين علي خلق تكتل خاص بهم لملء ذلك الفراغ، بل كشف للعالم أن دولا كانت من المكونين للاتحاد السوفياتي الشيوعي، لكنها دول مسلمة احتفظت بدينها تحت حكم الشيوعية، شغلت العالم بعد ذلك عندما شعرت بأن العالم الغربي الذي استعملها في مواجهة الاتحاد السوفياتي يريد أن يتخلى عنها لتواجه مصيرها، مما هيأ أرضية خصبة لكل أشكال العنف. لم ينتبه الغرب إلى الأخ الآخر للاتحاد السوفياتي، النائم، أي دولة الصين، والتي يظهر أنها طبقت سياسة القنفد ولم تحرك ساكنا وهي ترى وتتفرج على تفكك حليفها الإيديولوجي. حقا كانت هناك خلافات، لم تكن فقط بخصوص الحدود المشتركة والشاسعة بين البلدين، بل كانت كذلك على المستوى الفكري والإيديولوجي، والتي ليس المجال للحديث عنها الآن. تركت الصين الاتحاد السوفياتي يواجه مصيره وحده، وفي الوقت الذي كان الغرب مزهوا بانتصاره على الاتحاد الشيوعي، كانت الصين تعيش ثورة داخلية، ليست سياسية ولا فكرية، بل ثورة على مستوى بناء الإنسان الصيني تعليما وانضباطا، لتواجه به العالم الآخر في ما بعد. استيقاظ الصين داخليا كان هادئا، بينما الغرب لم ينتبه لذلك بل نسي كتاب ، Alain Perefitte واستيقاظها تمثل في استيعابها وفهمها أن عصب الحياة وقلبها النابض هو التجارة، أي عملية التبادل التي تجني منها ربحا، لكنها استوعبت كذلك، وبكل قوة، أن التجارة لا تنمو ولا تعيش ولا تزدهر مع إدارة مركزية، وبالأخص إذا كانت تلك الإدارة المركزية شيوعية. خلقت الصين لنفسها ما يخالف الفكر والمنطق الليبرالي السائد، والذي يدرس في أكبر الجامعات الغربية الاقتصادية، والمتمثل في كون النظام الاقتصادي المبني على اقتصاد السوق هو الابن الطبيعي للأنظمة الديمقراطية، وأنه لا اقتصاد ليبرالي بدون نظام ديموقراطي. طبقت الصين نظاما اقتصاديا ليبراليا مبنيا على حرية السوق لكن بواسطة نظام شيوعي صارم، وحزب شيوعي واحد صارم، وبمحاصرة للحريات الفردية والجماعية لما يقرب من ملياري مواطن. وفرضت على واضعي كل النظريات في علم السياسة الحديثة التي تربط الليبرالية الاقتصادية بالأنظمة الديمقراطية، فقط، فرضت عليهم إعادة ترتيب وقراءة نظرياتهم، وقالت للعالم: «أنا الصين يمكن أن أسس نظاما اقتصاديا ليبراليا مبنيا على اقتصاد السوق لكن بواسطة نظام شيوعي صارم وحزب وحيد». تأخر العالم في الانتباه إلى ما يجري في دولة الصين، ولم يهتم إلا بمطاعمها وأنواع أطباقها التي تحافظ على رشاقة الجسم ولا تزيد في الوزن، الذي أصبح هم الغرب وموضوعه التلفزيوني المفضل. لعبت الصين اللعبة، وكثرت من مطاعمها عبر العالم ونوعت من أكلاتها، فكانت تلك المطاعم هي رجلها الدبلوماسي المرحب به، يرتادها علية القوم وأدناهم. بدأت الصين تزود العالم بسلع صغيرة بثمن صغير وبأقل كلفة، بسبب قلة الأجور التي تفرضها على اليد العاملة الصينية، وغالبا ما تكون تلك السلع جذابة في منظرها. استغلت ولعبت على عقلية الربح أولا، التي تحكم الفكر الاقتصادي الغربي، بل الليبرالية المتوحشة التي تعتبر أن السوق هو الذي يجب أن يتحكم في السعر وفي المنتوج، وليس الاعتبار لحاجة الإنسان كإنسان. بل إن العالم الغربي وثق تلك الفكرة في قانون دولي يلزم كل الدول، وهو التوثيق الذي تم بواسطة اتفاقية «الكاط» التي تم التوقيع عليها في مدينة مراكش في 1995-4-15، والتي أصبحت تحمل اليوم اسم المنظمة الدولية للتجارة، وهي الاتفاقية التي ينص قانونها التأسيسي على حرية تنقل البضائع ورؤوس الأموال وليس الأشخاص. لم تقدم الصين للعالم بضاعة رخيصة فقط، بل قدمت له يدا عاملة مؤهلة من جهة ورخيصة من جهة أخرى، مما أدى إلى استقطابها لكبرى الشركات الدولية، أخرجت الصين تلك الشركات من دولها واحتضنت صناعاتها على أرض بلاد الصين، في ما يعرف ب la délocalisation. جرت تلك الشركات الدولية وراء الريح السريع والكبير، الذي كانت تقدمه دولة الصين لكل من يطأ أرضها، ولم تنتبه تلك الدول لهذا الفخ إلا بعد تعرضها لهذا الوباء لتكتشف أن جل الأدوية وغيرها تصنع في الصين، إما من طرف شركات صينية أو شركات غير صينية، لكن مصانعها توجد فوق أرض الصين تشغلها أطر وأيد عاملة صينية. بانتقال الشركات الكبرى للصين اتهمت هذه الأخيرة بتقليدها لأهم الصناعات والعلامات التجارية العالمية. لكن الدول المالكة لتلك الصناعات ردت عن طريق المنظمة العالمية للتجارة بسن قوانين قوية وصارمة لحماية الملكية الفكرية والصناعية والتجارية، كما تم تجريم المنافسة غير المشروعية وتجريم كل أنواع التقليد وواكب قضاء بعض تلك الدول كل ذلك بإصداره أحكاما بتعويضات خيالية. غير أن الصين أفشلت تلك الترسانة من القوانين التي كانت تعاقب على تقليد منتوجات الشركات الكبرى الغربية، وهو التقليد المتمثل في إنتاج نفس السلع أو العلامة التجارية بأقل جودة وبيعها بأقل ثمن، بطريقة جد ذكية تتمثل في تقديم صناعات مماثلة لكن أكثر جودة وأغلى ثمنا. ستطفو على الساحة الدولية دولة الصين، مرة أخرى، كقوة مالية حقيقية بمناسبة الأزمة التي ضربت أمريكا في سنوات 2007 و2008 ،عندما سينهار 19 بنكا كبيرا في أمريكا، وعندها ستضطر و.م.أ، رائدة المبادرة الحرة ومتزعمة برامج الخوصصة في العالم، إلى التدخل كدولة لتأميم بعض البنوك عن طريق دعمها ماليا خوفا من انهيار النظام الاقتصادي الأمريكي وبالتالي انهيار النظام الاقتصادي العالمي. هذا الأخير الذي ربط نفسه مباشرة بعد الحرب العالمية بالدولار الأمريكي كوحدة نقدية وحيدة في كل تعاملات التجارة الدولية. الكساد الذي سيعرفه الاقتصاد الأمريكي، والذي اعتبر بأنه أخطر من الأزمة المالية التي عرفها العالم في سنة 1929 والخوف من الانهيار الكلي للدولة الأمريكية سيجد في دولة الصين المنقذ الاقتصادي والمالي، وذلك عندما عرضت الصين شراء عدد كبير من السندات الأمريكية بمئات الملايير من الدولارات، لتصبح اليوم أول دائن للدولة الأمريكية. بعد الانتخابات التي حملت الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، سيجعل هذا الأخير من بين مهامه محاصرة تمدد الاقتصاد الصيني، وطنيا ودوليا، بعدما تنبه إلى الاستثمارات الكبرى التي قامت بها دولة الصين في إفريقيا، وحتى في أوروبا وأمريكا، مستغلة انفتاح أسواقها، وترجم ذلك بالضغط على الصين لمراجعة عدد من الاتفاقيات التجارية بين البلدين، وانتهت عملية الضغط تلك بقبول الصين التوقيع على اتفاقية تقبل بواسطتها شراء منتجات أمريكية بقيمة 200 مليار دولار، سواء كانت في حاجة لها أم لا، والكل لاحظ أن الرئيس الصيني تغيب عن الحضور لتوقيع تلك الاتفاقية، بالرغم من كونها وُقعت من الجانب الأمريكي من طرف الرئيس الأمريكي ترامب شخصيا وفي البيت الابيض، بينما حضر ووقع عليها معه من الجانب الصيني شخصية من الصف الثاني أو الثالث، كما لاحظ الجميع طريقة السلام التي تعامل بها ممثل الدولة الصينية في ذلك اللقاء. بعد هذه الفترة سيبدأ الحديث عن تقهقر في النمو الاقتصادي بالصين، الذي كان يعرف أرقاما قياسية مثل 11 في المئة كل سنة، وهي النسبة التي بدأت تنخفض باستمرار. واكب كل ذلك الحديث عن مرض من نوع الزكام يسمى كورونا في إحدى المدن الصينية، لم يعطه العالم أهمية وعلى رأس هذا العالم أوروبا وأمريكا، إما بناء على خطأ كبير في التقدير أو بناء على ثقة زائدة في النظام الصحي لهذه الدول. استمر الاقتصاد الصيني في التراجع ولم يتوقف، وأصبحت الأخبار تتوارد على أن الصين انشغلت بذلك المرض وتأثر اقتصادها به ولم تبق له نفس القوة الإنتاجية. تذكر العالم أن ما يقارب 30 في المئة من الاقتصاد العالمي يعتمد فيه على دولة الصين، وأن 60 إلى 70 في المئة من المواد الرئيسيةles « molécules «في عدة صناعات تكنولوجية في مجال الصحة والإليكترونيات المتقدمة، مثل رقاقات الهواتف الخلوية، وفي عدد من الميادين، تصنع في الصين من طرف شركات صينية أو من قبل شركات أجنبية، لكن داخل بلاد الصين أي بيد عاملة صينية، وأن أي توقف في الحياة الاقتصادية في الصين سيكون له تأثير كبير في جميع الدول العالم وستشعر به جميع الأسر الغربية والدولية على السواء. انتشر المرض في الصين واضطرت المنظمة الدولية الصحية إلى إعطائه وصف الوباء معلنة خطورته على البشرية جمعاء، فتوقف العالم منتظرا مصيره، وهرع، وعلى رأسه أمريكا، لمحاولة إنقاذ الصين، بعدما كانت هي العدو الذي يجب هزمه، ليس خوفا من انهيار النظام الاقتصادي الدولي بكامله فقط بل خوفا من انهيار نموذج عيش الإنسان الأوروبي وكذا إنسان كل العالم. اكتشفت الصين لوحدها، وبدون مساعدة من أحد، علاجا للوباء بالمجان، وبدون تكلفة مالية تذكر، وبدون حاجة لاستجداء المختبرات العالمية الغربية، وهو العزل ثم العزل والمنع من التنقل ثم المنع من التنقل. اهتز الفكر الحقوقي الحامل لهموم حقوق الإنسان وحقه المطلق في الحركة وحرية التنقل، ردت الصين بتشديد إجراءات العزل والمنع من التنقل ليس لأشخاص معينين بل لولايات بكاملها تتكون من عدة مدن، وشاهد العالم كيف أن رجال الأمن في الصين كانوا يقفلون أبواب بعض المنازل على أصحابها بالخشب والمسمار والمطرقة. هلع وخوف، أعاد الناس إلى تذكر ما كان يقع في القرون الماضية في حالات الأمراض الكبرى كالطاعون مثلا. بدأت تصل، بعد ذلك، أخبار عن نجاح هذا العلاج الصيني الفريد من نوعه، والذي مس بحقوق الناس في حرية التنقل والحركة. فطنت بعض الدول للأمر وطبقت نفس الوصفة للاستفادة من التجربة بتصرف بطبيعة الحال، وشككت دول أخرى فيها، خصوصا في البلدان التي لم تستطع أن تجبر مواطنيها على البقاء في منازلهم وأن تمنعهم من التنقل، بسبب ما على عاتقها من إلزامية احترام الحريات الفردية والجماعية، التي هي سر وجودها، وهي الحريات التي لا تحتل أولوية بالنسبة إلى دولة الصين، والنتيجة في هذا الصنف الأخير من الدول الانتشار المروع للوباء في إيطاليا، مهد الديمقراطيات وموقع روماالمدينة، وانتشاره كذلك في إسبانيا البلد المتوسطي الذي يلاحقه الوباء بخطى سريعة، كما تأخرت أمريكا في الاستفادة من تجربة دولة الصين، ربما بسبب نوع من الأنفة والكبرياء، لتجد نفسها تحتل اليوم المرتبة الأولى في عدد المصابين، إذ تجاوزت دولة الصين ودولة إيطاليا، لأنها عجزت عن مواجهة الوباء بعلاجه الوحيد المتاح اليوم ألا وهو العزل ثم العزل. المفارقة ومكر التاريخ يتجلى في كون الصين تعرض اليوم على أمريكا مساعداتها لتدبير مواجهة الوباء، بل لقد شاهد العالم كيف نزل أطباء وأطر طبية من دولة الصين ودولة كوبا، الدولة الشيوعية، وسط هتاف وتصفيق من الإيطاليين في أحد مطارات إيطاليا، أتوا من بلد شيوعي لإنقاذ إيطاليا، الدولة الغربية الديموقراطية، بعدما تخلت عنها دول غريبة ديموقراطية أخرى، وأتت الضربة القاضية لما سمي بالتضامن الأوروبي والغربي، من صرخة رئيس دولة صربيا وهو يدين كل دول الاتحاد الأوروبي ودول العالم الغربي، الذين تركوا بلاده عند الباب تستجدي معونة تلك الدول، ولم يرد عليه أي أحد، فاختار هو كذلك اللجوء لدولة الصين، بعدما أدان تلك الدول بأقوى العبارات في الخطاب الذي ألقاه، مؤخرا، على مواطنيه. فهل سيبقى العالم كما كان قبل زيارة كورونا له؟ للحديث بقية…