على سبيل التقديم: للأدب أهمية خاصة عند الإنسان، باعتباره متنفسا فسيحا لتفريغ كلّ الأحاسيس والمشاعر في قوالب أدبية مسبوكة، ومن ثمة يحضرنا الدور الفعّالُ الذي يشغل هذا الأدب داخل المجتمع الإنساني. إنه الإناء الشاسعُ الذي يتسع لكل تلاوين النفس الإنسانية المعقدة والمركبة تركيبةً تجمع بين كلّ المتناقضات على اختلاف أنواعها؛ فالذات الإنسانية: تسعد وتحزن، تضحك وتبكي، تحس وتتجمد، قد ترتفع إلى سموها، وقد تنحطّ إلى أسفل سافلين، وكل ذلك يعزى إلى الظروف الاجتماعية التي تشكل هذه الذات. فللعقيدة دورٌ فعال، كما أن للإيديولوجيا أثر بليغ في توجيه منحى حياة الأشخاص، وبكلمة واحدة، أقول إننا نتنفس الأدب ونحيا به، ونتدبر داخليا إذا غاب المجالُ الرحبُ لتفريغ هذه المشاعر في أشكال أدبية عدة؛ قد تكون شعرا أو نثرا، قصة أو مسرحية، خاطرة أو روايةً. تبعا لذلك، يظهر لنا دور الأدب في المجتمع الإنساني على اختلاف نمط تفكيره ورؤياه وتوجهاته في الحاضر والمستقبل. بناءً على ما سبق، نشير إلى أننا سنقوم بقراءة بسيطة لرواية أدبية حاملة لكل معاني الأدب، والتي قرأناها من ألفها إلى يائها دون أن نشعر بملل أو كلل. وهي رواية» نبض» لأدهم الشرقاوي. تجدر الإشارة إلى أننا ملزمون بالانطلاق من المضامين العامة لفصول الرواية، على اعتبار أنها تتكون من أربعة فصول، كل فصل يعالج ثيمة إنسانية متعددة. فصول الرواية: الفصل الأول: طبول الحرب تقرع في هذا الفصل تحدث الكاتب عن قضايا إنسانية كبرى، علاوة عن ظواهر اجتماعية أيضا، ويتجلى ذلك في مفهوم الحرب، باعتبارها ظاهرةً اجتماعيةً، لها حضورٌ بارز في حياة الإنسان على اختلاف مراحلها. فنحن لا نختار الحرب باعتبارها دمارا إنسانيا وفكريا واجتماعيا واقتصاديا، وإنما كانت الحربُ، ومنذ القدم، وحشا ضاريا يختار ضحاياه دون أن يختاروه، يعصف بهم في صمت ومن حيث لا يحتسبون، كما أن الحرب صديقة للموت، فكلاهما يستدعيان بعضهما البعض. فأينما وجدت الحربُ فثمة موت مباغت وحتمي. في هذا الفصل حاول الكاتب أن يطلعنا على معنى الحرب في الذات الإنسانية، وكذا الخسائر الروحية والمادية التي يتكبدها الإنسان، فضلا عن فقدان أكبر شيء فيه، ألا وهو القيم بمفهومها الإنساني. لقد أشار ابن خلدون، منذ زمن مضى، إلى فكرة جوهرية، وهي أن الغالب يفرض قيمه على المغلوب، هذه الفكرة التي لم تتغير منذ ابن خلدون، ظلت حيةً إلى أيامنا هذه، وستظل إلى أن يرث اللهُ أرضه ومن عليها من الأنام. وحتى لا نقع في إعادة سرد أحداث الرواية بكل تفاصيلها، حتى وإن كان كاتبها يحبّ الغوص في التفاصيل، فإننا سنختصر كلامنا في: إن الكاتب أودع أفكاره وأحاسيسه في أسلوب أدبي بليغ، يحمل نفسا سارديا سلسا، إنه الأسلوبُ الخالي من التكليف والذي يسري في النفس، كسريان النار في الهشيم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يحضرني الزخم المعرفي الذي قدمه الكاتب في روايته هذه، وذلك لكونه على اطلاع عام بكل النظريات الغربية الحديثة: الواقعية، الشيوعية، الرأسمالية… كل ذلك بغية تصوير أهمية الإنسان أولا باعتباره غايةً ساميةً، والدين ثانيا، باعتباره طريقا مشروعا للإنسان، يحتفل به إن قصده، ويرفضه إن تكلف فيه وتخلف. الفصل الثاني: طبول الذاكرة تقرع للذاكرة أهميةٌ كبيرةٌ في حياة الإنسان. إنها الخزّان والمستودع الذي يحتفظ فيه بماضيه، ويخلد عبره حاضره، ويكتب تاريخه وتجاربه، حروبه ومعاركه، أفراحه وأتراحه، تصوره وتفكيره. بكلمة واحدة أقول إن للذاكرة الإنسانية يدا طويلةً في تخليد الإنسان كفكر وتاريخ بعد موته. ومن ثمة، تحضر أهميتها داخل الشعوب والمجتمعات، فمن لا ذاكرة له لا ماضي له، ومن لا ماضي له لا وجود له، إنما أضحى في خبر كان، بل أيضا، في مزبلة التاريخ، وكلّ ذا وذاك، يحدث حينما ينسى الإنسان ذاكرته ويهملها. في هذا الفصل عاد بنا الكاتب إلى ذاكرته في قريته، وفي هذا السياق استحضر مجموعةً من الشخصيات التي لها خصائصُ ومميزاتٌ معينةٌ جعلتها تخلّدُ في ذاكرته. قدم ذلك في شخصيات عديدة عرفت بجنونها وغرابتها، ليجد بعد ذلك، طريقا للحديث عن أهمية الجنون داخل المجتمع، فهو كالملح داخل المجتمع؛ لأن حضوره يعدّ ضروريا، ومن ثم دعوة الكاتب إلى دراسته دراسةً جادّةً، وباعتباره ظاهرةً اجتماعيةً تستحق البحث والدراسة كأي ظاهرة. الفصل الثالث: طبول القلب تقرع يعدّ الحبّ قيمةً إنسانيةً بامتياز، فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم، وفي سنة النبيّ، عليه الصلاةُ والسلامُ. ومن ثمة، قدمّ لنا الكاتبُ تجربةً في هذا المجال رفقة بطلة روايته، وهذه الفتاة هي «نبض». عموما فإن اللغة قد استطاعت إطلاعنا على هذه الشخصية بكل مقوماتها الداخلية والخارجية، من خلال تصوير الكاتب لها في قالب أدبي بليغ ومحكم. وفي قلب هذه التجربة وجودٌ بارزٌ لقضايا إنسانية عديدة. الفصل الرابع: طبولُ الفقد تقرعُ لقد علمتنا تجربتُنا في القراءة لشخصيات روائية عدة أن النهاية تكون محزنة للغاية، فمن خلال نهاية الرواية، تبين الشبه الموجود بين هذه النهاية، ورواية جبران» الأجنحة المتكسرة»، فكلتا الروايتين تضمنت نهاية حزينة تلخصت في موت عاشقة أو حبيبة الكاتب. – الأمكنة والأزمنة: في هذه الرواية، ثمة دور مهم للمكان، فالكاتب اختار لروايته أماكن مفتوحةً، كالجامعة والشارع والحديقة. كلها أمكنة أسهمت في تطويع عملية السرد، وفي توطيد علاقة السارد بالمسرود، لدرجة أننا نرى المشهد من خلال دقة الوصف والتصوير التي ضمنها الكاتب عمله الأدبي. أما الزمان، فإن له حضورا واضحا ومتنوعا، يختلف باختلاف سياقات الكلام، ومقامات السرد والحكي. تبعا لذلك، يمكن القول إن الزمان والمكان قد أسهما في تطويع بنية الأفعال اللغوية لتلائم المقامات والإيقاعات السردية المتنوعة. – الحوار في الرواية: يعدّ الحوار خاصيةً من خاصيات الأجناس النثرية الحديثة. ففي هذه الرواية يبدو جليا، أن الحوار قد أسهم وأسعف في نقل الأحاسيس، وفي تمرير القيم الإنسانية، والأهداف التي سعى الكاتب ترسيخها في نفوس متلقيه. – البعد التناصي في الرواية. بما أن التناص هو التداعي والتضمين بين النصوص، فإن الكاتب زاوجه بالاقتباس. ذلك أنه قد جاهد إلى خلق علاقة تناصية وثيقةٍ بين عمله، وأعمال إبداعية أخرى تنتمي للجنس الأدبي نفسه، وللقضايا الإنسانية نفسها. كما أن الاقتباس حاضرٌ بقوة في العمل. فالكاتب قد مزج بين أجناس أدبية عديدة، ويتجلى ذلك، في اقتباساته من الشعر العربي في مختلف مراحله ومحطاته البارزة، كلّ ذلك، أضفى على العمل لونا أدبيا رفيعا وخلابا وجذّابا. وهكذا، فإن الرواية تضمنت قضايا إنسانية كثيرة، ومعرفة إنسانية جديرة بالاهتمام. أخيرا، أود التنويه بهذا العمل الجميل المتميز، وبكاتبه العارف بالأساليب الأدبية والبلاغية الرفيعة، فما أحوجنا لمثل هذه الأعمال التي تجمع بين مداعبة القلب برقة المشاعر، ومجادلة العقل بالمعرفة الجديرة بالاهتمام. وأنت تقرأ هذا العمل تجد نفسك مطالبا بجعل العقل والقلب أبناء رحم واحد، حتى تفعل الجمع بين المتناقضات وحلاوته وجماليته.