إن تيار التحديث و العصرنة يفرض علينا ان نعيد النظر في منظومتنا التربوية بشكل ثوري وجريئ وذلك بالبدء بتغيير فلسفة وبنية وأوضاع الادارة التربوية بدءا من اعتماد اللامركزية كاختيار استراتيجي لا محيد عنه في عملية التغيير . وكل تغيير في اوضاع الادارة التربوية تستتبعه بالضرورة عمليات اعادة النظر في التنظيم الداخلي لمستويات و اقسام هذه الادارة حتى تكون اكثر استجابة للحاجيات وأكثر قدرة على مواجهة كل المشكلات المستجدة والجديدة .وتكمن اهمية التحديث في رفع درجات تكيف التنظيم الاداري لتكون أكثر استجابة للحاضر والمستقبل . هذه الاستجابة لن تتحقق إلا باعتماد اللامركزية الادارية التربوية والتي تقرب الاداري التربوي من مصدر المشكلات التعليمية التعلمية في مختلف مظاهرها المادية والمالية والبشرية والاجتماعية والمعرفية . واللامركزية في الادارة التربوية هي استثمار البعد العقلاني في تدبير الشأن التربوي وتجاوز النمطية البيروقراطية للإدارة التقليدية صعودا ونزولا من ادنى مورد بشري -عون -الى اعلى مسؤول اداري تربوي . بهذا الفهم تصبح اللامركزية في العمل التربوي نموذجا للتعامل القائم على التواصل والتواصل لا يمكن ان يقوم على اسس ثابتة إلا اذا ارتكز على اسس العمل الجماعي وروح التعاون بين جميع اطر الادارة التربوية مديرين ونظار وحراس عامين وملحقي الادارة والاقتصاد ومستشاري التوجيه وغيرهم من اطر وأعوان الادارة التربوية. بهذه الكيفية الادارية البديلة والجديدة يمكننا الانتقال من الاتجاه الرأسي البيروقراطي الى الاتجاه الافقي الديمقراطي الفعال وبهذا الانتقال تتغير البنية التنظيمية والعلاقات الوظيفية و الانسانية حيث يسهل حل كل المعضلات والمشاكل الطارئة في الميدان وفي المؤسسة بدل انتظار القرارات الفوقية القائمة على مبدأ التسلسل الاداري الراسي المتحكم من الاعلى الى الاسفل . يقول (وليام ه-ريد) ان الناس الذين يتصرفون ويتواصلون عبر خطوط افقية مع اخرين على نفس المستوى التنظيمي يتصرفون بشكل مختلف مع الذين يعملون ويتواصلون عبر الخطوط الصاعدة -النازلة لسلم المراتب ويمثل تسطيح مستويات التواصل عبر الخطوط الافقية ضربة قوية لما كان يعتبر من المقدسات البيروقراطية . اننا في مرحلة حاسمة تقتضي قيام مجتمع تربوي جديد من خلال ارساء ادارة تربوية فاعلة وناجعة .يقول (ايرازمس)-سلمني ادارة التربية ردحا من الزمن اتعهد لك ان اقلب وجه العالم بأسره-كما ان من ثوابت علم الادارة تقنين و نمذجة العمل الاداري بما يوفرعطاء وشفافية وفعالية اكبر. وهذا لا يمكن توفره إلا عند بناء التسيير الاداري على اسس العمل الجماعي وروح التعاون بين اعضاء الادارة دون وجود حواجز بيروقراطية او مسؤوليات متضخمة لدى هذا المسؤول او ذاك .ان المرحلة التي نعايش فيها اليوم ادارة تربوية متآكلة ومتأزمة تتطلب منا تكتل جهود الاطر الادارية التربوية للسعي نحو الارتقاء بالإدارة التربوية وتأصيل ثقافة الاشراك في التسيير مع تحطيم وتدمير كل الاساليب العمودية في التسيير والتدبير للشأن التربوي حتى لا نكون نحن الاداريين حراسا للنصوص والتعليمات فلا نتصرف كقوة مصححة ومعالجة من موقع الاسانيد المعرفية والتربوية التي تؤطرنا لأي خلل او اعوجاج في الشأن التربوي فنبقى متذرعين ومحتمين بالتطبيق الجاف للإجراءات التنظيمية والقانونية في منطوقها السلبي. وهذا ما يجعل من المدير والناظر والحارس العام وغيرهم يتخذون هذه المسلكيات مشجبا يعلق عليه كل واحد فشله . وهنا يحصل الاصطدام بين ارادة التغيير مع الممارسة الادارية ذات الرؤية المحافظة ،لأن ادارتنا التربوية ليست في حاجة الى اطر ادارية تغيب لديها الروح الجماعية في العمل التربوي كما انها ليست في حاجة الى مدير تجمع كل السلط في يده او يتحكم بعقلية الاداري المركزي او يتحرك خارج الغلاف الجوي التربوي . ان هذه الملاحظات التي ابديناها حول الادارة التربوية وأهميتها جاء ت بموازاة مع سلسلة من النضالات التي خاضها رجا ل ونساء الادارة التربوية في السنوات الاخيرة .ولكن رغم هذا العنفوان النضالي والإقدام الاحتجاجي الذي اسس لانبعاث تيار اداري تربوي لم يعد يقبل لغة الصمت ولا لعبة التسويف ولا الولاء الاعمى وطأطأة الرأس،لكن حين نتوقف عند بنود ملفهم المطلبي نجد الالحاح القوي على ايجاد اطار خاص بالمديرين مع تفييئهم الى درجات،مما سيدخل هذه الفئة بكاملها الى متاهات فئوية ضيقة هذا في درجة متقدمة وذاك في درجة متوسطة والآخر في درجة دنيا وكأننا نقيم نظاما اداريا متشرذما نفيء ونميز ونفضل و و و وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه اطر التفتيش حين فيأت اطرها بين المفتش المركزي و الاخر جهوي والثالث -مقاطعاتي - ذاك ممتاز والآخر -عادي- فلم يحققوا شيئا لفئتهم لا نضاليا ولا مطلبيا وهو نفس ما حصل لفئات اخرى من اطر التربية والتكوين التي خرجت من جبة التدريس وأرادت ان يكون لها اطار خاص كالممونين والموجهين والملحقين التربويين كلهم فشلوا في معاركهم ونضالاتهم لأنهم اختاروا ان يناضلوا خارج اطار نضالات رجال ونساء التعليم كافة حين اختاروا النضال الفئوي على النضال الوحدوي وقد يصيب الفشل كذلك نضالات المديرين اذا ما اختاروا الانعزال والعزلة عن la masse او عن كتلة الاساتذة والمدرسين قبل ان ينعزلوا عن رفاقهم في الادارة التربوية هؤلاء الذين هم قوة لا يمكن ان تزعزعها القرارات الحكومية المجحفة او التهديدات من الاقتطاع او غيرها ويمكن ان نستحضر كيف ان الحكومة السابقة والوزيرين في التعليم والمالية في الحكومة السابقة تراجعا عن قرارهما بالاقتطاع من الاضرابات التي خاضها رجال ونساء التعليم بجهة سوس ماسة درعه بعد انتفاضتهم النضالية ضد القرار الحكومي الجائر فانتصروا بوحدتهم وقوتهم على اعلى سلطة حكومية وان كان يعتقد البعض ان الاوضاع الان هامدة ولكنها غير مستقرة وقد تعود الى ما كانت عليه او اكثر اذا ما استمرت السياسة الحكومية في صم الاذان والضرب تحت الحزام بالاقتطاعات والتهديد بالإيقاف او العزل . ان مصيرنا كرجال ونساء الادارة التربوية رهين بارتباطنا الابدي والتحامنا الدائم مع كافة اطر التربية والتكوين بحكم اننا جزء لا يتجزأ من المجتمع التربوي. فنحن -اساتذة ومدرسين- لنا خبرة وأقدمية في التدريس والتكوين والتأ طير .ولذا لا يمكن لأحد ان ينزع منا هذه الصفة التربوية- الاستاذية بها نفتخر وبهذا نتميز عن باقي المهن والوظائف .بهذا نقدم انفسنا كحاملين لرسالة تربوية ولن نسمح لأي كان ان يغير من هويتنا التربوية التدريسية ،وإلا فنحن سنقبل العودة الى فصولنا الدراسية حفاظا على مهنتنا التي هي افضل من الاطار. فالهرولة نحو البحث عن اطار يمحي عنا صفة (الاستاذ)ما هو إلا بحث عن نوع من التماهي مع اطر الادارة الترابية او اطر الادارات العمومية. ان السيد المدير اذا كان يبحث عن اطار يميزه عن غيره فما هي قواعد العمل الجديدة التي ستنشأ بينه وبين باقي الاطر التربوية الادارية العاملة معه في الحدود الترابية لمؤسسته (النظار والحراس العامون وكذا الملحقون التربويون والممونون ) فهل ستنشأ مع حركة المطالبة بالإطار حركات اخرى فئوية موازية يقودها النظار وبعدهم الحراس العامون الى ان تتحول الادارة التربوية الى شبه فدرالية ادارية مكونة من اطر ادارية متنازعة ومتصارعة عوض العمل لتأصيل ثقافة الاشراك في التسيير والتدبير. ان الاحساس اليوم واضح بوجود تنافر ينتاب المكونات البشرية لفضاء الثانويات والمدارس بين المدرسين واطر الادارة التربوية فيما بينهم اوفي علاقاتهم بالمشرفين التربويين او الاطر الادارية بالنيابات والأكاديميات وصور ذلك التنافر والتوتر تظهر في مسلكيات كثيرة وفي احتجاجات متواصلة نتابعها في البيانات النقابية والجرائد الوطنية. ان الفيلسوف الفرنسي لوبرو يرى ان أي تغيير جذري شرطه الاساسي هو تغيير الانسان ولذا فهو يستخف بالفكرة القائلة بأننا ان امسكنا بزمام السلطة وصلنا بالضرورة الى تغيير وتطوير المجتمع لذا فهو يؤكد ان اقامة شكل جديد من التربية اهم بكثير من تغيير النظام السياسي بأسره وتماشيا مع هذا الطرح نرى ان التغيير عبر التربية المدرسية قد يكون ثورة صامتة على الاوضاع السائدة . وانسجاما مع هذه القولة، فالإدارة التربوية هي من احدث هذه الادارات لكنها الاخطر على الاطلاق لان ادارة التربية لا يقودها سلطويون او امنيون او بيروقراطيون وإنما يقودها رجال ونساء التربية المتمرسون بالتدريس والتكوين مكلفون بتأهيل الموارد البشرية عبر اجيال من المواطنين وإعدادهم للمستقبل. وهذا ما جعل بعض البلدان الاوربية تتجه الى تأسيس معاهد وعلوم متخصصة في ميدان الادارة التربوية استجابة منها لدواعي الحداثة والتقدم. ولقد ظل المغرب في منأى عن ايلاء الاهمية للتكوين الاداري التربوي مما جعلنا نرث ادارة تربوية غير فاعلة وغير مهيكلة وغير مجدية لأنها لاتزال تدبر برأس واحدة وليس بفريق وبالتالي سنبقى نردد تساؤلات محرقة من قبيل : كيف يمكن الارتقاء بالإدارة التربوية في ظل مؤسسات تعليمية ومنظومة تربوية تحبل بأنواع شتى من التناقضات اوصلتها الى الفشل ؟ كيف نسعى الى ادارة تربوية حداثية في حين نصطدم بإدارة تربوية بيروقراطية منحرفة تضع نفسها موضع اتهام ؟ كيف لإدارة تربوية تفسح المجال لممارسات تنعدم فيها الاستشارة الداخلية او توسيع دائرة التشارك وتصبح فيها الديمقراطية مفهوما غريبا ؟ كيف لإدارة تربوية يسعى اهلها الى اخلاء سبيل مهنة التدريس مقابل الحصول على اطار يحمي المصير الذاتي دون المصير المهني؟ فما الافضل : المهنة التربوية ام الاطار الاداري ؟ استاذ باحث ومدير ثانوية -انزكان