سيبقى ذلك الشريط الأسود معلّقا على شاشات التلفزيونات العربية ما دمنا نعيش زمانا عربيا ليس فيه سوى الدمار والتشظي والقتل باسم الدين. في مصر وسوريا وليبيا واليمن والعراق، وفي أطراف أخرى أقل أو أكثر، أصبح الموت هو فطور الصباح الذي يتناوله العرب من المحيط إلى الخليج. ولا يبدو أن هناك أملا، أو حتى بصيص أمل، في تغيير موائد الإرهاب لتصبح موائد أمن وإنتاج وإبداع. الشبان العرب أخذوا في تاريخهم الحديث إلى مقصلتين: مقصلة الأنظمة الفاسدة والمعطّلة للديمقراطية والرأي الحر، ومقصلة الجماعات الرجعية المتطرفة، التي ليس لديها مانع من أن تتنازل عن ملابسها الداخلية طالما أن ذلك سيمكنها من غاياتها السياسية ويقربها من كراسي صناعة القرار. يحدث هذا من جماعة (الإخوان الفاسدين) ومن جماعات أخرى أصبح حصرها صعبا من كثرتها وتعدد تخريجاتها العقائدية والمذهبية. قبل يومين فقط كان وفد من جماعة الإخوان يحل ضيفا على وزارة الخارجية الأميركية، ليس لتناول القهوة والكعك طبعا، وإنما لطلب نصرة أميركا والغرب على وطنهم الذي يُطعن الآن طعنات بالغة في رئته الحرجة في سيناء، ويُقتل أبناؤه وجنوده بدم بارد، ليعمّ الأسى واليأس الناس والبيوت التي أرهقها، سلفا، الفقر والجهل وقلة الحيلة. ولا يكتفي الإخوان بالخيانات العظمى واجتماعات السراديب، بل يتجاوزونها، بقلة حياء بالغة، إلى المناداة بتجفيف منابع الحياة السياسية والاقتصادية الشحيحة التي شهدت شيئا من الاستقرار بعد رحيلهم. يُحذّرون علنا، وعبر شريط فيديو، بأنهم سيحرقون البلد. وعلى الأجانب أن يغادروا وعلى السياح أن يتوقفوا عن القدوم. وعلى شركات الاستثمار أن تقفل أبوابها وترحل، بينما على الدبلوماسيين ومندوبي الدول والمنظمات الأجنبية أن يغلقوا ممثلياتهم ويغادروا الأرض التي تريد جماعة الإخوان ومن والاهم، مع سبق التآمر والترصد، أن يغنوا على أطلالها كما غنى نيرون على أطلال روما وهي تحترق. وفيما تقود هذه الجماعة، غير السوية وغير الوطنية، مركب القتل والتخريب في العالم العربي، يتنقل ربابنة المراكب الفرعية والعهود الجديدة، خرّيجو مدارسها، بين عواصم العالم الأجنبية يتباحثون ويتفاوضون على أيّهم يحقق مغنما فئويا زائدا عن الآخر. والثمن دائما هو أرواح ودماء المواطنين المستضعفين، الذين حُشروا في هذه الزوايا المقيتة والمصير المعتّم بعد أن كانوا، عند ثورتهم على الديكتاتوريات، يمنون أنفسهم بالحرية والعدالة والعيش الكريم. لقد انتقل المواطن العربي في هذه البلدان، بأسرع مما كان متوقعا، من المطالبة بحرية التعبير وكِسرة الخبز، إلى تحسّس رقبته في كل مرة يخرج فيها من بيته باحثا عن رزق أطفاله. فقد المواطن الأمن والأمان الذي منّى نفسه به في ظل حكم أو أحكام الساعين بالسيف والبارود إلى (تطبيق الشريعة). ولا ندري أي شريعة يريدون تطبيقها إذا كانت خطواتهم الأولى على طريق التمكين ضاقت بقبور المقتولين وأنين الثكالى واليتامى والمحزونين. ما نحن فيه، دون مماحكات أو محاولات تجميل، هو شريعة لغابة عربية هائلة يقودها رجعيون أغبياء لا يعلمون ماذا يفعلون ولا ماذا يرتكبون في حق أوطانهم ومجتمعاتهم. بل حتى لا يعلمون أنهم، عاجلا أو آجلا، سيكونون وقودا لهذه الحرائق التي تذكي نارها مطامحهم السياسية التي باتت مكشوفة على الملأ. الوطن العربي، وهذا حدسي، دخل إلى نفق هائل مظلم لم يكن في حسبان أحد قبل أربع سنوات فقط. وهو سيظل داخل هذا النفق لسنوات طويلة قادمة ما دامت الإرادة العربية الصادقة لم تجتمع للتخلص من هذا الكابوس الذي يلف أشرطته السوداء حول رقاب الجميع بلا استثناء، حتى تلك الدول التي تظن أنها لا تزال تحتفظ بأمنها وسلامتها الاجتماعية. الحريق العربي، وليس الربيع العربي، هائل والرياح عاتية وتأتي من كل صوب، من خارج البلدان العربية ومن داخلها. ومن ظن من العرب أنه سينجو منفردا فهو يخطئ التقدير مرة ويخطئ مرات في عدم النظر إلى أبعد من أنفه وحدوده. ولذلك لا طريق هذه المرة، مهما كانت المسوّغات والمبررات، غير طريق التعاضد والتعاون العربي الكامل، ليس فقط ليعيش العرب بكرامة وسلامة، وإنما لكي يحفظوا وجودهم ذاته. أي أنّ تعاونهم هذه المرة ليس اختيارا، إلا إذا كانوا قد فقدوا غريزة حب البقاء.